الشعر العربي المعاصر في سورية
الدكتور نعيم اليافي
مقدمة...
من الصّعب على أيّ دارس أن يتناول موضوعاً واحداً ثلاث مرّات متتالية دون أن يقع في التكرار أو إعادة الإنتاج. لقد كلّفتني مؤسسة البابطين - مشكورةً - بالموضوع أوّل مرة, فكتبت من وجهة نظري عن (حركة الشعر الحديث في سورية ولبنان) منذ ولادته في القرن التاسع عشر حتى الوقت الحاضر, غير أن المؤسسة ردّته إليّ طالبةً الاختصار والحذف, فحذفت البداية كما حذفت النهاية وأبقيت على صلب الدراسة, فكان ثمة دراستان تختلفان في الكم, وربما في الكيف أيضاً, نشرت الموضوع كاملاً في كتابي (الشعر والتلقي), ونشرته مجتزءاً ضمن دراسات الجزء السادس من معجم البابطين للشعراء العرب المعاصرين. وكنت أثناء ذلك أو قبله قد كُلّفت في دمشق بكتابة دراسة عن مفهوم الحداثة العربية - الشعر السوري أنموذجاً - نُشرت في كتابي (أطياف الوجه الواحد).
وحين رغبت إليّ المؤسسة هذه المرة أن أعيد دراسة الموضوع بفصل المسارين عن بعضهما, أحتفظ بأحدهما (السوري) وأدع الآخر لغيري (اللبناني), اضطررت أن اعيد صياغة منهج البحث, وأن أتمسّك في الوقت نفسه بمنهجي النقدي أو الفني, لأنّ الأوّل يتعلّق بمتطلّبات المادّة, أما الثّاني فيتعلّق بالرؤية.
الحدّان المكاني والزماني لمجال البحث هنا هامّان, أقصد بالمكان سورية المعاصرة منذ أن حدّتها معاهدة سايكس بيكو, وأقصد بالزمان بدءاً من نهاية الحرب العالمية الأولى صعداً حتى أواخر القرن الحالي, وإذا كان الأول ثابتاً أو ساكناً فإن الثاني يتحرّك حركتين متداخلتين, الأولى وفق المفهوم المطلق, والثانية وفق المفهوم الفني, ولا بدّ للأوّل أن يؤثّر في الثاني سلباً أو إيجاباً, والعكس صحيح, وبتداخل المفهومين العام والخاص للزمن ينشأ مبدأ التطوّر, وبالتالي تتوالد الأجيال ويعقب بعضها بعضاً.
أحدّد الجيل زمنياً بعشر إلى خمس عشرة سنة, وفنياً بالتغيّر أو التحوّل الذي يطرأ على التقنيّة والبنية, ثباتاً أو نكوصاً أو تقدّماً. وقد وجدت نفسي ألوب حتى حصرت الزمانين بخمسة أجيال:
الجيل الأول - 1918 - 1934.
الجيل الثاني - 1935 - 1948.
الجيل الثالث - 1950 - 1967.
الجيل الرابع - 1967 - 1990.
الجيل الخامس - 1990 - .
وهذه الأجيال الفنيّة قد تتداخل أو يعدو بعضها على بعض, بيد أنّها تصلح عناوين مؤقتة لدراسة الظاهرة الشعريّة المعاصرة في سورية, وستختلف الوقفة عند كل جيل وفق أهميته ودوره في ميدان الشعر.
1 - الجيل الأول الــــــــرواد 1918 - 1934
حددنا بداية الشعر الحديث في سورية بالحرب العالمية الأولى وهذا التحديد لا يعني لدينا ربط الشعر بحدث تاريخي (خارجي) نجعله فيصلاً بين عهدين من عهود الشعر ومؤثراً فيه بقدر ما يعني ربطه بأحداث هامة (داخلية) تزامنت مع الحرب, قبلها وفي أثنائها وبعدها, وكانت هي الباعث أو البواعث على خلق هذا الشعر وعلى الانعطاف به في آن. من أهم هذه الأحداث: نتائج الصدام بين العرب والأتراك, ومشانق الشهداء, الثورة العربية الكبرى, اندحار الجيش العثماني وزوال السيطرة على المنطقة. إقامة الحكم العربي الأول, وقوع البلاد ثانية بين براثن الاستعمار الغربي للرجل الأبيض بعد الرجل المريض.. كل هذه الأحداث المتلاحقة والمصاحبة للحرب حرّضت الشعراء على قول الشعر وعلى الجهر به, وعلى صياغة جديدة تختلف عن صياغة عهد البواكير.
وكما كان الاحتلال الإنجليزي لمصر عام 1882 والثورة العرابية الشعبية والوطنية التي قامت ضده وضد عرش الخديو باعثين من بواعث نشأة الشعر الحديث ومفجرين له في أرض الكنانة, كذلك كانت أحداث بلاد الشام بواعث ومفجرات لهذه النشأة في أرض العرب المركزية, ومثلما عُدَّ البارودي رائد شعر البعث والإحياء هناك, نستطيع أن نعدّ جملةً من الشعراء روّاد هذا الشعر هنا, وروّاد المدرسة الاتباعيّة المحافظة التي قيّض لها أن تكون فاتحته أيضاً.
ومن الملاحظ أن معظم شعراء المدرسة في بلاد الشام وأرض الكنانة, وربما في بقية الأقطار العربية, قد عادوا إلى التراث وإلى فترته الشعرية الزاهية والألقة الممتدة من العصر الجاهلي حتى عصر المتنبي - لا إلى فترته الراكدة في أدب الدول المتتابعة كما فعل شعراء البواكير - ليستقوا منها ومن مكوناتها الفنية البنى الأساسية لقصائدهم وتصوراتهم ومفهوماتهم الشعرية على حد سواء, وتشير هذه العودة إلى الجذور, وتؤكد معاً, ثلاثة أمور على جانب كبير من الخطورة ومن الأهمية: أولها أن نهضتنا العربية كالنهضة الأوربية في القرنين الخامس عشر والسادس عشر, وككل نهضة تبدأ بالرجوع إلى الوراء واكتشاف الذات الجمعية من هذا الوراء للارتباط بآصل قِيَمِهِ, قيم التراث, وثانيها أن هذه العودة كانت أيامها موقفاً حضارياً على مستويين, مستوى المواجهة ورد الفعل إزاء العدو الغاصب والمستعمر الدخيل, ومستوى الاتصال بالهوية القومية للأمة وإعلان مبدأ الاستمرار الذي انقطع في عهود الانحطاط, وثالثها أن الشعر مثله مثل سائر الفنون, أكثر اتصالاً بوجدان الأمة وقيمها الروحية وإرادتها المرتبطة بالكينونة والمصير, منه بعقلها أو فكرها أو حاجاتها المادية.
بيد أن علينا ألاّ نغالي في ذلك لأن قضية العودة إلى التراث والارتباط به اختلفت زماناً بين عهدين, عهد البارودي في مصر, أواخر القرن الماضي, وعهد المدرسة المحافظة في بلاد الشام, أواخر العشر الثاني من هذا القرن وبينهما خمس وثلاثون سنة, كما اختلفت مكاناً تحدد بالمجتمع العربي السوري ومناخه العام. أشرح الفكرة فأقول: جاء البارودي أواخر القرن الماضي (ليبعث) الشعر التراثي و(يحييه) ويرد إلى أبناء جيله من الشعراء يقين القدرة على مجاراته, فارتقى بما كان ينظم أو يقال إلى رتبة عليا قلَّما ضاهاه فيها غيره من لداته الذين حاولوا جميعاً احتذاء القديم والنسج على منواله ووجدوا في المرصفي ناقداً قنن لهم وعبَّد طريق المجاراة وفجاجها, وحين أتى من بعده شعراء التقليد المحافظون من مدرسة شوقي وحافظ تأثروا بما فعله البارودي عامة, وتنكبوا بعضه خاصة, ولكنهم ظلوا في الحالين ضمن دائرة التراث, ولما جاءت أعوام الحرب العظمى تلفت الشعراء الرواد الشآميون الذين تأسَّوا مدرسة هؤلاء ليجدوا وراءهم أو أمامهم محاولات شعرية ممتدة تحاكي النماذج القديمة وتضارعها, ووجدوا إلى جانبها دعوات نظرية - على الأغلب - ترهص بها فئة من الدارسين والنقاد والشعراء (مدرسة مطران والديوان والمهجر) تدعو عكس ذلك إلى هجر التقليد ورفضه والتشبث بحياة العصر ذاتها ومواكبتها والتعبير عنها, ويظهر أنهم تأثروا بهذه المدرسة كما تأثروا بتلك, وإن كان تأثرهم بمدرسة التراث أبعد شأواً, لأنه تأثرٌ أصاب صميم النص في حين ظل تأثرهم بمدرسة الديوان يدور في نطاق القوة لا الفعل, ويؤكد هذا التأثر العميق إعجابهم جميعاً بشوقي ومحاولاتهم تقليده أولاً, وإعجابهم ثانياً بنماذج مختارة من شعر التراث ومحاولاتهم الدائبة مضاهاتها وإعادة إنتاجها.
هذا على مستوى الزمان والتطور, أما على مستوى المكان والبنية فإن مما لاشك فيه أن بعضاً من ملامح التباين في وجهات النظر الشعرية له مسوغاته يمكن أن نعثرعليه في سورية, ويتجلى في ثلاثة أمور: أوّلها, جانب المثاقفة ومبادلات التأثر والتأثير بين الأدبين العربي والغربي, وثانيها, مضمون الشعر, فقد استنفد النضال القومي والوطني في سورية أو استهلك أغلب هذا المضمون, وثالثها الاقتراب الخجول من تجارب تقنيات الشعر المتجددة بما تحمل من اندفاعات وممارسات جريئة, ولئن دل ذلك على أمر فإنما يدل على مبلغ التنوع الذي تتيحه ظروف الأقطار العربية للظاهرة الواحدة كي تتكامل وتتناسج خيوطها وتتعانق.
الشعراء الرواد في سورية كثر لعل أهمهم: محمد البزم (1887 - 1955) وخير الدين الزركلي (1893 - 1976) وخليل مردم (1895 - 1959) وشفيق جبري (1898 - 1980) ومحمد سليمان الأحمد (بدوي الجبل) (1904 - 1981) وعمر يحيى (1902 -1979) ومحمد الفراتي (1890 -1978).
وكما نرى فإن بعضهم يتقارب في العمر وبعضهم الآخر يتباعد, كذلك هم في ميدان الفن والتجربة الشعرية, مما دفع الدارسين إلى التخالف في تحديد مدارسهم, فتأرجح تصنيفهم بين تمثيل الرومانسية وتمثيل الكلاسية المتطورة, وهذا التخالف في النظرة أمر طبيعي لأن شاعر البداية أو النهاية, ومثله في ذلك الشاعر المتطور في رؤيته وأدواته, يمكن أن يحسب على هذه المدرسة أو تلك, وينسب إلى هذا التيار أو ذاك. والذي يحل الإشكالية مؤقتاً النزوع الفني العام للشاعر, وفترة استقطاب تجربته الشعرية, وهما الأساس المنهجي الذي أقمنا عليه دراستنا هذه. وأزعم أن هؤلاء الشعراء جميعاً - على اختلافهم وتباينهم - كانوا في المرحلة التي حددناها لهم زمانياً (1918 - 1934) وفنياً (الكلاسية الجديدة) يمثلون رواد حركة الشعر الحديث في سورية أفضل تمثيل وأبلغه.
ما الذي يجمع بين هؤلاء الشعراء, وماذا يميز تجاربهم الفنية واحدةً واحدة, وما الدور الذي أدوه في حركة الشعر الحديث, في تأسيس هذه الحركة أو تطويرها? أسئلة ثلاثة علينا أن نجيب عنها.
الذي يجمع بين هؤلاء الشعراء أمران: أحدهما يتعلق بالموضوعات, وثانيهما يتعلق بالصياغة, في نطاق الموضوعات نجد ثلاثة حقول تناولها شعرهم أو وقف عندها, هي المناسبات والنضال والتجارب الخاصة, نقصد بالمناسبات هنا غير ما نقصد في فترة البواكير, فإذا عنت هناك شعر التأريخ والتسلية والسمر والمنادمة فإنها تعني هنا الشعر المرتبط بحدث سياسي أو اجتماعي يتجاوز في أهميته وأثره حدود صاحبه ليقترن بمشاعر الأمة وأحاسيسها, فحين يموت قائد أو زعيم أو تمر ذكرى عظيم فالمناسبة تخرج عن إطار الخاص لتضحي في إطارها العام, وضمن هذا الفهم لشعر المناسبات فمن النادر جداً أن نجد شعراً ليست له (مناسبة) تكون الدافع لإنشائه, أو على الأقل تكون الحافز على إبرازه ونقله من الكمون إلى الظهور. ويبدو أن الفرق بين شعر مناسبة وأخرى ليس في المناسبة ذاتها - ما دمنا قد أقررنا بربط الشعر عامة بالمناسبات - وإنما بطريقة التعبير عن هذه المناسبات وبتحويل فحواها أو مغزاها من خصوصيتها التي تدور حول فرد أو حادثة إلى عموميتها التي تهم الأمة أو المجتمع. قد نقول إن المناسبة زائلة في حين يخلد الشعر, وهذا حق, وهو بالضبط ما نعنيه وما نفرق في ضوئه بين شعرين: شعر يزول بزوال المناسبة, وشعر يخلد بالمناسبة ويخلِّد المناسبة, ومن يتصفح دواوين الشعراء الرواد يكاد لا يعثر على قصيدة من دون مناسبة, بل لعلنا نقول ماهو أكثر, نكاد لا نجد مناسبة إلا وقد قيل فيها الشعر الكثير.
في شعر النضال القومي والوطني, أو ما أطلق عليه قديماً شعر الحماسة, وحديثاً الشعر السياسي, بلغ الشعراء السوريون الذروة في الكم كما في الكيف, وحق لهم ذلك, فقد كانت البلاد تمر في فترة عصيبة لاقت فيها الأمرَّين.. مرة تحت نير الحكم التركي الذي لم يخلف لديها بعد انسحابه سوى الجراحات والأحزان والشهداء, ومرة تحت نير الانتداب الفرنسي الذي مد ظله الكئيب على سورية, وعانى منه الشعب كل أنواع الظلم والاضطهاد, ولم يهنأ العرب بين الاستعمارين بسوى فترة قصيرة من الزمان استردوا فيها بعض أنفاسهم أو كادوا, إلا أنهم مالبثوا أن عادوا إلى عسف البغي وقهر الطغيان, يكتوون بنار المحتل, ويذوقون صنوف عذاباته, ويشربون حتى الثمالة كؤوس الصاب والعلقم.
ورافق الشعر السوري هذه الأحداث, وكان صدى لها وصورة صادقة أو مرآة عكست بكل أمانة واقع معاناة الفرد ومعاناة الأمة على الأرض وفي النفوس, كان سيد الأجناس الأدبية والناطق الوحيد الرسمي والشعبي عن الثورات والانتفاضات, والمآتم والمواكب, الأفراح والأتراح, الظلمات والأنوار, الكوابيس والأماني والأحلام, كان منشور الصدام والتحدي, يعبر عن الحق في الحياة مثلما يعبر عن الشهادة في سبيل هذا الحق, كان شعراً يربط الفرد بالأمة, ويربط الاثنين بالتاريخ والجغرافية, بآنات الزمان, الماضي والحاضر والمستقبل, يتوحد الجميع من أجل القضية والإنسان, من هنا قلت إنه شعر الوجود, الوجود الوطني والقومي للفرد وللأمة, في الزمان وفي المكان.
مع حقل التجارب الخاصة - الجانب الثالث من جوانب الموضوعات - فإن الحكم على الظاهرة الشعرية يختلف رصداً ونتيجة, فمن المعروف أن الشعر أكثر التصاقاً وتعبيراً عن الإنسان ومشاعره وتجاربه وخصوصيته, كان ذلك منذ القديم وسيظل إلى أبد الآبدين, ولكنّ هذا التعبير عن الخاص يظهر أو يحتجب على الساحة الأدبية والاجتماعية في ضوء ظروف عدّة منها الحساسية العامة للفترة وتوجهاتها, انضواء الشاعر تحت لواء هذا التيار أو ذاك, وإيمانه بهذه القضية أو تلك. صحيح أن كل شاعر يتطور ويمر بمراحل مختلفة من الحياة ومن الفن, ولكنه يبقى مشدوداً ومحسوباً على الإطار العام لفترته ولرؤيته, - أو لنقل لحساسيته - ومن هذه الزاوية أعتقد أن شعر التجارب الخاصة في فترة الرواد كان يتوارى إلى منطقة الظل ثلاث مرات, مرة لأنه تعبير عن مرحلة محدودة من حياة الشاعر: هي مرحلة اليفاعة والصبا وغالباً ما يحاول نسيانها, ومرة لأنه تعبير عن لحظات زمانية تمثل استراحة المحارب وسط بيداء الحياة كثيراً ما يسعى إلى تجاهلها, أو يستحي من الإعلان عنها, ومرة لأنه تعبير عن نسق من الرؤية أو موقف يعيشه الشاعر في الفن وفي الحياة إلا أنه في كلا المجالين لا تتاح له الظروف حتى يفصح عنه ويبين, وبالتالي فإن شعر التجارب الخاصة وفي مقدمتها شعر الحب بأي معنى من معانيه لم يصبح هماً يكابده الشاعر ويعلن عنه إلا في مرحلة لاحقة حين أضحى الإحساس الداخلي دافعاً خارجياً, تدعمه وتؤكده, تزكّيه وتحميه فلسفة التيار الرومانسي.
0 comments: