«جمع القرآن الكريم بدعة وطباعته حرام وإذاعته مشكوك في أمرها».. صدمات متلاحقة ربما تلخص 3 أزمات واجهت القرآن الكريم مع كل تطور جديد لخدمة الكتاب المشرف في كل عصر جمعا أو طباعة أو بثا عبر أثير الراديو.
ثلاث مراحل دونها التاريخ في حفظ كلمات القرآن الكريم، لتواجه كل فكرة حول حفظه ونشره في الأقطار بعاصفة يمحوها الود والإقناع بخطر الواقع تارة، وقرار جريء وسط جمهرة من العلماء أجمعوا على تحريمها تارة أخرى، وبين هذا وذاك تأتي الفكرة الأخيرة ليبدد فيها مخاوف الوقوع في الحرام شيخ الأزهر، وتنطلق الإذاعة المصرية بـ«إنا فتحنا لك فتحا مبينا».. آية من القرآن.
كلمة «قرآن»، أصلها «القرء» بمعنى الجمع والضم، فيقال: «قرأت الماء في الحوض»، فسمى القرآن قرآناً لأنه يجمع الآيات والسور ويضم بعضها إلى بعض، وهو -حسب ما اصطلح في تعريفه- «كلام الله تعالى المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم للبيان والإعجاز، المجموع بين دفتي المصحف، المتعبد بتلاوته المنقول بالتواتر جيلاً بعد جيل».
«العسب، اللخاف، الرقاع، الأضلاع، الأكتاف، قطع الأديم، القضم، الظرر، القراطيس، الصحف، الكرانيف».. كل تلك أدوات استخدمت في توثيق كلمات القرآن الكريم وحفظها من لسان أمين الوحي جبريل «عليه السلام» إلى صدر النبي صلى الله عليه وسلم إلى كَتَبَة اختصوا بتلك المهمة المقدسة بتوجيهات نبوية، فلم ينتقل الرسول إلى الرفيق الأعلى إلا وقد دون المصحف كاملا على تلك الأدوات.
المواجهة الأولى.. بدعة خاض عمر بن الخطاب أمام أبي بكر الصديق، المواجهة الأولى بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، بنحو عام واحد في السنة الثانية عشر من الهجرة، حينها استشعر خطر ضياع القرآن لتفرقه مدونا على الرقاع أو محفوظا في صدور الصحابة، وزاد هذا الخطر واستشرى الخوف من ضياع القرآن أو بعضها بموت عشرات القراء والحفظة من الصحابة في الغزوات الإسلامية.
اختمرت الفكرة في عقل «ابن الخطاب»؛ لكنه لا يملك شيئا سوى عرض الأمر على أبي بكر الصديق الخليفة الأول للنبي، ذهب إليه وقال: «إني أرى أن تأمر بجمع القرآن»، كان العرض مفاجئا لـ«الصديق» الذي صده متعجبا: «كيف تفعلُ شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟» احتدم الأمر وصار فيه أخذ ورد بين أكبر صحابيين، لينتهي بقول أبي بكر: «رأيتُ في ذلك الذي رأى عمر».
الطباعة حرام.. والعقوبة الإعدام
الزمان لا تتوقف عقاربه، تسابقه بعض الأمم تارة، وتساويه أخرى، ويتخلف عنه الكثيرون، هذه المرة كانت المواجهة حامية، تدخل فيها السلطان العثماني ليقف خلفه علماء الدين حينها، ويحرم الأمة الإسلامية من طباعة المصحف الشريف نحو أكثر من 200 عام، «فطباعة القرآن الكريم حرام، وطابعها كافر، والعقوبة الإعدام»، هكذا كانت أجواء الفكرة في القرن الخامس عشر الميلادي.
بعد نحو 10 قرون من جمع المصحف في عهد أبي بكر الصديق، واجهت فكرة طباعة المصحف أزمة كبرى بعد اختراع الألماني كوتنبرج الآلة الطابعة عام 1455م، البعض عرض على بازيد الثاني ثامن سلاطين الدولة العثمانية الفكرة، ليواجهها بغضب عارم، ووقف خلفه معظم علماء الدين، فأصدر فرمانا بتحريم طباعة المصحف والموت عقوبة فاعله، بحجة الخوف من تحريف كتاب الله.
شيوخ الأزهر على خط الأزمة
عادت فكرة طبع القرآن الكريم من جديد في عهد محمد على باشا حاكم مصر عام 1819، لتتجدد المعارضة من علماء الأزهر بمقتضى فتوى تحريم، كانت حجتهم فيها أن مواد الطباعة منافية للطهارة، وعدم جواز ضغط آيات الله بالآلات الحديدية، واحتمال وقوع خطأ في طبع القرآن، إضافة إلى أن آلة الطباعة ستكون بديلا لآلاف الناسخين الذين ستضيع أرزاقهم مع انتشارها.
تحايل «محمد علي» والي مصر على فتوى التحريم، ففي عام 1832 أمر بطبع أجزاء من المصحف لتلاميذ المدارس، ثم أمر مدير مطبعة بولاق بطبع المصحف، لتكون كل نسخة ممهورة بخاتم الشيخ التميمي مفتي الديار المصرية، حتى يكون بيعه وتداوله أمراً مشروعاً، ومنذ ذلك الحين خرج أول مصحف مصري مطبوع، وخصص جزءاً من مطبعة بولاق عُرف باسم مطبعة المصحف الشريف.
من الطباعة إلى الإذاعة.. حرام
تجددت الأزمة بعد نحو 124 عامًا مع وسائل نشر المصحف الشريف بين الناس؛ لكن تخف الوطأة وتتجلى الفكرة، وتتفتح العقول مع متطلبات العصر، من التحريم إلى مجرد الخوف من الوقوع في المكروه أو الحرام؛ حيث كانت المواجهة الثالثة التي تصدر صاحبها وهو من نسل الأسرة العلوية في مصر «البرنس محمد علي» الواصي على عرش مصر بعد وفاة عمه الملك فؤاد.
خرجت الفكرة من أحد المآتم التي اجتمع فيها «قيثارة السماء»- كما يُلقب الشيخ محمد رفعت- قارئًا للقرآن والبرنس محمد علي مستمعًا، الأخير كسر صمت الاستماع إلى الشيخ بعد انتهاء التلاوة بقصائد ثناء على صوت وصفه بـ«الحلو»، هنا تأتي بداية مرحلة جديدة لتعبر كلمات القرآن الكريم آلاف الأميال وتعبر القارات والحضارات والثقافات في ثواني ولحظات معدودة مع بث القرآن عبر الأثير.
طلب الواصي على عرش مصر من الشيخ محمد رفعت أن يفتتح الإذاعة المصرية بصوته قارئًا ما تيسر من كتاب الله، لكن الطلب قوبل بالرفض خوفا من الوقوع في المكروه أو الحرام، الرد كان برسالة ثائرة فحواها «إن كلام الله وقار نزل من السماء لا تليق بمقامه أن تذاع إلى جانبه الأغاني الخليعة التي تقدمها الإذاعة»، ليبدأ الشيخ الراحل رحلة من التقصي والتحري علَّه يجد فتوى تجيز الأمر.
لم يترك «قيثارة السماء» بابا للفتوى إلا طرقه، ففي عام 1934 ذهب إلى الشيخ السمالوطي أحد أعضاء هيئة كبار العلماء حينها، ليقول له، «إنهم أنشأوا إذاعة يريدوننى أن أقرأ القرآن فيها وقد قلت لهم إن القرآن لم يخلق ليرتل أمام الميكروفونات الصماء»، ليرد الأخير: «إن قراءة القرآن حلال في الإذاعة»، ألح الشيخ رفعت في سؤاله كأنه لم يسترح قلبه للإجابة و«السمالوطي» يؤكد أنه حلال.
شيخ الأزهر يحسم الجدل
حاول «رفعت» إقناع «السمالوطي» بأنه أمر مشكوك فيه وربما حرام، فيقول: «إنه سيقرأ القرآن والناس سيستمعون إليه في المقاهى والحانات وصالات القمار»، فقال له السمالوطي: «أنت ستتلو القرآن في مكان طاهر.. أليس كذلك؟ فلا تخش شيئا»، وبعد ذلك لم يقتنع الشيخ المقرئ، وظل على موقفه أن قراءة القرآن الكريم في الإذاعة حرام.
الأمر لا يزال يرواد «صوت السماء» كما يلقبه محبوه، فكان كما تصفه حفيدته «هناء رفعت»: «يمتلك ضميراً لا تأخذه سنة واحدة»، فذهب إلى شيخ الأزهر نفسه الشيخ محمد الأحمدي الظواهري ليفاجأ بقوله: «أعرف ما جئت تسأل عنه يا شيخ رفعت، وتعال معي وأمسك بيده وجعله يتحسس جهاز الراديو ويردد: أجل يا شيخ رفعت لقد جئت به لأستمع لك».
القرآن عبر الأثير
يبدو هنا أن شيخ الأزهر الأسبق الثالث والثلاثون كان أحد الجنود المجهولة في سطوع وشهرة الشيخ محمد رفعت بل وبداية إذاعة القرآن الكريم عبر أثير الراديو ليعبر في ثوان معدودة القارات، ويردد وراءه آلاف ملايين المسلمين كلمات الله، فتوجه الشيخ رفعت إلى الإذاعة، وأخيرا صدح صوته لتفتتح الإذاعة المصرية حينها بقوله تعالى عام 1934: «إنا فتحنا لك فتحا مبينا».
محطات الجمود مع تطورات العصر لا تنتهي، حتى أصبحت سنة مع كل جديد يطفو على سطح العصور، خاصة مع القرآن الكريم بل وكل أمر مقدس، خوفا من الوقوع في البدعة أو الخوض في الحرام، تجارب كثيرة نجاحها وخدمتها للأديان أقنعت مانعيها أنهم كان يقفون ضد التيار، لكن كان أبرزها جمع وطباعة وإذاعة القرآن الكريم.