آخر الأخبار

18‏/11‏/2018

الخيانة والفساد على فراش الحكام العرب

زعماء وعملاء
الخيانة والفساد على فراش الحكام العرب
مجرد ملاحظة
يحاول الحاكم العربي ـ أي حاكم عربي ـ أن يصدر نفسه لأبناء شعبه على أنه راعيهم وحامي حماهم، فهو يحافظ على مصالحهم ويرعى شؤونهم، لا حاجة لأن يعملوا فهو يعمل بالنيابة عنهم، ولا حاجة لأن يفكروا فهو يفكر بالنيابة عنهم، ولا يتم هذا كله لوجه الله، ففي النهاية تصبح الشعوب العربية لا حاجة لديها لأن تربح، لأن الحاكم يربح بالنيابة عنها، ولذلك كله فنحن نسرق دون أن نعترض، تسلب حقوقنا أمام عيوننا دون أن ننطق، وهذا أمر طبيعي للغاية، فما دمنا تنازلنا عن حقوقنا، فنحن نستاهل كل ما يجري لنا.



مقدمة هزلية جداً
نكت على فراش الحكام العرب
لم يقل أعظم الساخرين في تاريخ العرب نكتة أشد ألما وأعمق مرارة، من النكتة التي رأيناها جميعا في اللحظة التي سقط فيها تمثال صدام حسين في ميدان الفردوس في وسط بغداد، كان المشهد عبثياً حتى الثمالة.. جعل كل الذين حاولوا أن يتحدثوا بجدية عن تفاصيل ما جرى سخفاء دمهم ثقيل.. أبطال من ورق.. وكان لابد أن تخرج السخرية العربية اللاذعة من قبوها الذي حوصرت فيه ووقف على بابها الجلادون العرب بسياطهم التي لا ترحم.
لم ينتظر كتاب النكتة العربية ان تهزم العراق حتى يخرج عن قذائفه الساخرة، بل إنه تنبه مبكراً لنظام صدام حسين الديكتاتوري.
جمع الرئيس العراقي صدام حسين مجلس قيادة الثورة وقال لهم: إنه اكتشف مؤامرة ضده يقودها واحد من الجالسين أمامه يبدأ اسمه بحرف الطاء وكان بين الأعضاء ثلاثة تبدأ أسماؤهم بحرف الطاء هم طارق عزيز وطه ياسين رمضان وطه محيي الدين لكن هؤلاء الثلاثة بقوا في أماكنهم ثابتين لهم يهتزوا.. الذي اهتز وارتعش عضو في المجلس لا يبدأ اسمه بحرف الطاء بل لا يوجد الحرف في اسمه على الإطلاق فسأله صدام حسين: لماذا أنت خائف رغم أن اسمك لا يبدأ بحرف الطاء، فرد المسؤول العراقي قائلاً: أعرف ذلك ولكنك تناديني دائماً لقب طرطور.
ولأن القهر كان قد تمكن من الشعب العراقي وأصبح القمع هو القانون السائد.. فقد سخرت النكتة العربية ليس من النظام العراقي هذه المرة لكنها أخذت في طريقها الجوع السوداني والفقر المصري.
سألوا مصرياً وعراقياً وسودانياً عن رأيهم في أكل اللحمة؟ فرد السوداني: يعني إيه أكل وقال المصري: يعني إيه لحمة.. أما العراقي فتلفت حوله ثم قال: يعني إيه رأي.
قبل حرب العراق التي جاءت على الأخضر واليابس كان موقف الحكام العرب صادماً للجميع بدا الجميع مسلوبي الارادة غير قادرين حتى على التصريح بالرفض.. ولذلك اقتربت النكتة من أثوابهم وأشعلت فيهم النار ولم تدع أحداً ليطفئها.
القذافي قرر يجوز ابنه الساعدي.. وفي ليلة الفرح أطلق صواريخ نووية في الفضاء الخارجي، فهو رغم أنه لا يكف عن الكلام والتصريحات لم نر منه شيئاً حتى الآن سوى صواريخ الكلام ولذلك جاءت السخرية في مكانها المضبوط.
ياسر عرفات كان عند مرمى النيران.. استدعاه الرئيس الأمريكي بوش إلى البيت الأبيض وقال له: يا باخد الأقصى لشارون يا بـ(..) وبعد دقائق خرج عرفات من البيت الأبيض وهو يرفع بنطلونه قائلاً: قال عايز يأخذ الأقصى مننا قال.
لم يكن حكام الخليج بعيدين عن السخرية اللاذعة بعد أن وقفوا مكتوفي الأيدي ولم يمنحوا شعب العراق سوى أدعيتهم التي من المؤكد أنها لم تصل إلى السماء.
أحد حكام الخليج ذهب إلى مكتب العمل بعد أن خرج بيل كلينتون من البيت الأبيض وطلب أن يغير الكفيل من كلينتون إلى الرئيس الأمريكي الجديد جورج بوش الصغير.
قالت النكتة رأيها بصراحة فالشعوب لا تحب حكامها ولا ترحب بهم ولا تفتح لهم ذراعيها بل تدعو عليهم كل صباح وترجو من الله أن يستجيب لدعائها:
* حاكم عربي وجد مصباح علاء الدين ولما خرج له العفريت قال له الحاكم: عاوزك ترجع لي أبويا اللي مات من عشر سنين فقال له العفريت هذا صعب جداً فقال له الحاكم طيب أنا عاوز أكون حاكم محبوب كل الشعب يسبح بحمدي رد عليه العفريت ساخراً: لا أجيب لك أبوك أسهل.
لا تثق الشعوب في حكامها فهم يعرفون أن الحاكم عندما ينظر في المرآة لا يرى سوى نفسه وأن كلامه عن مصالح شعبه واهتمامه بهم مجرد كلام فارغ للاستهلاك المحلي ليس إلا ولا يختلف الوضع في أخطر القضايا وأهونها.
*زعيم عربي رسم وشما على ذراعه يصور خريطة فلسطين المحتلة فلما سئل عن السبب قال: حتى لا أنسى. قالوا له: لكن ماذا ستفعل لو تحررت فلسطين والوشم لا يمحى فقال ببساطة: أقطع ذراعي: ولم ينس صانعوا النكتة أصحاب الشعارات الضخمة، علي عبد الله الصالح الرئيس اليمني لا يكف عن التصريحات التي يستعرض من خلالها عضلاته هو أكثر الرؤساء العرب حديثاً عن ضرورة الحرب والضرب.. رغم أنه لا يفعل أي شيء إيجابي يؤكد كلامه ولذلك فهو لم يسلم.
جلس علي عبد الله صالح يناقش مع أحد وزرائه المشكلات الاقتصادية الرهيبة التي تواجه اليمن فقال له الوزير: عندي حل مذهل.
رد صالح: قل بسرعة.
قال الوزير: علينا أن نعلن الحرب على الولايات المتحدة وبعد أن نخسر الحرب سوف ينفق الأمريكيون آلاف الملايين لتعمير بلادنا تماماً كما فعلوا في ألمانيا واليابان ويفعلون الآن في العراق هز علي عبد الله صالح رأسه وقال للوزير وماذا نفعل لو انتصرنا على الأمريكان.
عنف الحكام العرب وسطوتهم وبطشهم بمعارضيهم أفرز بدوره نكتا لاذعة ولأن صدام حسين كان الأكثر بطشاً أو هذا الذي نتفق عليه الآن بعد أن زادت فضائحه وفضائح نظامه فقد ألحقت به معظم النكت التي تتحدث عن العنف والبطش.
طارد رجال الأمن العراقيون لصاً فخاف أن يقتلوه اعتقاداً منهم أنه ليس بعثياً فأخذ الحرامي يصيح قائلاً أنا حرامي.. والله العظيم حرامي.
الغريب أن هذه النكتة نفسها قيلت في العراق أيام عبد الكريم قاسم وبدلاً من أن يطارد رجال الأمن الرجل على أنه ليس بعثياً طاردوه على أنه بعثي لكن الثابت في كل مرة أن المواطن العراقي كان يصرخ في المرتين بأنه حرامي فأن تكون لصاً في بلد عربي أهون بكثير من أن تكون معارضاً للنظام وتجهر بذلك.
القهر ليس سياسياً في الدول العربية فقط.. فالقحط الذي يعيشه السودانيون والجوع الذي لاقوه لم يدفعهم إلى الثورة ولكن دفعهم إلى التنكيت:
(أضرب العمال السودانيون فاجتمع بهم الرئيس عمر البشير لمعرفة شكواهم قالوا له: فيه أزمة في كل حاجة.. ما في زيت ولا سكر ولا لحم.. سلع في السوق ما في، قال لهم ومطالبكم إيه، فقالوا له زيادة الأجور.. فرد عليهم ساخراً وبتعملوا بيها آيه.
حالة الضنك هذه التي يعيشها المواطنون العرب جعلتهم يتمنون الخلاص من حكامهم بأية طريقة حتى ولو صلبوا.
* أحد رجال الأمن السريين اقترب من بائع صور يفرش بضاعته على أرض أحد الميادين العربية وسأله:
ـ بكم صورة السيد المسيح هذه؟
ـ بخمس ليرات.
ـ وبكم صورة رئيسنا المحبوب؟
ـ بنصف ليرة.
ـ هل هذه معقولة تبيع صورة المسيح بخمس ليرات وصورة الرئيس القائد بنصف ليرة.
ـ فقال البائع غاضباً: أصلبوه وأنا أبيع صورته بخمسين ليرة.
لم يترك الشعب المصري أحدا إلا وجرحه بالنكتة حتى الذين أحبهم.. لم يفرق في ذلك بين جمال عبد الناصر وأنور السادات. بين فيفي عبده والشيخ الشعراوي، بين هزيمة 1967، وانتصار 1973، وهو ما جعل عبد الناصر نفسه يتوتر، فبعد أن أعلن أنه سيتنحى ألهبه الشعب المصري بالنكتة للدرجة التي دفعته لأن يطلب من المصريين أن يخففوا من التنكيت، وكما سجل أنيس منصور في كتابه (عبد الناصر المفترى عليه والمفترى علينا)، فإن عبد الناصر قال: احنا من غير ما نعرف بنسمع الإذاعات ونرددها. ونقول مفيش فايدة، الشعب المصري يسمع أي حاجة وينكت عليه، تعرفوا موجة النكت التي طلعت في الأيام اللي فاتت.. أنا عارف شعبنا. شعبنا طبيعته كده، وأنا لم أخذ الموضوع بطريقة جدية وعارف الشعب المصري كويس، ما هو أنا منه وأتربيت فيه، كل واحد يقابل واحد يقول له سمعت آخر نكتة ويحكى.
وكأن عبد الناصر أعطى تصريحا للشعب المصري، لأن ينكت عليه وعلى كل ما يقابله، ولذا مرمطت النكتة برجال المرحلة الناصرية الأرض.
* عبد الحكيم عامر قال لشمس بدران: مدير مكتبي ده شخص غبي! فقال له شمس إزاي؟ اشار له عبد الحكيم قائلاً استنى.. واستدعى مدير مكتبه وقال له : روح بيتي شفني هناك أو لا، فخرج الضابط وغادر المبنى وبعد فترة عاد ليقول للمشير للأسف يا فندم سيادتك مش في البيت، ثم أدى التحية وانصرف فالتفت إلى شمس بدران قائلاً: مش قلت لك إنه غبي.. كان ممكن يوفر المشوار ويسأل عني في البيت بالتليفون.
وقيل: ثلاثة لا يدخلون الجنة، شمس بدران، وعبد الحكيم بن عامر وجمال عبد الناصر، الأول ترك الجيش بدون عدة والثاني مات حبا في وردة، والثالث تنحى وقت الشدة.
ـ عبد الناصر كان يلقي خطاباً عندما عطس أحد الحاضرين فتوقف قليلاً وسأل: مين عطس؟ فلم يرد أحد فأمر بإطلاق النار على الجالسين في الصف الأول وسأل: مين عطس، فلم يرد أحد فأطلق النار على الصف الثاني وسأل: مين عطس، فرفع رجل اصبعه وهو يهب واقفاً وقال: أنا يا ريس، فرد الرئيس يرحمكم الله.
ـ التقى صديقان أيام عبد الناصر فبادر احدهما الآخر: هل علمت أن فلانا خلع ضرسه من أنفه، فرد عليه ولماذا لم يخلعه من فمه؟ فقال له هو حد يقدر يفتح فمه.
ـ عثر على تمثال احتار علماء الآثار في تحديد أصله، فاقترح جمال عبد الناصر إرساله إلى المخابرات لكشف غموضه، وبعد ساعات قالوا له: لقد تأكدنا أنه تمثال رمسيس الثاني، فقال لهم كيف، فقالوا اعترف بنفسه يا فندم.
ـ سأل رجل عجوز أحد الشباب، إيه رأيك في الثورة، فأجابه: الثورة.. الله يا سلام؟ فرد الرجل العجوز للدرجة دي بتحب الثورة! فقال له الشاب بسرعة: طبعاً دا أنا من كتر حبي في الثورة نفسي في ثورة ثانية.
وهذه النكتة مسجلة باسم عبد الحميد جودة السحار الكاتب الروائي تقول: إن رجلاً كان يشتري صحيفة كل يوم، ثم ما يكاد ينظر في الصفحة الأولى حتى يرميها على طوال ذراعه، فسألوه: بتعمل كده ليه، فيقول: كفاية إني قريت الوفيات، فيردوا عليه، بس الوفيات مش في الصفحة الأولى، فقال لهم: اللي مستني وفاته، حيموت في الصحفة الاولى.
ربطت النكتة بين عبد الناصر والسادات.. وكأنها كانت تريد أن تنتقل من الأول إلى الثاني بنعومة. وقد يكون الكاتب الساخر محمود السعدني له دور كبير في ذلك، فقد لخص الموقف كله في عبارة واحدة. عبد الناصر موتنا من الرعب والسادات حيموتنا من الضحك، الربط كان بهذه النكتة.
ـ جاء عبد الناصر للسادات في المنام وقال له: يا أنور، فرد عليه أفندم ياريس، فقال له إنت بتقول إنك عملت تنظيم الضباط الأحرار ماشي، وبتقول إنك اللي ما عملت الثورة ماشي، وبتقول أنك الوحيد اللي حاربت الفساد ماشي، لكن قل لي بذمتك أنت كنت تقدر تقول يا جمال.. كده حاف؟.
هذه النكتة سارت على هديها نكت أخرى كثيرة.. تشير إلى أن السادات لم يكن يقول لعبد الناصر إلا حضرتك وسيادتك.. لدرجة أنه حضر معه حفلاً لأم كلثوم.. ولما سأله عبد الناصر عن الأغنية التي ستغنيها ثومه فقال له السادات: حضرتك الحب يا أفندم، في إشارة إلى أغنية أنت الحب!
أطلق المصريون كما هائلاً من النكت على السادات، لكن النكت التي طاردته لم تؤثر فيه، ولم يكن قادراً على حل شفرتها وفهم معانيها، ومن ثم كان لابد أن يستعمل الناس أسلوباً آخر كي يفهم وكان هذا الأسلوب على النقيض وهو المظاهرات.
ولأن المصريين لم يرحموا حكامهم من التنكيت عليهم حتى الذين أحبوهم منهم، فأنهم لم يتركوا أحد من الحكام العرب في حاله، وكانت حرب العراق التي كشفت عورات الجميع فرصة لهم ليمارسوا هواياتهم المفضلة، لكن المفاجأة أن الناس كادوا يفقدون قدرتهم على السخرية.. النكت خرجت باهتة بلا لون ولا طعم ولا رائحة، حتى رسوم الكاريكاتير التي نشرتها الصحف العربية والمصرية.. عكست مزاجاً مضطربا.. فيبدو أن الألم كان أكبر من الاحتمال.. ولذلك لم يستطع أحد أن يسخر منه بحرارة.. فخرجت النكت بطعم العبث ونكهة العدمية.
إنني لا أتفق مع الذين يقولون إن النكتة سلاح قوى ومؤثر.. فهي دليل العجزة الذين لا يستطيعون الفعل فيكتفون بالكلام، صحيح أن النكت أرقت الحكام العرب، وأقلقت منامهم، وأقتحمتهم حتى وصلت إلى فراشهم ومخادع نومهم... لكن ماذا حدث.. مازالوا قابعين على صدورنا.. ويبدو أنهم سيظلون على هذا ـ لا مؤاخذة ـ الوضع كثيراً..

* * *
مقدمة جادة جداً
قرارات السيد الرئيس
في فيلم (ناصر56) صاغ محفوظ عبد الرحمن عدة مشاهد متلاحقة لجمال عبد الناصر وهو يصنع قرار تأميم القناة، قراءات في التاريخ والجغرافيا، مطالعة خرائط ومناقشة مثقفين وصحفيين وعلماء ورجال سياسة ومسؤولين في هيئة القناة ودراسة للأوضاع العالمية، ثم في النهاية أخذ ناصر القرار وأعلنه بتحد وثقة.
وفي فيلم (أيام السادات) رأينا كيف كان السادات يصنع قراراته، فهو يعلن قراره الخطير بسفره إلى إسرائيل على أعضاء مجلس الشعب، وكان هو الوحيد الذي عرف القرار، لم يستشير أحداً ولم يخبر أحداً، أنفرد بالتفكير والتخطيط وأخذ القرار وحده.. وأعلنه وحده.. وتحمل نتيجته في النهاية وحده..
وعندما سأل مكرم محمد أحمد الرئيس مبارك في الحوار الطويل الذي نشرته مجلة (المصور) قال له: سيادة الرئيس: بعض الأقباط كانوا يتعجلون صدور قرار إداري بغلق النبأ، رد الرئيس قائلاً: عندما أتصل بي د. يوسف والى يسال عن إمكان صدور قرار عسكري بوقف الصحيفة طلبت منه أن يتشاور مع رئيس الوزراء الذي كان موجوداً في الأقصر وقتها، وصرح هناك بأن الحكومة تفكر في إصدار قرار بإغلاق الصحيفة، لكنني رأيت أن صدور القرار سوف يكون سابقة خطيرة خصوصاً أن القرار سوف يصدر يوم الأربعاء، على حين تحدد يوم الأحد لنظر قضية صحيفة النبأ على وجه الاستعجال، كانت الحكمة تقضي بأن ننتظر قرار المحكمة ما دامت المحكمة تنظر القضية في جلسة مستعجلة.
معنى هذا أنه كما لكل شيخ طريقة فإن لكل رئيس طريقة في اتخاذ القرار، والسؤال المنطقي هو: لماذا يختلف كل رئيس عن الآخر في طريقة اتخاذه للقرار والمفروض أنها دولة واحدة؟ الدراما لا تستطيع أن تجيب عن هذا السؤال فهي تجسد ما حدث فقط... ولأنه ليس بالدراما وحدها يحيا الإنسان، فإننا سنعتمد على دراسة علمية بحثت ونقبت ووصلت في النهاية إلى الفروق بين ناصر والسادات ومبارك في طريقة وصول كل منهم لقراره.
الدراسة يقدمها د. صلاح بيومي استاذ الاجتماع السياسي بجامعة طنط.
يعرف د. صلاح صنع القرار بأنه العملية التي تفترض أو تواجه فعلا مشكلة أو أزمة ما تتطلب قرارا ما، ويتم طرح مجموعة من البدائل لاختيار أحدها باعتباره الأنسب أو الأكثر ملاءمة للحل أو العلاج، ومن ثم يتم وضع هذا القرار موضع التنفيذ، دراسة د. صلاح تضع لنا مدخلاً مناسبا لنعرف كيف كان كل رئيس من الثلاثة يأخذ قراره. فهو يرى ضرورة أن ندرس البيئة النفسية والاجتماعية لصانع القرار لمعرفة أثر التنشئة الاجتماعية والثقافية وأثر سمات شخصيته على محتوى القرارات التي يتخذها.
بهذا المدخل نستطيع أن نعبر إلى الرؤساء الثلاثة..
فعبد الناصر كان ينتمي إلى أسرة ريفية صعيدية من الطبقة الوسطى وعايش أفراد هذه الطبقة خلال تنقله مع والده موظف البريد بين مدن مصر المختلفة، اشترك جمال في المظاهرات ضد الاحتلال في شبابه يؤكد بذلك انتماءه وحبه لوطنه، وتعلم دروس الوطنية الأولى على يد عمه خليل الذي شارك في ثورة 1919 وسجن بسبب ذلك، انخرط جمال في سلك الجندية وأصبح ضابطاً واشترك في حرب 1948 فزادته خبرة وحنكة، كما زادته إيماناً وولاء لوطنه، وفي ذات الوقت كرها لنظام الحكم القائم وسيطرة الاحتلال الإنجليزي.
كان لابد لجمال أن يستجيب لظروف عصره فكون تنظيم الضباط الأحرار ليخلص وطنه من فساد الحكم وطرد المستعمر الأجنبي وتغيير المجتمع لصالح الطبقات الاجتماعية الكادحة التي نشأ وتربى بينها، وقد حقق ذلك عن طريق الثورة.
لقد قرأ عبد الناصر كتب التاريخ والسياسة والاقتصاد، كما قرأ سير الشخصيات التاريخية الكبيرة الأجنبية والوطنية وتأثر بكثير منها، وقد أكد ذلك الكثير من الشخصيات التي عرفته عن قرب وكذلك معظم الكتاب والسياسيين الذين كتبوا عنه، ولعل في ذلك دليلاً على عدم دراية بعض الذين أدعوا ان عبد الناصر لم يقرأ التاريخ من أمثال أنيس منصور الذي قال في كتابه (عبد الناصر المفترى عليه والمفترى علينا) أن عبد الناصر لم يكن يقرأ شيئاً من أساسه.
على ضوء هذه النشأة تحددت مميزات وعيوب عبد الناصر، فقد كان يتميز بالذكاء والقوة والصبر وتحمل المشاق والقدرة على التنظيم والسرية في العمل والتدين وموهبة القيادة او الزعامة التي توهجت بعد القضاء على العدوان الثلاثي عام 1956، وتتحدد سلبيات عبد الناصر في وضعه للثورة في مقابل الديمقراطية أثناء أزمة مارس 1954، وحتى تجاربه الديمقراطية في التنظيم السياسي الواحد فشلت جميعها واحدة تلو الأخرى، وغابت الديمقراطية الحقيقية في عهده، رغم إنجازاته الأخرى العديدة لدرجة أن البعض يرجع هزيمة يونيو 1967 إلى غياب الديمقراطية.
ركزت الدراسة على ثلاثة قرارات كبرى في حياة عبد الناصر فرضتها ضرورات سياسية واجتماعية واقتصادية وعسكرية وأمنية وهي قرار تأميم شركة قناة السويس 1956 وقرارات يوليو الاشتراكية 1961، وقرار سحب قوات الطوارئ الدولية 1967.
لكن كيف كان يأخذ ناصر قراراته؟ لقد كان يعتمد في قراراته السياسية الكبرى على شخصيته الكاريزمية الملهمة وحب الجماهير له وإيمانها بزعامته مصريا وعربياً ودولياً، وكان أسلوبه في صنع القرار يعتمد كثيرا على القراءة التفصيلية الدقيقة لكل ما يحصل إليه من بريد، إضافة إلى حصره على الاستماع إلى إذاعات العالم المختلفة وقراءة الصحف المصرية والأجنبية ومناقشة الموضوعات المختلفة مع القادة العرب وزواره الأجانب، كما أنه كان حريصاً على تعدد مراكز صنع القرار، بان يطالب من أكثر من جهة دراسة الموضوع الذي هو بصدد اتخاذ قرار فيه مثل التنظيم السياسي والمخابرات ومجلس الوزراء وبعض المختصين المقربين اليه ويثق فيهم، ثم أعادة الموضوع إليه بعد دراسته لاتخاذ القرار المناسب بشأنه.
كان عبد الناصر إذن يأخذ القرار ثم يدفعه إلى أكثر من جهة لدراسته وإبداء الرأي فيه وإعادته اليه، وكان يناقشهم أحياناً في القرار إذا اختلف معهم فيه، ولكنه كان يصر على رأيه ويعلن تحمله المسؤولية بمفرده، ثم يختار الوقت المناسب لإعلان قراره، كما لو كان قد اتخذه فجأة وبطريقة فردية، ويؤكد ذلك القرارات الكبرى في حياته ومع ذلك يعتبر عبد الناصر أول رئيس ينشيء سكرتارية للمعلومات إلى جانبه نصب عندها كل المعلومات والحقائق التي يستند إليها الرئيس بعد ذلك في صنع القرار.
الرئيس السادات كان ينتمي إلى الطبقة الوسطى الريفية وقد أثر تنشئته الاجتماعية والثقافية كثيراً في شخصيته، كانت حياته درامية بدأت في القرية ثم في بيت بكوبري القبة وفصله من الخدمة في الجيش واشتغاله ببعض المهن الشاقة، واشتراكه في بعض التنظيمات السياسية السرية والاغتيالات السياسية وإعجابه ببعض الشخصيات المصرية والأجنبية، انعكس كل ذلك على سمات شخصيته التي كانت تتسم بالدهاء والخشونة وقوة الاحتمال وحب المغامرة والخداع والتخفي والتنكر والسرية وقد أثر ذلك بدوره في كثير من أعماله وسلوكه وقراراته التي كان أهمها قرار حرب أكتوبر 1973 وقرار الانفتاح الاقتصادي 1974 وقرار زيارة القدس 1977.
لكن كيف كان السادات يتخذ قراراته؟
 اتسم اسلوب السادات بالفردية أحياناً والصدمة أو المفاجأة أحياناً أخرى، وقد يكون ذلك بسبب المتغيرات أو الظروف الاجتماعية والثقافية التي تأثر بها وأثرت في شخصيته، ويعكس أسلوبه في صنع القرار رؤيته لذاته كأب للعائلة المصرية التي كان يرددها كثيراً في خطبه وأحاديثه وأن يفرض عليه ـ كأب ـ أن يرسم ويخطط لهذه العائلة ما يراه هو في صالحها ومنفعتها.
ورغم أن السادات كان يحيط نفسه بمجموعة من المستشارين إلا أنه لم يكن يستجيب لأرائهم، بل أنه كثيراً ما كان يتخذ العديد من القرارات دون الرجوع إليهم أو بالمخالفة لأرائهم، ويشهد على ذلك الرئيس الأمريكي نيكسون الذي زار مصر أيام السادات، يقول: (كثيراً ما كان السادات يتجاهل وزراءه ويتخذ قرارات بنفسه) ووفقاً لرواية الرئيس الأمريكي كارتر أثناء محادثات كامب ديفيد فإن الرئيس السادات كان يتخذ قرار مصر بنفسه، ولم يكن يحب أن يوجد أحد معاونيه معنا، أما بيجين فكان لا ينفرد بالقرار ولكنه كان دائماً يطلب الرجوع إلى أعضاء الوفد المرافق له لاستطلاع رأيهم، وإذا اختلفوا فإنه كان يطلب وقتاً للحصول على رأي مجلس الوزراء.
ولم يكن السادات يتجاهل فقط مستشاريه، ولكنه كان أيضا يتجاهل وزراءه والمؤسسات السياسية والدستورية ويؤكد ذلك منصور حسن الذي كان وزيراً لإعلامه وموضع ثقته حيث يشير إلى أن عملية اتخاذ القرارات كانت تتم على صعيد المستوى الأعلى، أما وظيفة المؤسسات السياسية فكانت قاصرة فقط على تأييد ما يتخذ من قرارات، ومع ذلك كان السادات يؤكد على ديمقراطيته في صنع القرار، ويدعى أن الشعب يشاركه الحكم، على الرغم من أن الشعب لم يكن سوى مجرد متلق لقراراته أثناء أحاديثه لوسائل الإعلام أو خطبه في مجلس الشعب!
ويقول(محمد حافظ إسماعيل) مستشار السادات للأمن القومي: لقد اختار السادات أن يكون وحده السلطة السياسية العليا في البلاد، ومن ثم المسؤول عن القرارات الجوهرية في مسائل السياسة العليا والاستراتيجية العسكرية، ولم يكن ذلك يعني أنه لا يستمع إلى المشورة أو أنه يسعى إليها ، فقد وجد في مجلس الأمن القومي في مجلس الوزراء الإطار الذي يناقش فيه بعض قراراته قبل اتخاذها إلا أن أياً من المجلسين لم يكن معنياً بالتصويت لإقرار سياسة مستقبلية، وصل السادات في النهاية إلى ان أصبح صاحب القرار سلماً أو حرباً، بينما يوفر المجلسان التعرف على نبض الرأي العام والإسهام في بلورة الخيار الأفضل وتنظيم تنفيذه!
ونصل إلى الرئيس مبارك..
تمتد جذور الرئيس مبارك إلى الطبقة الوسطى الريفية، وهو في ذلك يشبه الرئيس السادات، والده كان موظفاً حكومياً في محكمة شبين الكوم بمحافظة المنوفية، تفرغ لدراسته، وكان مجتهداً فيها بشهادة زملائه وأساتذته، وقد تفتح حسه الوطني أثناء صباه وانتمى إلى إحدى الجماعات الوطنية في المدرسة الثانوية، أعجب بشخصية روميل ومعارك الطيران أثناء الحرب العالمية الثانية، وكان ذلك دافعة للالتحاق بالكلية الجوية التي تخرج فيها ضابطاً طياراً.
تفرغ لعمله برز فيه وسافر في بعثات تدريبية إلى الاتحاد السوفيتي، كان من أبطال حرب أكتوبر ولذلك أختاره السادات نائباً له في الحكم وفي الحزب الوطني، وكلفه بمهام داخلية وخارجية أثبت فيها قدراته، واكتسب منها خبرة وتجارب سياسية كانت ذخيرته عندما تولى الحكم.
هذه التنشئة الاجتماعية والثقافية انعكست على شخصية الرئيس مبارك ويحدد د. صلاح بيومي صاحب الدراسة سمات الرئيس على ضوء هذه التنشئة يقول: تتسم شخصية مبارك بالهدوء والإتزان والثقة في النفس والصبر وقوة التحمل، وحب العمل وتقديسه وحب الحرية والانتماء الوطني.
وتحمل شخصية مبارك بعض السمات العامة للشخصية الكاريزمية، فالملامح أو السمات للزعيم أو القائد الكاريزمي تبدو في ثقته بنفسه وتقديره لذاته، ورؤيته أو تعبيره عن حاجات وقيم وآمال تابعيه، فهو يبدو واثقاً في نفسه وفي قدرته ورغبته في العمل من أجل تحقيق آمال الطبقة الكادحة التي يسميها دائماً طبقة محدودي الدخل، ويتجلى ذلك في موقفه من مطالب صندوق النقد الدولي للإصلاح الاقتصادي بمراعاة البعد الاجتماعي في هذه الإصلاحات، حتى لا تظلم الطبقات الشعبية التي تتحمل معظم تكاليف مسيرة الإصلاح الاقتصادي.
وترى الدراسة أن أهم قرارات مبارك هي الإفراج عن معتقلي سبتمبر 1981 وقرار التحكيم في قضية طابا 1986 وقرار إدانة الغزو العراقي للكويت 1990.. لكن كيف أخذ الرئيس مبارك قراراته.. تؤكد الدراسة أن اسلوب مبارك في صنع القرار السياسي يقوم على الدراسة الموضوعية العقلانية المتأنية من مستشاريه المتخصصين وطرح البدائل لاختيار البديل أو القرار المناسب للأزمة أو المشكلة، ويعبر عن ذلك د. أسامة الباز مستشار الرئيس للشؤون السياسية بقوله: الرئيس يرفض تماماً ـ خصوصاً في أوقات الأزمات ـ أن تكون المواجهة انفعالية وقتية لأنه يرى أن ضغط الوقت يمكن أن يحجب عن الإنسان عواقب المستقبل، وأنه من الممكن أن تخرج من الأزمة خروجاً مؤقتاً، ولكن الأمة تصيبك بآثار لاحقة وأخرى جانبية تتجاوز كثيراً المزايا التي حققتها بخروجك المؤقت من الأزمة.
لا يحب مبارك الرأي الواحد في أي موقف تواجهه مصر سواء داخلياً أو خارجياً فلابد أن تكون هناك بدائل، وكلها من إطار علمي وتستند إلى أدلة، ويكون دوره في معظم الأحوال المفاضلة بين البدائل التي تحظى جميعها بموافقة وإقرار قاعدة عريضة من المختصين.
ومجمل سياسة مبارك في اتخاذ القرارات أنه يستند إلى التأني وتدفق المعلومات من أجهزة ومؤسسات الدولة، والتي تصب عن هيئة المستشارين التي يتعامل معها بموضوعية وطبقاً للأهداف القومية، ثم تقدمها له في صورة مجموعة من البدائل أو الاختيارات، وتترك له حرية اختيار البديل المفضل الذي يصبح هو القرار السياسي المناسب أو الصحيح للموقف أو المشكلة، ومن هنا كانت نظرته متوازنة للأمور والأزمات أو المشاكل وتميل إلى الاختيارات التوفيقية أو الحل الوسط.
لا تكتفي دراسة د. صلاح بأن تؤكد أن مصر شهدت اندفاعية ثورية في عهد عبد الناصر وصدمات كهربائية في عهد الرئيس السادات، وعقلانية وواقعية في عهد مبارك، ولكنها تقارن بين العهود الثلاثة.
فمن حيث تصور كل رئيس لأبعاد قراراته نجد أن عبد الناصر كان يريد تحقيق أهداف وطنية سياسية واجتماعية واقتصادية وعسكرية أحياناً، أما السادات فقد كان يرغب في تحقيق أهداف وطنية وسياسية وعسكرية واجتماعية واقتصادية أحياناً، وكان يأخذ قراراته بمفرده دون الرجوع لمستشاريه، أما مبارك فيريد تحقيق أهداف وطنية سياسية واجتماعية ولا يأخذ قراراً إلا بعد مناقشته مع مستشاريه.
كان عبد الناصر لا يستجيب للضغوط الشعبية وإن كان قد استخدمها مرة لمحاكمة قادة الطيران بعد هزيمة يونيو 1967 ومرة أخرى عندما عدل عن قراره بالتنحي وهو القرار الذي جعله هدفاً للشائعات التي أشارت إلى أنه كان وراء مظاهرات الشعب، السادات كان عنيداً ولا يستجيب مطلقاً للضغوط الشعبية، لكن الشعب أجبره أن يستجيب بعد مظاهرات 18و 19 يناير التي اصر هو على انها انتفاضة حرامية بينما كان يراها الجميع انتفاضة شعبية، مبارك يستجيب مع الروية والهدوء أحياناً.
لم يكن عبد الناصر وهو يتخذ قراراته يستغنى عن وسائل الاعلام وأجهزة الدولة والمخابرات والتقارير والاتحاد الاشتراكي، ولما جاء السادات استعان أيضاً بوسائل الإعلام واجهزة الدولة والمخابرات، لكنه زاد عليها بعض الجهات الأجنبية التي كان يحصل منها على المعلومات، الرئيس مبارك يعتمد في جانب كبير من قراراته على وسائل الإعلام وأجهزة الدولة والحزب والمخابرات والأمن والمستشارين.
أهم المقارنات في هذه الدراسة جاءت في سؤال مهم هو.. هل كان لدى الرئيس بعد نظر في قراراته.. وتتوالى الإجابات، الرئيس عبد الناصر كان لديه بعد نظر في كثير من قراراته، لكن خانه بعد نظره في بعضها مثل الوحدة مع سوريا وحرب اليمن وسحب قوات الطوارئ، السادات كان بعيد النظر في كل قراراته، ولكن خانه بعد نظره في بعضها مثل قرارات رفع الأسعار في يناير 1977، واعتقالات سبتمبر، أما الرئيس مبارك فلديه بعض النظر في معظم قراراته.
وتبقى قرارات الرئيس ضد معارضيه، كان عبد الناصر يهادن أحياناً لكنه كان يستخدم العنف والسجن أحياناً أخرى، السادات كان يغلب المواجهة أما مبارك فيلجأ إلى الهدوء والدراسة!..
هذه الاختلافات بين الرؤساء وضعتها الدراسة في موضعها الصحيح حين أكدت أن القرار السياسي هو استراتيجية الرئيس أو صانع القرار في مواجهة الازمات وقضايا الوطن والمجتمع على المستوى المحلي والدولي ذلك لأن القرار يتعلق بالغايات أو الأهداف الكبرى للدولة.
وفي مصر أثبتت الوقائع دائماً أن الرئيس سواء عبد الناصر أو السادات أو مبارك ـ كان هو المحور الرئيسي لعملية صنع القرار، وإن اختلفت الدرجة من عهد إلى آخر، خذ عندك مثلا قرار الرئيس السادات بزيارة القدس وقراره باتفاقية السلام مع إسرائيل وقراره باعتقالات سبتمبر 1981 وكلها كانت قرارات فردية، عبد الناصر كانت معظم قراراته فردية أيضاً رغم ما كان يفعله من مشورة بعض من حوله، فقرار عبد الناصر بسحب قوات الطوارئ الدولية كان قراراً فردياً وهو الذي أدى في النهاية إلى هزيمة يونيو 1967.
أما مبارك فقد اعتاد أن يدرس ويناقش قراراته ويستشير بعض مساعديه أو مستشاريه، إلا أن ذلك لا يمنع من اتخاذه قرارات فردية في بعض اللحظات التي تتطلب ذلك مثل قرار الإفراج عن معتقلي سبتمبر 1981 وقرار إدانة الغزو العراقي للكويت.
حاول د. صلاح بيومي في دراسته أن يجعل شخص الرئيس هو المحور الذي يبني عليه تصوراته وآراءه ودراسته، فهو يعتبر الرئيس هو البؤرة التي تبدأ منها وتنتهي إليها عملية صنع القرار حتى تتم صياغته في شكله النهائي، وأغلب الظن أن الدراسة ركزت على شخص الرئيس لأنه في المجتمع المصري تتمثل سلطة صنع القرار واتخاذه في شخص واحد هو الرئيس حيث يحتكر صنع القرار ويمثل السلطة الآمرة في المجتمع.
وحتى لا يعتقد أحد أن الرئيس حاكم بأمره ويستطيع أن يأخذ ما يشاء من قرارات فإن الدراسة تذهب إلى أن هناك عوامل عدة تؤثر على الرئيس وهو يأخذ قراراته.
فهناك قيود نفسية تتمثل في الفروق الفردية بين صانعي القرار سواء في الأهداف أو التفضيلات والقيم الذاتية والاحتياجات الخاصة والتحيز، فقرارات عبد الناصر تأثرت بانحيازه للفقراء أما السادات فقد تأثرت قراراته بانحيازه للأغنياء الذين فضل أن يكون واحداً منهم.
ضيق الوقت يمكن أن يورط الرئيس، فقد يكون الوقت ضيقاً والأمر يسلتزم استصدار قرارات عاجلة مثلما حدث في قرار إدانة الغزو العراقي للكويت، فالغزو حدث فعلا.. وكان لابد للرئيس أن يأخذ قرارات بالإدانة أو التأييد.. وكلما مرت الساعات.. ازداد الموقف حرجا.. وكان القرار في النهاية، سلطات الدولة التشريعية والتنفيذية والقضائية قد تضغط أيضاً على الرئيس، وإن كان هذا الضغط لا يصل إلى حد إجبار الرئيس على اتخاذ قرار معين، فمنذ تولى الرئيس عبد الناصر السلطة عام 1956 وحتى الآن فإن السلطة التنفيذية ممثلة في رئيس الدولة هي التي تملك زمام الحكم وصنع القرار السياسي سواء في السياسة الداخلية أو السياسة الخارجية، أما السلطة التشريعية ممثلة في مجلس الشعب فلا يوجد نص في الدستور المصري يشير إلى أي دول له في صنع القرار خاصة في مجال السياسة الخارجية، بل إن مهمته في أحد جوانبها هي التصديق على المعاهدات التي يوقعها رئيس الجمهورية أو الحكومة، حدث هذا عندما صدق المجلس على معاهدة الصداقة مع الاتحاد السوفيتي في بداية 1971 وفي مارس 1976 صدق المجلس أيضاً على إلغائها عقب اتخاذ الرئيس السادات قراراً بإلغائها، بل أكثر من ذلك فإن مجلس الشعب في نهاية كل فصل تشريعي يصدر قانوناً بتفويض رئيس الجمهورية في إصدار قرارات لها قوة القانون ثم يصدق عليها عند عودته في الفصل التشريعي التالي..
معنى ذلك أن هناك عوامل كثيرة تؤثر على صانع القرار.. لكنها في النهاية عوامل نظرية لا تلزم الرئيس بشيء ولا تجبره على التراجع عن شيء...
دراسة (صناعة القرار السياسي في مصر) قد يراها البعض مهمة لأنها تكشف جانباً خفياً لا يعرف الناس عنه شيئاً في مصر، كان يتم التعامل معه على أنه قدس الأقداس، لكن البعض الآخر يمكن أن يرى فيها دراسة غير موضوعية لأنها تناولت فترة الرئيس مبارك، وهو تناول ليس صحيحاً من الناحية المنهجية على الأقل، فالمعاصرة حجاب كما يقولون.. ويمكن أن يكون هناك معلومات لم يكشف عنها بعد... تعطي الدراسة ثراء وعمقاً تفتقده وتحتاج إليه.








1
زعماء .. وعلماء
عبد الناصر رؤية خاصة
وصلني عبد الناصر بعد أن أستقر في كتاب الأساطير الكبير الذي يعكف على تأليفه المصريون منذ ألاف السنين، يضيفون إليه كل يوم ولا يحذفون منه شيئاً، أعجبتني القصة التي حكاها لي أحد كبار عائلتنا من هذا الكتاب، قال لي بحماس إنه كان يجلس على مقهى في مدينة المنصورة، وكان عبد الناصر يلقى إحدى خطبه، وعندما وصل عند قوله (أرفع رأسك يا أخي.. فقد مضى عهد الاستعباد) صاح أحد الموجودين في المقهى قائلاً: الله أكبر الراديو بيهتز يا جماعة.. الراديو بيهتز من كلام الريس.. الله اكبر، انتظرت أن ينفي كبير عائلتنا حكاية اهتزاز الراديو هذه، لكنه أكدها بتأثر بالغ بعد أن زارت الدموع عينيه.. قال: وفعلاً يا ابنى الراديو كان بيهتز!
وعندما كنت عائداً من أحد دروسي في الثانوية العامة وكانت حرب الخليج الثانية دائرة على أشدها، سألني سائق الميكروباص: بذمتك اللي حصل في العراق ده يرضى حد، قلت له: يعني نعمل إيه؟ فرد عليّ بحماس يشبه حماس كبير عائلتنا: صحيح محدش يقدر يعمل حاجة.. وأدخل يده في جيبه وأخرج صورة لجمال عبد الناصر وقبلها بحب قائلاً: لكن لو كان البطل ده موجود ما كنش أي حاجة حصلت من اللي حاصل دلوقتي!
حركني هذا الموقف لأن أقرأ عن عبد الناصر أكثر، فحتى هذا الوقت ـ كنت قسم علمي في الثانوية العامة ـ لم أكن أعرف عن عبد الناصر أكثر من أنه قائد ثورة يوليو التي حررت مصر وأخرجت الانجليز منها، ولا مانع من معرفة بعض المعلومات التي تناثرت في الكتب الدراسية عن تأميم القناة ونكسة 1967، وحتى هذا الوقت كنت أعرف أنها نكسة وليست هزيمة ساحقة، لم ينكسر فيها جيش فقط، ولكن أنكسر بسببها الشعب المصري كله.
أوقعت الصدفة وحدها في يدي بعض كتب الأخوان المسلمين التي تحكى عن تعذيب عبد الناصر لهم في سجونه، شعر بالمبالغة والتهويل في بعض ما قرأت، لكني تساءلت كيف يضع عبد الناصر بعظمته وكبريائه رأسه برأس امرأة هي زينب الغزالي، ويأمر بتعذيبها ـ كما قالت ـ حتى لو خالفته الرأي وخرجت على نظامه.
كانت مشاهد التعذيب التي أوردتها زينب الغزالي في كتابها قاسية، لقد جعلت من نفسها إحدى شهيدات الإسلام، أو كما قال عنها اللواء فؤاد علام في كتابه(أنا والإخوان) كانت زينب الغزالي تعتبر نفسها رابعة العدوية شهيدة العشق الإلهي.
وقفت معلوماتي عن التعذيب في سجون عبد الناصر عند الإخوان وحدهم، لكن الأيام أخبرتني بأن الإخوان لم يكونوا وحدهم ضحايا عبد الناصر في السجون، فقد عذب المثقفين الذين أيدوه أيضاً، طرد أساتذة الجامعة من مواقعهم، حرم الصحفيين من عملهم وشردهم وحال بينهم وبين أرزاقهم، ووضع كل من يخالفه في السجن حتى لو كان أعز الناس..
وجدتني بعد ذلك أقع في مشكلة تستعصي على الحل، كنت أسمع شهادة الكاتب والمفكر الكبير محمود أمين العالم على العصر، قال أنه كان في السجن أيام عبد الناصر، كان أحد العساكر يضربه على قدميه بعصا غليظة! وعندما سأله عمر بطيشة الذي يقدم البرنامج (شاهد على العصر) وماذا كان شعورك، قال له حزيناً جداً.. لم أكن حزيناً لأني كنت أضرب بالعصا على قدمي، لكني حزيناً لأني لم أشارك عبد الناصر في الانجازات التي كان يحققها خارج السجن(!!)
علامات التعجب من عندي بالطبع، فأنا لم أستوعب منطق الأستاذ الكبير في الكلام، وعندما أدركت أبعاده جملة وتفصيلاً رفضته جملة وتفصيلاً، فإهانة الإنسان عندي جريمة لا تغتفر حتى لو رضى بها الإنسان، وحتى لو كان مرتكبها هو جمال عبد الناصر نفسه، الذي وصلني على جناح كتاب الأساطير!
لم تكن حكاية محمود أمين العالم وحدها هي التي صدمتني، فالحكايات كثيرة لا تعد ولا تحصى، صلاح عيسى وقع في هذه الثنائية في كتابه ( تباريح جريح) يحكي عن أيام سجنه يقول: كان الفصل خريفاً كهذا من عام رقمه 1966، عاريا كنت ومصلوباً إلى مشجب حديدي في الزنزانة رقم 3 بمعتقل القلعة، وكنت خجلاناً من عريي، نزفت عرقي كله في وهج كشاف ضخم سلطوه طوال الليل على عيني المجهدتين، بين الحين والآخر يطلقونني، يعصبون عيني، يسوقونني بالعصا تنهال عليّ كل مكان من جسدي الذي لم يكن قد عرف الآلم بعد، يسحلونني يمسحون بي بلاط المعتقل من شماله إلى جنوبه ومن مشرقه إلى مغربه.
يكمل صلاح: تتبعثر على البلاط الكتب التي قرأتها والأفكار التي عرفتها، والأحلام التي أتوق إليها، وأبيات الشعر التي ترنمت بها، يسيل الدم من احتكاك جسدي بالبلاط، لكن الألم من القلب جاء، نزف في صمت كبرياء شاب ريفي يخجل أن يقول آه، ويتعالى أن يتسول شيئاً ولو كان ماء الحياة، يعيدونني إلى صليبي، عطشاناً كنت وخائفاً لكنني لم أبك، كان الصراخ ينبعث من كل الزنازين فاتوهم فيه وأنا معلق وفي شبه غيبوبة، أدركني الجفاف فاشتهيت قطرة ماء ولو كان الثمن ما بقى من العمر، عند العصر دخل الرائد (عاصم الوكيل) الزنزانة في يده زجاجة كوكا كولا يتناثر الثلج على مسطحها قال: ما رأيك في الكرافتة التي ألبسها؟ قلت له: مش حلوة؟ فسألني: ليه قلت رأيي كده، ضربني بحافة الزجاجة أسفل ذقني، واصل الضرب بقوة حتى كاد يخلع فكي، مدببة فتحة الزجاجة، لم أحس بالألم، انعشني ملمسها البارد، وملأت رائحتها الشهية خياشيمي، استرددت بعضاً من وعيي الغائب نتيجة لضرباته، قال: تعرف أنا رايح فين؟ وأكمل: رايح السينما مع بنت زي القمر، أرجع الاقيك اتكلمت يا ابن(..).
تذكر صلاح عيسى عندما سمع هذه الكلمة وجه أمه الوضئ، وهي تستيقظ كل فجر لتتوضأ وتصلي، وسمع في الصمت الذي أعقب رحيل معذبه، صوت دعاء أمه الخاشع في وقت السحر: يا رب يبارك في عافيتك يا صلاح يا ابن بطني ويكفيك شر سكتك!
بعد هذه المرارة.. قرأت لصلاح عيسى كلاماً يدعو فيه أن يظهر جمال عبد الناصر آخر، قال في مقال احتفل به بمولد عبد الناصر الذي يهمل علينا في 15 يناير من كل عام، قال: في صباح يوم ميلاده ابتسموا.. من يدري، ربما يولد اليوم أو غدا، إن لم يكن قد ولد فعلاً في حارة ما، من شارع ما، تلهمه الأمة وتتدافع في شراعه، تصنع بطولته، تمنحه القدرة على تحدي القهر والهزيمة وتضاؤل الأحلام واسترداد ما ضاع، وما قد يضيع، وختم صلاح مقاله الذي نشره في جريدة الأهالي في 12 يناير 1983 ببعض من قصيدة أحمد فؤاد نجم التي يقول فيها: غنوا اليوم للأم التي ولدته/ سلامتك يا أمة يا مهرة/ يا حبالة يا ولادة/ يا ست الكل يا طاهرة/ سلامتك من ألام الحيض/ وم الحرمان والقهر/ سلامة نهدك المرضع/ سلامة بطنك الخضرة.
هذه الازدواجية الشديدة، رغم أني فهمتها لكني رفضته، فكيف أدافع عن سياسات من اضاع إنسانيتي، وأهان كرامتي وبعثرها على الأرض، هذا ما فعله عبد الناصر ليس في المثقفين فقط، ولكن في كل فئات الشعب المصري حتى الذين أحبوه وقدسوه ووصل الأمر ببعضهم إلى أنهم عبدوه، لم يكن عبد الناصر صادقاً عندما قال في خطاب المنصة الشهير، لقد علمتكم الكرامة، وإذا مات عبد الناصر فكلكم جمال عبد الناصر، لقد فات على الرجل الكبير أن الكرامة لا تعلم ولا يمنحها أحد لأحد، ولكنها شعور داخلي إما تملكه أو لا تملكه، لم يكن المصريون كلهم عبد الناصر.. فقد كانوا عبيداً له يستمدون قوتهم من قوته وكرامتهم من كرامته، ربطوا أنفسهم به ولذلك عندما انكسر 1967 انكسر المصريون جميعاً!
قد يتجاوز جيلي الذي لم يعش عصر عبد الناصر ولا نعم بحماسته، عما حدث في السجون، ويسلم عقله للشيطان ويصدق أن ما حدث في السجون كان من وراء ظهر عبد الناصر، لكن كيف نتجاوز عن المهزلة التي جرت على يديه في 1967.. المهزلة يحكيها محمود الجيار سكرتير عبد الناصر الخاص في مذكراته التي نشرتها مجلة روز اليوسف في يناير عام 1976.
قال الجيار: بعد أن سددت إسرائيل ضربتها صباح 50 يونيه إلى جميع المطارات المصرية، خرج عبد الناصر من مبنى القيادة حوالي الواحدة ظهراً وقد تهدل كتفاه وتغيرت ملامحه، ولم يعد يريد أن يسمع أو يتكلم، وفي البيت صعد إلى غرفته في صمت تام، وأغلق الباب وراءه واختفى تماماً، اختفى ثلاثة أيام.
ثلاثة أيام كاملة قضاها الجيار في بيت عبد الناصر، والرئيس لا يبرح غرفته وكل صلته بالعالم الخارجي عن طريق أسلاك التليفون، ثلاثة أيام جرت فيها أعنف معارك الحرب، وهو لا يغادر حجرته، ولا يقابل أحداً على الاطلاق، وأصبح موقفه هذا لغزاً محيراً، تساءل الجيار: هل أنهار عبد الناصر، فها هو معتصم في حجرته، لا يشارك في حرب تهدد بلاده وثورته ومستقبل شعبه، عاش سؤال الجيار بلا جواب حتى مساء 8 يونيو، عندما أمر عبد الناصر فجأة باعداد سيارته للذهاب إلى القيادة.
نزل عبد الناصر من غرفته وقد تحول إلى شخص آخر مختلف تماماً، شخص شديد المرح، مفعم بالسعادة، متشوق إلى المزاح، حتى هذه اللحظة لم يكن الجيار يعرف سر ما حدث من عبد الناصر وسر اعتكافه ثلاثة أيام كاملة، ولما عرف قال: أن عبد الناصر لم يعتصم بحجرته ليهرب من المعركة ولكن ليدبر ضربة مضادة تغير ميزانها(!!) ـ وعلامات التعجب من عندنا أيضاً ـ فهو قد ترك القيادة العسكرية تواجه مهام القتال وانصرف عن طريق التليفون يتصل بالعالم الخارجي، ويطلب من أصدقائه أن يعينوه بقوة طيران جديد ة تقلب الميزان على جبهة القتال.
  حصل عبد الناصر من خلال اتصالاته في فترة اعتكافه على 45 طائرة من الرئيس بومدين، وحصل من السوفيت على قطع غيار تكفي لاصلاح عدد كبير من الطائرات التي ضربت على الارض، وكان تقدير عبد الناصر ـ المغيب بالطبع ـ أن ظهور هذه الطائرات فجأة سيقلب ميزان المعركة، لأنه أولاً سيرفع معنويات الجنود المصريين الذين يئسوا من أي غطاء جوي، وثانياً سيربك القيادة الاسرائيلية التي اطمأنت إلى انها لن تواجه باي طيران مضاد، ومن هنا كان تفاؤل عبد الناصر ومرحة مساء 8 يونيو، عندما نزل من حجرته لأول مرة، واتجه إلى القيادة ليبشرها بمائتي طائرة جديدة تحت تصرفها.
عندما وصل عبد الناصر إلى مقر القيادة، كان كل شيء قد انتهى، احتدت المناقشة بين عبد الناصر وعبد الحكيم عامر، وخرج عبد الناصر تبدو عليه ملامح صدمة لم يكن يتوقعها... صرخ في وجه عبد الحكيم عامر: احنا الاثنين ضحكنا على الشعب واحنا الاثنين لازم نمشي، فهز المشير رأسه وقال: ونجيب مين؟ قال عبد الناصر: ما عرفش لسه حفكر، وساد صمت لحظة ، ثم قال المشير: اية رأيك في شمس؟ فقال عبد الناصر: أفكر، ثم استدار وخرج من الحجرة، لكنه وهو يخرج لم يكن نفس الرجل، كان يجر قدميه عاجزاً عن المشي، كل ما قاله عبد الناصر للجيار وقتها كان: تصور يا جيار(حنقبل وقف إطلاق النار، وكان تعليق الجيار الوحيد هو: الراجل حيموت الليلة دي.. لازم نشوف طريقة ننقذه، لم تكن هناك طريقة بالطبع.. فقد انتهى عبد الناصر في هذه الليلة!
انتهى كثوري عظيم وكقائد مهم... لكن دراويش عبد الناصر هم الذين أبقوا عليه، أن ما حدث من 5 يونيو إلى 8 يونيو وبالطريقة التي حكاها الجيار، يجب أن يخضع للمحاكمة.. أن يحاكم هؤلاء الذين عبثوا بالشعب واعتبروه إرثا ورثوه عن أبائهم وأجدادهم، لقد ظل عبد الناصر معتكفا في حجرته بعد الهزيمة كأنه نبي ينتظر الوحي، ترك المعركة والضحايا والجنود الذين راحوا قتلى بلا غطاء جوي ليتصل بالعالم بالتليفون، وكأنه ناظر زراعة، وليس رئيس دولة يجب عليه أن يجتمع بمستشاريه ورجال دولته ليبحث عن مخرج، لقد أكد هذا الموقف أنه لم يكن هناك نظام ولا دولة ولا شيء من الكلام الكبير الذي يردده عبد الناصر في خطبه!
أنصار عبد الناصر سيقولون لنا ـ نحن أبناء الجيل الذي يحاول أن يفكر بمفرده ـ أن دولاً كبرى هزمت وامبراطوريات عظيمة تفككت، وأن عبد الناصر لم يكن أول المهزومين ولن يكون آخرهم، ولكن على مدار التاريخ كانت الهزائم بأسباب منطقية، أو على الأقل لها أسباب، لكن هزيمتنا في 1967 التي قادها عبد الناصر كانت عبثية أكثر مما نحتمل، لم تكن هناك أسباب واضحة، مع احترامنا الشديد للمؤامرات الدولية التي أجهضت نظام عبد الناصر، فطوال تاريخنا هناك مؤامرات لتدميرنا.. لكن هذه هي المرة الأولى التي يقدم فيها قائد نفسه لقمة سهلة وسائغة لأعدائه كي يفترسوه.
لقد انكسر عبد الناصر في 1967بعد أن كسر المصريين جميعاً.. وعندما وقعت هزيمة 1967، جاءت على البقية الباقية من الجميع، ولذلك من الحق أن نقول إن عبد الناصر هو الذي أفقد المصريين القدرة على المقاومة، لقد قمع الجميع في عهده بلا رحمة ولا شفقة، لم يعل صوت فوق صوته، ولم تظهر رأس إلى جوار رأسه، لقد عاش المصريون في ظل عبد الناصر وهماً جميلاً قاموا منه على صدمة أربكتهم وشتت شملهم، وجعلتهم يزهدون في مقاومة أي شيء حتى لو كان يهدد حياتهم!
عندما يقف عبد الناصر أمام مرآة جيلي أراه فيها مشوها، قد يكون حرر الوطن لكنه استعبد المواطن وبعثر كرامته، فليس صحيحاً أنه حرر الأرض العربية، فعندما مات عبد الناصر في سبتمبر 1971 كانت سيناء محتلة وجنوب لبنان محتلة والجولان محتلاً وفلسطين كلها محتلة. فأين التحرير إذن. وعندما مات كان المصريون مستبعدين، ولعل هذا يفسر خروجهم ليطالبوه بالبقاء!
كان طبيعياً أن يخرج المصريون ليطالبوا عبد الناصر بعدم التنحي، لأنه جعلهم مسلوبي الإرادة لا يستطعيون أن يقاوموا أو يعملوا شيئاً بأنفسهم فقد جعلهم اتكاليين، لا يقدرون على حسم شيء.. ولذلك لمن سيتركهم، كان المصريون في مظاهرات 9 يونيو التي رفضوا فيها تنحي عبد الناصر مثل الاطفال الصغار الذين قرر عائلهم أن يتركهم في العراء فبكوا بشدة حتى لا يرحل.
وكان طبيعياً أيضاً أن يشعر المصريون باليتم بعد موت عبد الناصر، فقد اعتمدوا عليه طويلاً وها هو يموت ويتركهم وحدهم دون أن يعلمهم كيف يعيشون أو يتصرفون في الحياة. كان عبد الناصر يتصرف في البلد وكأنها ضيعته الخاصة لا يمنع هذا أن يكون الرجل شريفاً ونزيهاً ونظيف اليد، فهذه صفات يجب أن تتوفر في الحاكم خاصة إذا كان يقدم نفسه على أنه مشروع لتحرير الوطن، فليس ميزة في عبد الناصر أنه لم يسرق، وليس ميزة فيه أنه لم يكن يحب النساء أو يشرب الخمر أو يعرف الليالي الملاح، هذه ليست سمات فهي ضرورة.
أنا واحد من جيل عرف عبد الناصر من الذين كتبوا عنه.. وأقول أن ما فعله عبد الناصر يحتاج إلى محاكمة، فقد باع واشترى في البلد، لقد تعجبت عندما قرأت صلاح عيسى عندما كتب: لماذا اختار عبد الناصر أنور السادات دون كل زملائه أعضاء مجلس قيادة الثورة الآخرين لخلافته؟ والإجابة كما يعتقدها صلاح أن عبد الناصر كان سيعلم أن المصريين سيقارنون بين الرئيسين، وكان يعلم بأننا في النهاية سوف نترحم عليه ونتسامح مع أخطائه، أي انه اختار السادات لخلافته على طريقة يا ناكر خيري بكره تعرف زمني من زمن غيري، بالذمة هل هذا كلام.. يا أخي(..)!
* * *
هل كان عبد الناصر ملحداً؟
حاول كل من اشترك في المشروع القومي لتشويه جمال عبد الناصر ـ وهو المشروع الذي بدأ في عصر السادات ـ أن يصوره وكأنه رجل غليظ القلب بلا مشاعر، ولا إحساس إيماني يدفعه لأن يتقي الله فيما يفعله، فعزف بعضهم على لحن واحد تؤكد نغماته أن عبد الناصر كان يعتقد أنه إله.. وليس على من حوله إلا أن يعبدوه ويقدموا له كل صباح قرابين الولاء والطاعة، ومن يعصاه يخرجه على الفور من رحمته.. فمن لم يرض بقضائه فليخرج من تحت سمائه، ولم يكتف بذلك بل كان يعذب معارضيه بطريقة وحشية، أوصلت البعض إلى اعتباره حارس جهنم، وفي مذكرات زينب الغزالي أنها قالت لمعذبيها بأمر عبد الناصر: اتقوا الله فأين تذهبون من حسابه؟ فقالوا لها إن الله موجود في الزنزانة التي بجوارك يأخذ نصيبه من التعذيب.
وليس عندي شك في أن جمال عبد الناصر كان يعذب معارضيه، ويذيقهم أشد العذاب، ولكنه كان يفعل ذلك باعتبارهم معارضين سياسيين، وليس عبيداً عصاة ارتكبوا الذنوب في حق إلههم الذي يجب أن يطاع، رغم ذلك فإن خصوم عبد الناصر الذين حاولوا تجريده من كل ميزة.. وخصم كل إنجاز من سجلاته، صادروا كل المعاني الروحية التي كان يتمتع بها، بل جعلوا منه دجالاً ومشعوذاً وعاجزاً يستعين بالأرواح لتعينه على أخذ القرارات المهمة.
فعل ذلك إبراهيم بغدادي محافظ القاهرة الأسبق.. حيث أكد أن عبد الناصر كان يعقد جلسات تحضير الأرواح في منزله بشارع الجلالي بالعباسية قبل الثورة واستمرت إلى ما قبل موته، وأنه أي البغدادي كان حضر هذه الجلسات بعد الثورة وكان يحضرها معه سمير حلمي رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات والذي لقي مصرعه في حادث المنصة الذي اغتيل فيه السادات، ويذكر موسى صبري أن الأرواح حذرت عبد الناصر من السادات وأخبرت بأنه يسعى لأن يكون خليفته في حكم مصر، وكان طبيعياً أن يفكر عبد الناصر ألا يخلفه السادات بعد موته، ويضيف بغدادي أن عبد الناصر كان يعقد جلسات الأرواح ليبعد الأنظار عن نشاطه السياسي وعادة من يحضر جلسة الأرواح لا تكلم في السياسة، وأنه شاهد في الجلسات التي كان يعقدها عبد الناصر جمال العبد وعبد القادر مهني وحسني عبد النبي.
لم يكتف إبراهيم بغدادي بذلك... يقول: إن عبد الناصر كان مؤمناً بهذه الجلسات وأهميتها وأنه كان يستعين بالدكتور رؤوف عبيد الأستاذ بكلية الحقوق بجامعة القاهرة وهو حجة في هذا المجال وله كتب علمية في تحضير الأرواح كوسيط وأنه كان يفضل هذه الجلسات على أي اهتمامات أخرى، ليس هذا فقط.. بل إن عبد الناصر ـ كما يقول بغدادي ـ كان يبدو في حالة خطيرة بعد انتهاء الجلسات حيث يصاب بحالة ذهول ودوخة وهذيان لمدة دقائق يستعيد بعدها قواه الذهنية ويبدو طبيعياً.
وحتى لو سلمنا بأن عبد الناصر كان يؤمن بتحضير الأرواح.. فإن ذلك لا يمنعنا من التأكيد على أنه كان مؤمناً مثل كل المصريين.. تدينه كان تدين الشعب المصري الذي يتعرف إلى الله في الشدائد... وقد ظهر ذلك بشدة بعد هزيمة يونيو 1967 التي كانت انكساراً عاماً وشاملاً.. وكان عبد الناصر هو المسؤول الأول والأساسي عنها، لقد اعتبر عبد الناصر أن الهزيمة إنما هي غضب من الله وعقاب للناس لأنهم ابتعدوا عنه وتخلوا عن الصراط المستقيم الذي رسمه لهم الدين.. ولعل هذه يفسر لنا ما حدث في اليوم الثاني للهزيمة فقد أرسل عبد الناصر رسالة للملك حسين ملك الأردن قال له فيها: هذه ارادة الله لعل في إرادته خيرا لنا، إننا نؤمن بالله ولا يمكن أن يتخلى الله عنا، لعل الأيام القادمة تأتينا بنصر من عنده.
كان عبد الناصر مؤمناً عاديا.. لا يتظاهر بإيمانه.. فلم يحرص مثلا على ان يلقب نفسه بالرئيس المؤمن.. أو يتعمد أن تلتقط له الصور وهو يصلي أو يقرأ القرآن .. بل إن الصور التي يحتفظ بها أرشيفه.. وهو يؤدي الشعائر من صلاة وحج تأتي صورا تلقائية للغاية.. صور رجل يؤدي الشعائر لوجه الله.. وليس لوجه الكاميرا كما فعل غيره.
إن جبروت عبد الناصر لم يمنعه أن يكون ملتزماً.. الالتزام الذي يحكم به الناس على الآخرين بأنهم من أهل الله.. والتفاصيل في ذلك كثيرة.. لقد كان كثير من ذوي الحاجات من الفقراء يذهبون إلى بيته في منشية البكرى يطلبون ويشرحون ظروفهم المعيشية والأسرية، وكان هؤلاء سواء عن طريق الكتابة أو عن طريق شرحهم لحالاتهم يخاطبون جمال عبد الناصر بتلقائية ومصداقية ويبثون إليه متاعبهم وشكاواهم وهمومهم.
وكثيراً ما طلب عبد الناصر أن يطالّع على أصول رسائل أو شكاوى الناس كما وردت من أصحابها دون تدخل من مكتبه لعرضها أو تخليصها، وكان إذا أحس أن موضوع الشكوى يمس شريحة من المواطنين يطلب بحث المشكلة، ويصدر قراراته بحلها إن أمكن إدارياً، أو يطلب صدور قرار جمهوري أو إصدار تشريع لحل هذه المشكلة، وكانت هناك الكثير من المسائل الإنسانية تحل فوراً خصوصا إذا كانت واضحة المعالم، أما الشكاوى الأخرى التي كانت تبحث بواسطة الجهات المعنية، ومن تثبت أحقيته كان يصدر التوجيهات باستدعاء صاحب المشكلة ويناقشه في طريقة حلها ثم يتابع بنفسه طريقة الحل، وكانت المتابعة تشكل جزءاً هاماً من أسلوب تعامله سواء على مستوى الدولة أو مستوى الأفراد، وكثيراً ما كانت النوتة التي يسجل فيها ملاحظاته تحوى ملخصات بموضوعات وتواريخ اتخاذ القرارات الشخصية منه، وفي بعض الأحيان كانت المتابعة تتم للمرة الثانية والثالثة وهكذا إلى أن تحل المشكلة.
وقد يعتبر البعض أن ما كان يفعله عبد الناصر مع مشاكل الناس جزء من دوره السياسي، فالحاكم لابد أن يباشر أمور رعيته.. لكن عبد الناصر كان يفعل ذلك بدوافع إنسانية تؤكد أنه كان يؤمن بحق الناس في أن يعيشوا حياة كريمة.. لا إهدار فيها لآدميتهم ولا امتهان لكرامتهم... ويؤكد ذلك أنه كان يعيش حياة تجعلنا نصفه بالزاهد أو الصوفي.. الذي لم تغره السلطة ولم تجعله يعيش حياة الملوك.. فقد كانت حياة عادية للغاية.
أما عن الزهد فحدث ولا حرج.. لقد رفض عبد الناصر بإصرار والى أن مات أن يزود بيته بأي أثاث جديد على حساب الجيش والتزم بأن يكون كل تجديد للأثاث من مرتبه، ويحكى محمود الجيار السكرتير الشخصي لجمال عبد الناصر أنه يذكر يوماً نشب فيه خلاف حاد بين عبد الناصر وبين السيدة زوجته... وكان السبب فيه قطعة أثاث، كانت هدى عبد الناصر تذاكر على مكتب صغير ثمنه لا يزيد على 15 جنيها، فلما تخرجت قررت أن تهدي هذا المكتب إلى بنت خالتها التي لم تتخرج بعد، ووافقت السيدة حرم عبد الناصر لكن هذا المكتب كان عهدة، ذهب المسؤول عن العهدة يبلغ محمد أحمد سكرتير الرئيس أن المكتب خرج من البيت دون إذن صرف وذهب محمد أحمد ليبلغ الرئيس، وإذا بعبد الناصر يثور على زوجته، ودهشت السيدة تحية فلم تكن تتصور أنها لا تملك حرية التصرف في قطعة من الأثاث التي في بيتها لا يتجاوز ثمنها 15 جنيها، ولكنها فهمت عندما قال لها عبد الناصر: اطلبي أي مبلغ واشتري مكتبا تهدينه لمن تشاءين اما هذا المكتب فيجب أن يعود لأنه ليس ملكا لنا.. وعاد المكتب بالفعل.
هذا عن الأثاث ـ أما عن الطعام الذي كان يتناوله عبد الناصر فحدث ولا حرج.. ويحكى محمود الجيار في مذكراته التي نشرتها له مجلة روز اليوسف عام 1967 بعنوان (الأسرار الشخصية لجمال عبد الناصر.. يقول: عاش عبد الناصر ومات وطعام بيته وأولاده لا يتغير: أرز ولحم وخضار، ولم يحدث أن شاهدت في حياتي طعاماً يأتي اليه من الخارج بالطائرة، والطعام الوحيد الذي حملته الطائرة لعبد الناصر كان من مصر وكان يصحبه إلى الخارج، وكنت أنا الذي أحمله، وكان هذا الطعام كالذي يتزود به أهل الصعيد عندما يرحلون بعيداً، أصنافاً من النواشف أهمها الجبن والخبز الجاف.
ويكمل الجيار: وأذكر أنني في رحلة عبد الناصر إلى باندونج ملأت عددا من الحقائب بهذا الطعام، وفي الطريق نزلنا باكستان، واستضافونا هناك في قصر كقصور ألف ليلة ولكنني صحبت معي إلى القصر حقائب الجبن والخبز ووضعتها في حجرة عبد الناصر، ووصف عبد الناصر المشهد لزملائه من رجال الثورة بعد عودته قائلاً: دخلونا في قصر مهول وأوضة النوم زي اللي بنقرأ عنها في الكتب. وأبص الاقي الجيار داخل عليّ شايل القفف، بقيت أقول يا رب ما يعرفوا جواها ايه.
أكل عبد الناصر من هذه القفف.. وعندما سافر إلى أندونيسيا حمل الجيار معه الأكل الناشف، وكان الطعام في أندونيسيا غريبا على الذوق المصري، خبز من الموز وأشياء من هذا القبيل.. فكان بعبد الناصر عملياً لا يأكل، وكان هناك أيضاً طعام أوروبي ولكن ذوق عبد الناصر لم يكن يستسيغه ويحكي الجيار: ذات يوم طلبني عبد الناصر وكانت حجرتي في جميع الرحلات تلاصق حجرته وقال لي: أنا خلاص ح أموت من الجوع، قلت له: (أنا قلت نجيب معانا طباخ وأنت رفضت والناس هنا ما يعرفوش يطبخوا غير كده، فرد عليه عبد الناصر، وأنتم ما تعرفوش تطبخوا.
في هذه الليلة أكل عبد الناصر أسوأ ما نجح الجيار في طهيه على الطريقة المصرية، كان الأرز كالعجين نصفه محروق وحلة الخضار يرفض الجنود في الميدان أن يأكلوها، ولكنه فيه هذه الليلة أكل بشهية وكانت أول ليلة يشبع فيها.
بقي أن نتحدث عن السهرات واللهو في حياة عبد الناصر.. وليس غريبا أو مجهولاً أن سهرات عبد الناصر كلها كانت في بيته، مع زملائه من رجال الثورة في صالون بيته، وإما مع أولاده أمام شاشة السينما الخاصة التي كانت في الدور العلوي، ولم يستطع أحد أن يثبت أن عبد الناصر طوال حياته شرب كأساً من الخمر أو ضبطه أحد يقضي سهرة حمراء في مكان مشبوه، خارج البيت لم يكن يسهر إلا في حفلات زواج أبناء أصدقائه أو في حفلات رسمية كحفلات ذكرى الثورة، وفي بعض الأوقات كان عبد الناصر يقرر أن يتمرد على هذا الحرمان.. ويتجرد من القيود الرسمية.. فيأخذ قراراً بأن يقضي نزهة حرة خارج البيت.. وكانت هذه النزهة عبارة عن الفرجة على فاترينات المحلات في شارعي فؤاد وسليمان باشا، لم يكن عبد الناصر يخرج في هذه النزهة وحده، كانت تعد له سيارة عادية يقودها محمود الجيار ويركب معهما محمد أحمد، وعندما يصلون إلى الشارع المقصود ينزل عبد الناصر ويمضي ليتفرج على واجهات المحلات... وعندما يبدأ الناس ينتبهون له، كان الجيار يقترب منه بالسيارة فيركب بسرعة ليعود إلى البيت.
أما عن اللهو فقد كان كل اللهو في حياة عبد الناصر مركزاً في اجازات الصيف... ففي برج العرب كان هناك مقر تعود على ماهر رئيس الديوان الملكي ورئيس الوزراء قبل الثورة أن يقضي فيه اجازاته الخاصة، ذهب عبد الناصر ذات يوم مع زملائه ليقضوا اجازاتهم في هذا المقر، ولكنهم تجولوا على الشاطئ حتى وصلوا إلى كشك خشبي في منطقة مجاورة اسمها (سيدي عبد الرحمن).. أحب عبد الناصر الكشك والمنطقة وظل يتردد عليها كلما سمحت الظروف ويضرب فيها الخيام مع زملائه.. وهناك كان يلهو ويتمتع على راحته.. وقبل أن يذهب خيالك بعيدا لتتصور لهو عبد الناصر.. أقول لك.. عن لهوه كان في أنه يلبس الشورت بدلاً من البدلة كاملة، وبأن يلعب الشطرنج، وأن يقرأ ويكتب ويفكر في الخطوط العريضة لسياسته عندما يعود إلى القاهرة، لم يتمتع عبد الناصر بهذا اللهو طويلاً فعندما بدأ الاهتمام بالسياحة في مصر، ونشط المخططون لها نبههم عبد الناصر إلى موقع سيدي عبد الرحمن وعندما شرعوا في استغلاله لم يعد ممكناً أن يجد فيه الملاذ الذي اعتاد أن يلجأ اليه، ولم يجد عبد الناصر إلى أن مات موقعاً آخر بديلاً يمكن أن يلهو فيه.
هذا عن عبد الناصر الزاهد.. أما عند عبد الناصر الصوفي فنجده عند حسن عباس زكي الذي عمل لفترة مع عبد الناصر وزيراً للاقتصاد، لم يقل عباس زكي إن عبد الناصر كان صوفياً كاملاً ولكنه كان على الطريق.. حيث كانت بينهما خلوات روحية وإشراقية ولقاءات لم يكن يحكمها البروتوكول التقليدي بين الرئيس والوزير، وحتى في قضايا الدولة العليا كثيراً ما كان يتم الاتفاق عليها خارج مجلس الوزراء.
وفي الحوار الذي أجراه حسن عامر مع حسن عباس زكي ونشرته روز اليوسف عام 1994 ذكر الوزير عدة وقائع لا تؤكد صوفية عبد الناصر فقط.. ولكن تؤكد أنه كان يحاول أن يراعي الله في كل قراراته.
الواقعة الأولى: يحكي حسن عباس زكي: أذكر أنني حذرت عبد الناصر من النظام المصرفي كميراث للاستعمار قلت له: إن النظام المصرفي يعبث بمقدرات الأمة والأفراد ويشجع الأفراد على الاكتناز والجبن، ومن هنا انتشرت العبارة الشائعة أن رأس المال جبان وأنه يفضل الملاجئ الآمنة حتى وإن كانت ضد صالح الوطن والمجتمع والناس، فالبنوك تجمع المدخرات باعتبارها ملاجئ آمنة، وتدفع مقابلاً للإدخار يعرف بمعدل الفائدة، سألني عبد الناصر: لكن البنوك لا تقبل الودائع فقط، بل تقدم القروض من أجل العمران الذي تتحدث عنه؟... قلت له نعم.. لكن ما هو المقابل لذلك.. المقابل معدل فائدة متصاعد ومتضاعف، إن معدلات الفائدة تضاف دائماً وأبداً إلى تكلفة السلع والخدمات وكلما ارتفعت تكلفة السلع والخدمات تدهورت الأوضاع المعيشية للفئات الاجتماعية الأكثر فقراً وقهراً.
سأل عبد الناصر عباس زكي قائلاً: وما هو البديل يا حسن، فرد عليه: نلغي الفائدة، فقال عبد الناصر بلهفة كيف؟ .. فرد الوزير: المسألة بسيطة للغاية.. أن يتحول نظام الإيداع المصرفي بالفوائد إلى نظام مشاركة في رأس المال والأرباح.. ويمكن أن يتم ذلك بأن نبدأ التطبيق على بنك التسليف الزراعي، إن الفلاحين في هذا البلد هم أكثر الناس عرضة للخراب بسبب نظام الفوائد المصرفية، هل تذكر يا سيادة الرئيس كيف استولى الأجانب على أرض الفلاحين المصريين، كان بنك التسليف بداية الخراب، أغرقهم بالقروض ثم أغرقهم في الإفلاس.. الفلاحون يا ريس هم أحق الناس بالرعاية بعد العذابات الطويلة التي تعرضوا لها.
كان عباس زكي يتحدث وعبد الناصر مستغرقاً في التفكير.. وفجأة التفت له قائلاً: حسن المسألة صعبة وعاوزة تفكير، وبعد أيام كان على الهاتف حمد أحمد سكرتير الرئيس وقال لحسن: الريس بيسألك فاكر موضوع البنوك، حضر له مذكرة مختصرة حول الموضوع كي يتناوله في خطابه في 23 يوليو 1961، أعد حسن عباس زكي المذكرة وسلمها إلى الرئاسة وكان تعليق عبد الناصر على ذلك : ( في بلدنا طبعاً كلنا نكره الربا ونكره الفايدة لكن التعامل الاقتصادي مش بهذا الشكل، بنجرب نلغي الربا في بنك التسليف، حنسلف الفلاحين دون أي فايدة عاوزين نقضي على الربا)، أما تعليق حسن عباس زكي على ما قاله عبد الناصر: تصوروا لو أن عبد الناصر ليس لديه هذا الاحساس الإيماني العميق.. لو لم تكن لديه كل هذه الصوفية.
الواقعة الثانية يحكيها عباس زكي: عندما خرجت من الوزارة لم تنقطع علاقتي الخاصة بالرئيس وكثيرا ما كان يطلبني للمقابلة والمناقشة وفي احدى المرات ذهبت اليه، كان في حالة عميقة من الاحباط والضيق، طيبت خاطره وقلت له: عندما أكون في هذه الحالة أتوضأ وأصلي وأتأمل الخالق الأعظم أناجيه وأدعوه، إن ثوابك عظيم يا سيدي الرئيس على قدر رؤيتي الروحية، تكفي صلواتك الخمس مع كل هموم الشعب ومشاكله التي تحملها فوق كتفيك، يكفي ذلك لتكون الجنة مثواك، ومع ذلك فأنت في حاجة بين حين وآخر أن تقطع الطريق على نوبات الإحباط والضيق.
وضع عباس زكي الحل أمام جمال عبد الناصر، قال له: ربما يحتاج الأمر إلى جلسة روحية مع أحد الأولياء الصالحين، جلسة مصارحة ومكاشفة للرب الخالق الأعظم، جلسة تطهر وشفافية، لن تندم يا سيدي الرئيس لو جربت، سأله عبد الناصر بتلقائية: عايزني أعمل أيه يعني، فقال له الوزير الذي كان في وقتها سابقاً: انصحك باستضافة العارف بالله الشيخ أحمد رضوان، هذا الوالي يقيم في قنا، لا تنزعج من مظهره، إن هؤلاء الناس لا يلقون بالا لهذه الشؤون الدنيوية، أجلس معه واكشف له عن مواجعك تخفف مما يثقل ظهرك فإن مع العسر يسرا.
ويبدو أن حالة الضيق التي ألمت بعبد الناصر كانت عنيفة للغاية، فقد استجاب بسهولة لاقتراح حسن عباس زكي قال له: طيب ياسي حسن كيف نأتي بالشيخ أحمد رضوان، فقال له: اترك الأمر لي، سافر عباس زكي إلى الشيخ أحمد رضوان وطلب منه أن يزور الرئيس، فأقبل الشيخ على الزيارة وتم اللقاء وعند الوداع وقع أمر التبس على عبد الناصر، فاتصل بحسن قائلاً له: يا حسن شيء ما أغضب الرجل مني، سأله: (ماذا حدث) فقال جمال: قدمت إلى الرجل علبة صدفية وبها بعض الفلوس رفضها وغضب، فرد حسن: لا عليك هؤلاء الناس لا يهتمون بالدنيا وما فيها.. دعني أصلح الأمر.
ذهب حسن عباس زكي إلى الشيخ رضوان وسأله عما حدث، تمنع الشيخ في البداية فقال له حسن: إن الناس يدعوك لزيارته مرة أخرى فرحب الشيخ رضوان مستبشراً وكأن شيئاً لم يقع، ويقول عباس زكي: زال الإلتباس وبقى الاشراق وقبل الزيارة قلت للرئيس أعطه مسبحة أو مصحفاً وبعد الجلسة الثانية سارت العلاقة بين الرئيس والعارف بالله الشيخ أحمد رضوان ولم اتدخل في الأمر بعد ذلك فقد عرف كل منهما طريقه إلى الآخر.
كان هناك ود متبادل بين جمال عبد الناصر والصوفيين.. بل كان هناك اعجاب من بعض أقطاب الصوفية الكبار بالرجل.. والواقعة الثالثة تؤكد ذلك... بطلها كما يقول عباس زكي رجل سوداني من آل الطريق اسمه ـ السيد البدوي السمان ـ كان الرجل في خلواته الليلية يصلي ويقرأ الأوراد، كان الصمت سائداً مجرداً من مفردات الحياة لا مكان للدنيا ولا زمان للروح.
فجأة تنبه السيد البدوي السمان إلى شيء ما اخترق الجدار وسقط على الأرض، تلفت الرجل فوجد خاتماً لامعاً لا هو بالذهب ولا هو بالفضة ولا هو من أي معدن يتعارف عليه البشر، أدرك الرجل أن الخاتم جاء من عالم آخر يعرف أبعاده الواصلون على طريق الله، استلقى الرجل غير نائم، سمع هاتفاً يقول:سلم هذا الخاتم إلى جمال عبد الناصر، كان الهاتف أمراً ومثل هذا الهواتف لا ينكرها المتصوفة.. بل يعملون على تنفيذها مهما كانت العواقب والعقبات.
سلم السيد البدوي السمان أمره إلى الله ودعاه أن يسهل له مهمة تسليم الوديعة السماوية إلى صاحبها بعد أيام دعى الرجل إلى (ونسة) سودانية يقيمها أحد الضباط الذين يقطعون الطريق إلى الله قال الرجل: سأذهب إلى مصر ممثلاً للقوات المسلحة السودانية في احتفالات الثورة المصرية، قال السمان: خذني معك، أجاب الضابط: على الرحب والسعة ما في مشكلة، فعلق السمان: لا فيه مشكلة، أنا أريد أن أقابل جمال عبد الناصر، قال له الضباط ببساطة: ما في مشكلة المفروض أان أجلس على المنصة التي يلقي منها جمال عبد الناصر الخطاب، في هذه الحالة سأقول إنك رفيقي في تمثيل القوات المسلحة السودانية، ولن أجد أي مشكلة في أن تكون إلى جانبي إلى المنصة وتستطيع بعد الخطاب أن تلتقي بعبد الناصر وتتحدث إليه كيفما شئت.
في القاهرة وجد السمان نفسه وجها لوجه أمام جمال عبد الناصر، بعد أن القى عبد الناصر خطابه ذهب ليرحب بالسودانيين ويتباسط معهم في الحديث قال لهم: إنه لا ينسى الأيام التي قضاها ضابطاً في السودان وسألهم عن بعض العائلات وعن الأحوال وعن ليالي الونسة، فقال له السمان: يا سيدي الرئيس أنا رجل فقير إلى الله، ما كان مقدراً لي أن أكون هنا الليلة لولا ليالي الونسة التي فتحت لي الطريق اليك، فهل تسمح بأن تقبل هدية متواضعة من الرجل الفقير إلى الله، قال عبد الناصر بعد أن رأى الخاتم: بكل ترحيب ووضع الخاتم في يده قائلاً: هذه بركة من السودان فكيف أرفضها.
ظل هذا الخاتم في يد عبد الناصر لا يفارقه لسنوات طويلة، وقبل وفاة عبد الناصر بعدة شهور ظهر السمان في القاهرة، اتصل بحسن عباس زكي وقال له: أريد أن أراك على الفور، قابله عباس في فندق الرضوان بالحسين الذي كان يقيم فيه ودار بينهما حوار قصير للغاية.
السمان: إنني أخشى على الرئيس جمال عبد الناصر؟
زكي: لماذا؟
السمان: رأيته في الحلم وقد خلع الخاتم هل تستطيع أن تسأله لماذا خلعه.. وانصحه أن يلبسه من جديد.
حمل حسن عباس زكي الرسالة لعبد الناصر عن الخاتم... فقال له جمال: إنه لم يره منذ عدة شهور واستدعى محمود الجيار وكان وقتها مسؤولاً عن الطابق العلوي في بيت الرئيس... قال الجيار إنه لم ير الخاتم منذ مدة بالفعل ووعد بالبحث عنه، بعد أيام أخبر عبد الناصر عباس زكي بأن الخاتم مفقود بالفعل.. وطلب منه أن يطلب من السيد البدوي السمان أن يدعو الله أن يعثر على الخاتم.. وفعلها الرجل.. صلى وصام واختلى إلى الذات العليا.. لكن البركة لم تقع، أبلغ السمان عباس زكي أنه راحل إلى السودان وكان الله في عون عبد الناصر.. قال عبارته الأخيرة باكيا.. وبعد أيام مات عبد الناصر.
قد يعتبر البعض قصة السيد البدوي السمان مجرد أسطورة.. لكنها تؤكد أن عبد الناصر في إيمانه كان مثل المصريين جميعاً.. يصلي ويصوم ويعتصم بالله وقت الشدائد.. ويضع خده على يد اولياء الله الصالحين يطلب منهم البركة. وربما العون، وكان في عبادته حالة خاصة.. فهي سر بينه وبين ربه.. ليس لأحد أن يطلع عليها إلا بمقدار، ويبدو أن عبادته كانت أمراً طبيعياً لكل من حوله ولذلك لم يتحدثوا عنها مطلقاً.. فمن كلام حسن عباس زكي له.. أنه تكفيه الصلوات الخمس مع هموم المصرين ليدخل الجنة، ولم يكن عباس ليقول له ذلك.. لو لم يكن على علم بأن عبد الناصر يحافظ على الصلاة.
سلوك عبد الناصر لم يكن وحده الذي يؤكد إيمانه العميق.. ففقرات عديدة من ميثاق الثورة تشير إلى اهتمامه بالدين وجعله منهاجاً للأمة.
يقول الميثاق: إن القيم الروحية الخالدة النابعة من الأديان قادرة على هداية الإنسان وعلى إضاءة حياته بنور الإيمان وعلى منحه طاقات لا حدود لها من أجل الخير والحق والمحبة.
ويقول: إن رسالات السماء كلها في جوهرها كانت ثورات إنسانية استهدفت شرف الإنسان وسعادته، وإن واجب المفكرين الدينيين الأكبر هو الاحتفاظ للدين بجوهر رسالته.
ويقول: إن جوهر الرسالات الدينية لا يتصادم مع حقائق الحياة وإنما ينتج التصادم في بعض الظروف من محاولات الرجعية أن تستغل الدين ضد طبيعته وروحه لعرقلة التقدم وذلك بافتعال تفسيرات له تتصادم مع حكمته الإلهية السامية.
ويقول: لقد كانت جميع الأديان ذات رسالة تقدمية ولكن الرجعية التي أرادت احتكار خيرات الأرض لصالحها وحدها، أقدمت على جريمة ستر مطامعها بالدين وراحت تلتمس فيه ما يتعارض مع روحه ذاتها لكي يتوقف تيار التقدم.
ويقول: إن جوهر الأديان يؤكد حق الإنسان في الحياة والحرية، بل إن أساس الثواب والعقاب في الدين هو فرصة متكافئة لكل إنسان، إن كل بشر يبدأ حياته أمام خالقه الأعظم بصفحة بيضاء ويخط فيها أعماله باختياره الحر ولا يرضى الدين بطبقية تورث عقاب الفقر والجهل والمرض ولغالبية الناس وتحتكر ثواب الخير لقلة منهم.
ويقول أخيرا: إن الله جلت حكمته وضع الفرصة المتكافئة أمام البشر أساسا للعمل في الدنيا وللحساب في الآخرة.
بهذه الروح كتبت هذه الفقرات من الميثاق.. قد يكون تم الخروج عليها بأمر السياسة لكنها في النهاية تعكس إدراكاً واعياً لدور الدين في حياة الشعوب، لقد حاول البعض تشويه تجربة عبد الناصر الإيمانية فصادروها منه تماماً ووصلوا به إلى درجة الكفر والإلحاد.. وهو كلام ليس حقيقياً.. فلم يكن عبد الناصر ملحداً.. وإن كان لنا أن نقول شيئاً.. فإن عبد الناصر حاول مثل غيره ممن حكموا ويحكمون أن يستغل عاطفة الناس الدينية.. لتحقيق بعض أهدافه.
إن عبد الناصر وفي عام 1954 عندما زار السعودية وبعد أن خرج من قصر الضيافة قصد إلى أداء السعي بين الصفا والمروة مبتدئاً من الصفا منتهيا بالمروة سبع مرات، وقد رفض أن يركب في هذا السعي سيارة جيب وفضل أن يسعى ويهرول على قدميه، وكان لعبد الناصر رأي محدد في الصحف. حيث كان يرى أنه لا يجب أن تباع الصحف بالدعارة.. بل هاجم مجلة صباح الخير بسبب رسوم حجازي التي كانت تنشر بها، لان المرأة في رسوم حجازي لها نسب مثيرة في أردافها.. بل كان يهاجم النكت والرسوم التي يظهر فيها الزوج مخدوعا والزوجة تخبئ رجلاً في الدولاب.
وفي عهد عبد الناصر كما يقول طلعت رضوان في كتابه (العسكر في جبة الشيوخ.. الأصولية الإسلامية قبل وبعد 1952) أصدر كمال الدين حسين وزير التربية والتعليم قرارا وزاريا بتحريم الموديل، وفي عهد ناصر تم افتتاح محطة اذاعة للقرآن الكريم.. وقد استعان طلعت رضوان بعدد ضخم من خطابات عبد الناصر الرسمية.. ليؤكد أنها كانت طافحة بعبارات الإيمان والاستعانة بالله.. لم يفعل ذلك رضوان في إطار تأكيده الحس الإيماني عند عبد الناصر ولكن ليؤكد أن ناصر كان في النهاية خاضعاً للثقافة الدينية السائدة التي كانت وما زالت تبتز عواطف المصريين وتدغدغ مشاعرهم وتبتذل أحاسيسهم.. قد يكون عبد الناصر قد فعل ذلك بالفعل.. لكن ذلك لا يمنعنا أن نؤكد إيمانية بعد الناصر وصفاءه الروحي وصوفيته التي عكرتها السياسة.. فكانت مثل المطية التي يركبها صاحبها حتى يصل بها إلى هدفه.. ثم لا يهتم بعد ذلك بمصيرها!.
* * *
ضريح جمال عبد الناصر
وضع جمال عبد الناصر كل من كتبوا عنه في ورطة.. فالذين أحبوه رفعوه إلى درجة الأنبياء، وأوصلوه إلى سدرة المنتهى، التي لا شيء بعدها سوى وجه الله الواحد.. والذين خرجوا عليه حاولوا النيل منه، فأنزلوه منازل السفاحين ومصاصي الدماء والقتلة الذين لا يراعون ذمة ولا دينا..
وبين الهائمين بحبه.. والكافرين برسالته.. يبقى عبد الناصر صلباً عجزت الأيام عن قهره أو تشويهه أو الانتقاص من تجربته.. هزم الزمن واستولى عليه وأصبح في ضمير الناس وليا من أولياء الله الصالحين، ليس مسموحاً لك في حضرته ألا أن تجله وتعظمه وتخشع في مقامه، وإذا أردت أن تقول شيئاً ينال منه، فمن الأفضل أن تقوله في سرك.. ولا تطلع عليه أحداً، لأنك لو صرحت بما في نفسك.. تكون عاديت وليا... ومن يعادي وليا فقد آذنه أنصاره بالحرب!
آلاف المقالات.. مئات القصائد.. عشرات الكتب.. دارت بها المطابع الساخنة، لم يترك الكتاب الصحفيون صغيرة ولا كبيرة في حياة عبد الناصر إلا أحصوها، لم يكن من نصيبه ملكان واحد يحصى حسناته وآخر يعد عليه سيئاته.. ولكن صادف في كل شارع كاتباً.. وفي كل حارة مؤرخاً.. وفي كل عطفة ناقداً.. وفي كل زقاق صحفياً.. الكل يكتب.. قليل من كتب لوجه الله.. وكثير كتبوا لوجوه غيره وهي لا تعد ولا تحصى.
القائمة طويلة.. بدأت عملها منذ صافح وجهه عيون المصريين وحتى اللحظة التي تقرأ فيها هذه السطور.. من حسنين هيكل إلى عبد العظيم رمضان ومن أحمد بهاء الدين إلى أنيس منصور. ومن صلاح حافظ إلى مصطفى أمين.. من العقاد ـ بسلاطة لسانه ـ إلى نجيب محفوظة بدماثة أخلاقه.. كتبوا جميعاً وليس علينا سوى أن نقرأ..!
بعد 47 يوماً من قيام الثورة كتب هيكل مقاله الأول عن عبد الناصر بعنوان (السكوت الذي ترقد تحته العاصفة) بعد هذا المقال ومقالات أخرى سكن هيكل رأس عبد الناصر.. أو كما قال ناصر لمحسن عبد الخالق ـ الذي عمل مديراً لمكتبه في الفترة الأولى من الثورة (إن هيكل ببساطة يجلس في رأسي).. كانت هذه الجملة خاتمة لحديث دار بين عبد الناصر ومدير مكتبه، قال له فيه: أنت تعلم أنني لم أكن أعرف هيكل معرفة وثيقة، بل وكنت معرفتي وعلاقتي هي بالآخرين، ولكن هيكل هو الوحيد الذي فهمني وفهم ما يدور في عقلي قبل أن أترجم فكري إلى كلمات.
هيكل نفسه لخص سر علاقته بعبد الناصر في حديثه لمجلة الحوادث اللبنانية في عدد 25 يونيو 1971.. قال: الذي صنع لي مركزي عند عبد الناصر شيء واحد هو قدرتي على خدمة الهدف العام، الذي كان يسعى إلى تحقيقه، لم أكن أقرب الناس اليه، كان هناك غيري أقرب، كان هناك أحمد أبو الفتح وإحسان عبد القدوس وحلمي سلام، وكذلك لم أكن واحداً من الضباط الأحرار، وأي حيز أخذته من تقديره مرجعه شيء واحد، هو قدرتي على خدمة الهدف الذي يسعى إليه.
لم يكن هيكل هو الأقرب، كان هذا في البداية على الأقل.. لكنه ومنذ اللحظة التي دخل فيها محراب عبد الناصر لم يخرج منه حتى الآن، بل إنه لا يزال يدافع عن الحلم الذي جاء به جمال عبد الناصر، عنده انتقادات لتنفيذ الحلم، لكنه يؤمن أن الحلم ما زال صالحاً.. ولذلك لا يدخر وسعاً للدفاع عنه.
بعد أربعين يوماً من موت عبد الناصر حاول هيكل أن ينقذه من أيدي الدراويش الذين حاولوا إخراجه من خانه الزعماء الذين قاموا بدورهم الوطني ثم مضوا إلى ساحة القديسيين والإلهة الذين لا تجري على أيديهم الأخطاء.. فكتب مقاله الذي هز مصر كلها( عبد الناصر ليس أسطورة).. لكن عندما بدأت حملة تشويه عبد الناصر.. بعد أن انتصر السادات في حرب أكتوبر، واستبدل شرعية الحكم بأنه خليفة عبد الناصر.. بشرعية الحكم بأنه القائد المنتصر، كانت الرياح عاتية.. اضطرته للخروج عن صمته.. فكتب( لمصر.. لا لعبد الناصر).
كانت حملة التشويه عاتية، استباحت ضمن ما استباحت التاريخ والأخلاق والأمانة والشرف، جلس هيكل ليكتب.. وانسابت الكلمات قال: حاولت قدر ما استطيع أن أتجنب الكتابة عن جمال عبد الناصر وحياته الحافلة وتجربته الكبيرة، ولم أقترب من الحديث إلا عند الضرورة القصوى فعلت ذلك مرة في أعقاب رحيله مباشرة، ونشرت مقالاً في ذكرى الأربعين على رحيله بعنوان(عبد الناصر ليس أسطورة) أبديت فيه خشيتي من استغلال المستغلين ـ لأغراضهم ـ لقصة البطل فيه والرمز، وعبرت عن مخاوفي من تحويل تراثه إلى كهنوت غيبي جامد، بينما هو في الحقيقة تجربة إنسانية زاخرة قابلة للحياة والنمو والتطور!
الكلام موصول مع هيكل يقول: وقد فعلت ذلك أخيراً وقبل عدة شهور، في ذكرى مرور 23 سنة على ثورة 23 يوليو، وكانت الحملات ضد عبد الناصر في مصر قد تصاعدت، وأردت فقط أن أنبه إلى مقاصدها والى مصادرها، ولعلي لم أتجاوز كثيراً حين نسبتها إلى مخططات قوى السيطرة العالمية بشكل عام، والى وكالة المخابرات المركزية الأمريكية بشكل خاص، ولم يكن ذلك تخميناً أو رجماً بالغيب.. وإنما كان استناداً إلى حقائق معروفة أكدتها ملفات هذه الوكالة التي كانت مفتوحة لمن يقرأ ويفهم ويستوعب خلال السنتين الأخيرتين.
رأى هيكل أن الحملة على عبد الناصر هي محاولة اغتيال معنوي بعد محاولات متكررة ـ لم تنجح ـ في اغتياله ماديا بالقتل منذ ظهوره وبروزه على مسرح السياسة العربية والعالمية كواحد من أكبر زعماء حركة الثورة الوطنية.
عندما كتب هيكل عن عبد الناصر ليرد غيبته قال: لا ينبغي أن يكون ما أكتبه في مجال الدفاع عن جمال عبد الناصر، فهو لا يحتاج مني ـ ومن غيري ـ إلى دفاع عنه، ومع إيماني بأن أي تقييم نزيه لتجربة عبد الناصر سوف يعطيه أكبر بكثير مما يأخذ منه، فإن قوى الثورة المضادة الظاهرة على السطح الآن تستطيع التركيز على الجوانب السلبية لكي تضرب بها الجوانب الإيجابية الضخمة.
وضع هيكل من هاجموا عبد الناصر في خانة اليك أكثر من مرة.. قال: من هاجموا عبد الناصر لم يتجاسروا جميعاً على سلبياته حتى جاء الموت ومنحهم الحرية، وهذا شيء سيء وأسوأ منه أنهم ظلوا من 28 سبتمبر 1970 إلى بداية سنة 1974 يتمسحون بذكرى الراحل والرحيل كأنهم لا يصدقون المقادير، ثم بعد أربع سنوات كاملة اطمأنوا فيها إلى أن الجسد المكفن بالثوب الأبيض لم يخرج من قبره.. فتحو أفواههم وتكلموا.. وتجاوز الكلام كل حد معقول، وكان آخره اتهام جمال عبد الناصر بأنه اختلس لنفسه وهرب إلى الخارج لحسابه مبلغ خمسة عشر مليوناً من الدولارات: خمسة منها قدمها الملك سعود تبرعاً للمجهود الحربي المصري، والعشرة الباقية قدمها الملك سعود أيضاً قرضاً لمصر، ولكن جمال عبد الناصر أغتصب هذا كله لمنفعته الشخصية وأودع الأموال في حسابه باسمه في الخارج، بل إن عبد الناصر أقدم على هذا التصرف في وقت محنة عربية كبرى وهي تلك الأيام السوداء من يونيو 1967.
دافع هيكل عن عبد الناصر بالوثائق كعادته، رفض اغتيال ذكراه وتاريخه معنوياً بالتشويه والتشويش ووصل إلى أن تجربة عبد الناصر بإيجابياتها وسلبياتها، تجربة مصرية عربية إنسانية أصيلة، ومناقشتها حق، لكن إدانتها الشاملة باطل لا يصح.
يظل هذا موقف هيكل لا يتغير.. ففي ندوة عقدتها له مجلة روز اليوسف ونشرتها في عدد 14فبراير 1994 قال (والكلام نصا): لقد حدث في عصر عبد الناصر اشياء لا أنكرها، لكن إذا ألغيت شرعية 23 يوليو وكل يوم تضرب في اساس شرعيتك ألا يفقدك هذا شرعيتك أنت، فإذا لم تكن خارجاً من 23 يوليو، وإذا لم تكن مسؤلاً عن كل سجل 23 يوليو، وإذا لم تكن مسؤولاً عن المحاسبة، ولكنك فقط تعطي موقف الإدانة، وإذا وجدت أن ما كان قبلك لا تستطيع الدفاع عنه، إذن أرجع للناس وأطرح دستوراً جديداً وقل حاجة ثانية، واعمل الجمهورية الثالثة وابدأ بداية جديدة).
يد هيكل تسلمنا مباشرة إلى يد مصطفى أمين.. في صباح 14 أكتوبر 1952، على الصفحتين الأولى والثالثة من جريدة الأخبار كتب مصطفى أمين مقالاً عن عبد الناصر لم يوقعه باسمه.. لكنه كال له في المديح.. ألمح مصطفى أمين إلى أن جمال عبد الناصر هو القائد الفعلي للثورة، وأن بقية الضباط ساعدوه فقط.. بقية الضباط هذه جمعت ضمن ما جمعت جمال سالم وأنور السادات وعبد اللطيف البغدادي وحسن ابراهيم وصلاح سالم وكمال الدين حسين وخالد محيي الدين، لم يكتف مصطفى أمين بذلك بل نشر صورة كبيرة لجمال عبد الناصر في الصفحة الأولى إلى جوار المقال، ونشر صور الضباط الآخرين بحجم أصغر في الصفحة الثالثة.. فعل مصطفى ما هو أكثر.. فلم يشر إلى محمد نجيب لا من قريب ولا من بعيد.. لا بالخير ولا بالشر!
صفات عبد الناصر جذبت مصطفى أمين.. فكتب عنه واصفاً بأنه يتحدث بأعصاب حديدية صارمة، وبوجه هادئ جامد.. وشعره الأشيب يروي قصة كفاح سري عجيب لم يتصوره أحد ولم يعلم به أحد.
غضب الضباط من مقال مصطفى أمين.. عاتبوا عبد الناصر وعندما سألوه قال لهم: أنا لم أقل شيئاً لمصطفى أمين.. والمقال كله من تأليفه.. وعندما سأل محسن عبد الخالق مدير مكتب عبد الناصر مصطفى عما حدث، فأقسم له أن جمال عبد الناصر هو صاحب فكرة المقال وهو الذي أملى عليه كل المعلومات التي نشرها، وقع الضباط في حيرة.. وضاعت حقيقة المقال بين ادعاء مصطفى أمين وإنكار عبد الناصر.
هذا الحماس لجمال عبد الناصر تلاشى تماما بعد أن قضى مصطفى أمين تسع سنوات من حياته نزيلاً في سجون ناصر بتهمة التخابر مع أمريكا ضد مصر.. خرج مصطفى أمين من السجن في 27 يناير 1974.. وبدأ الكتابة عما حدث له في سجون عبد الناصر، وبدأت الصحف السعودية والصحف اللبنانية والمصرية الممولة من السعودية تفتح ذراعيها لروايات مصطفى أمين والتي بدأها بكتابيه(سنة أولى سجن). ثم (سنة ثانية سجن).
ظل مصطفى أمين يعتبر عصر عبد الناصر كله فعلاً ماضياً وفقط.. بل إنه كتب مقالاً ضمه كتاب أصدرته دار المعارف في 6اكتوبر 1974 منحه عنوان(كان فعل ماضي) قال فيه سمعت السيدة الاولى جيهان السادات أن قاعدتين جويتين في أنشاص والمنصورة قاما ببطولات ضخمة في الميدان أثناء المعركة، وأن قائدي القاعدتين قاما بعمليات فدائية مذهلة، وضربا أرقاماً قياسية في عمليات الهجوم، وقررت السيدة الأولى أن تزور القاعدتين، وبدأت بزيارة قاعدة أنشاص وحيت الطيارين الأبطال وأقاموا لها حفلة شاي بسيطة، وجلست والى يمينها قائد قاعدة أنشاص وسألته ـ ما الذي جعلكم تحاربون بهذه البطولة؟ ولماذا لم تحاربوا في سنة 1967 كما حاربتم في أكتوبر!
قال القائد الشاب.. كنا بالأمس نحارب .. وننظر خلفنا لنرى الذين يكتبون التقارير ضدنا .. أما اليوم فحاربنا ونحن نشعر أننا أحرار.
قالت السيدة الأولى: وأنت لماذا حاربت بكل هذه الشراسة والفداء؟ قال القائد الشاب: لأنني كنت مسجوناً في السجن ظلماً، وأخرجني أنور السادات من السجن، وأعادني إلى الجيش وسلمني هذه القيادة وأردت أن أثبت أنني كنت مظلوماً.
وزارت السيدة جيهان السادات قاعدة المنصورة، وأرادت أن تتجاذب أطراف الحديث مع قائد المنصورة فقالت له: هل تعرف قائد أنشاص؟ قال قائد المنصورة: كيف لا أعرفه.. لقد كان معي في السجن!
خرج مصطفى أمين من ذلك بأن حرب أكتوبر أثبتت نظرية جديدة في منطقة الشرق الاوسط، وهي أن الأحرار ينتصرون والعبيد يستسلمون، ويعود مصطفى أمين ليقول: منذ أيام أقام الأمير سلطان وزير الحربية السعودي مأدبة عشاء في فندق شيراتون، ورأيت ضابطاً كبيرا يقبل علي مبتسماً، وعرفت من صورته أنه الفريق أحمد بدوي قائد الجيش الثالث الذي ناقشه الرئيس أنور السادات في اجتماع مجلس الشعب عن أعماله البطولية وظهر في التليفزيون وتحدثت عنه الدنيا، وتقدم نحوي وهو يقول: ألا تعرفني. لقد كنا زملاء، قلت للفريق بدوي: هل كنت سيادتك تعمل في الصحافة، قال: لا كنت في السجن!
يختم مصطفى أمين مقاله بقوله: ألم أقل لكم أن كان فعل ماض، أراد مصطفى في هذا المقال أن يتحدث عن السادات.. لكنه تحدث عن عبد الناصر.. وجدها فرصة ليخلص تارة منه.. وقد فعلها.. فقد هزمت مصر لأن أهلها كانوا عبيداً نزلاء في سجون عبد الناصر.. والعبيد لا ينتصرون.. أما السادات فقد انتصر لأنه حرر المصريين وأخرجهم من السجون.. وحارب بهم وهم أحرار!
ولا أعرف ... ماذا سيكون رأي مصطفى أمين في تجربة عبد الناصر، لو لم يسجن في عهده بتهمة قاسية وهي التخابر.. هل كان سيغير رأيه.. أم أنه كان سيركب الموجة التي ركبها كتاب آخرون، لم يسجنهم عبد الناصر ومع ذلك هاجموه ونالوا منه.. ولكن لماذا أقول.. لو.. ولو تفتح عمل الشيطان وأعمال آخرين لا يقلون دناءة عن الشيطان.
* * *
قصة أخرى دخل بها عبد الناصر عالم الصحافة والأفكار.. تلك هي قصته مع إحسان عبد القدوس، وليس مفاجأة أن نقول أنه كانت لإحسان منزلة خاصة عند عبد الناصر، فقد كان يعتبره واحداً من صناع ثورة يوليو بما كتبه من الأسلحة الفاسدة قبل الثورة.
في حواره مع نبيل أباظة قال إحسان: أنا كنت أعيش في حماية عبد الناصر، فبعد أن أمر بحبسي 1954 أفرج عني وظل يعتذر لي لمدة شهر، كل يوم يتصل بي ويدعونني على العشاء، وبعد ذلك والى أن مات ظل يحميني وينقذني من أي مصيبة يسلطها على واحد من الأذناب، وحدثت مناسبات كثيرة كان عبد الناصر هو الذي يرفع الظلم عني.
في 22 مارس 1954 كتب إحسان عبد القدوس عن الجمعية السرية التي تحكم مصر.. قال: (من يحكم مصر منذ قيام حركة الجيش؟ إنه مجلس قيادة الثورة؟ ماذا تعلم أنت عن مجلس الثورة وما يدور فيه، وماذا يعلم عنه أي مصري سواء كان مقربا من أعضاء هذا المجلس أو مبعداً عنهم؟ لا شيء... لا شيء البتة.. إنه جمعية سرية.. لا تزال كما كانت قبل الحركة تعمل تحت الأرض ويجتمع أعضاؤها بالنهار والليل.. لا يعلم أحد عما يتحدثون وماذا يقررون، وكان هذا هو الخطأ الأول والأكبر).
يقول إحسان عن هذا المقال: كانت الثورة تمر بأزمة كبيرة بين محمد نجيب وجمال عبد الناصر، وكانت هناك فترة إطلاق حرية الصحافة بلا رقابة، وكنت أرى أن مجلس الثورة لا يتصرف التصرفات التي أنا مقتنع بها في شأن مواجهة الجماهير، وتبلورت قناعاتي في أن يكون عبد الناصر حزباً سياسياً بعيداً عن الجيش ويصبح رجلاً سياسياً ويدخل الانتخابات وكنت متأكداً وواثقاً من نجاحه.
كان إحسان يتوقع أن يقرأ عبد الناصر المقال، لكنه لم يقرأه.. فسره له بعض المقربين منه تفسيراً مغرضا، فأصدر ناصر أمراً بالقبض على إحسان وظل الكاتب الكبير ثلاثة أشهر في السجن الحربي يحقق معه..
قال إحسان في التحقيق: كنت أقصد من المقال إن عبد الناصر يعمل حزبا ويدخل الانتخابات من أجل أن يثبت أن الثورة سياسية وليست عسكرية، سأله المحقق.. لكن إلا يمكن أن يكسب فؤاد سراج الدين الانتخابات؟ فرد إحسان: لا يمكن أن يكسب سراج الدين الانتخابات وإذا كسب فؤاد سراج الدين، يبقى لا داعي للثورة مطلقا.
كانت كل حركة وإيماءه من إحسان في السجن تصل إلى عبد الناصر، وبعد الإفراج عنه بعد ثلاثة شهور، وبعد عودته إلى منزله بنصف الساعة اتصل به عبد الناصر وقال له وهو يضحك: أتربيت ولا لسه؟ فقال له إحسان: والله أنا ما اعرفش اتربى من ايه. عشان اقولك اتربيت ولا ما اتربتش! فقال له عبد الناصر، طب تعالى افطر معي غداً!
اثرت فترة السجن على علاقة عبد الناصر بإحسان يقول: بعد أن خرجت من السجن سألني عبد الناصر: جرى لك إيه يا إحسان؟ قلت له جرى لي كتير قوي! ومن يومها ظل يدعوني للعشاء في بيته ثم نشاهد أفلاما سينمائية كانت تعرض في ملعب التنس في منزله، من أجل أن أنسى ما حدث، لكن لم أستطع أن أتجاوب التجاوب الطبيعي الكامل الذي بيني وبينه من قبل.. أحسست أن عبد الناصر حاكم وليس مجرد صديق، فمن يوم أن دخلت الزنزانة زال الإحساس بالصداقة بيني وبين عبد الناصر!
سجن إحسان عبد القدوس يقودنا إلى ملامح علاقة روز اليوسف والدة إحسان وأحمد بهاء الدين بعبد الناصر.. أما روز فقد أرسلت لعبد الناصر خطاباً مفتوحاً على صفحات مجلتها ضمها العدد 1300 الصادر يوم 11 مايو 1953، وضعته تحت عنوان( الحرية هي الرئة الوحيدة التي يتنفس بها الشعب.. أنك في حاجة إلى الخلاف تماماً كحاجتك إلى الاتحاد.. وقالت في مقالها لجمال: لا تصدق أن الحرية شيء يباح في وقت لا يباح في أوقات أخرى، فإنها الرئة الوحيدة التي يتنفس بها المجتمع ويعيش، والإنسان لا يتنفس في وقت دون آخر، أنه يتنفس حين يأكل وحين ينام وحين يحارب أيضاً، أنك بكل تأكيد تضيق ذرعا بصحف الصباح حين تطالعها، فتجد أنها تكون طبعة واحدة لا تختلف الا في العناوين، والناس كلهم يحسون ذلك ولا يرتاحون إليه، وقد قلت مرة أنك ترحب أن تتصل بأي جريدة أذا أحسست بالضيق.. ولكن أليس في هذا اظلم لك للصحفيين وللقضايا الكبرى التي تسهر عليها؟ ألم أقل إنك لن تستطيع أن تفعل وحدك كل شيء!
وبإحساس العارفة بجمال قالت له: لقد أقدمت في شبابك الباكر على تجارب هائلة، خضت بعضها ورأسك على كتفك لا تبالي مصيرك، وليس كثيراً من التجربة أن تجرب إطلاق الحريات.. أن التجربة كلها لا تحتاج إلى هذا ولا تحتاج إلا إلى الثقة في المصريين وأنت من تجب عليه الثقة في مواطنيه).
الأكثر من ذلك أن جمال عبد الناصر عندما دعا روز اليوسف لزيارته في مكتبه بقيادة الثورة ردت على من حمل لها دعوة الدعوة: إذا كان جمال يطلبني كحاكم فروز اليوسف لا تسعى إلى الحاكم.. لا عن رغبة ولا عن رهبة، وإن كان يطلبني لنتحدث حديث الأصدقاء، فعلى أصغر الأصدقاء سناً أن يسعى لأكبرهم، وخاصة إذا كان مكان اللقاء مجلة طالما سعد بالذهاب إليها والسهر فيها مع شاب ثائر مثله.
ظل إحسان عبد القدوس على فكرته ففي مارس 1954 كتب وفي روز اليوسف أيضاً مقالاً بعنوان (مصير الثورة.. ومصير رجال الثورة).. قال من بين ما قاله: لقد قلت لجمال عبد الناصر إن الناس لم تعرفه حتى اليوم إلا كضابط وكحاكم وصاحب سلطان وإن من حق الناس عليه، ومن حقه على الناس أن يعرفوه كصاحب فكرة شعبية يدعو لها بين صفوف الشعب، وهم لن يعرفوه ولن يعرفهم بنفسه إلا إذا خرج من الحكم ومن الجيش ومثل المعارضة في مقاعد في البرلمان، إلى أن يتقدم في الانتخابات التالية فيفوز فيها حتما بالأغلبية، كما يحدث في جميع الشعوب وفي جميع البرلمانات.
لم يعجب هذا الكلام قادة الثورة.. أخرج من بيته عنوة عام 1945ليجد نفسه في مكتب قائد السجن الحربي.. وإذا به بأحمد أنور قائد البوليس الحربي يقول لإحسان: أنت متهم يا إحسان بالتآمر على الثورة وقلب نظام الحكم فرد إحسان بآسى: تاني!.
طالت التحقيقات.. وبعد ساعات مضنية دق جرس التليفون.. كان المتحدث هو جمال عبد الناصر.. قال لإحسان معتذراً.. أعمل إيه بس يا إحسان اعذرني.. إن عبد الحكيم عامر سيعتذر لك باسم الجيش لأن البوليس الحربي تابع له..!.. عاد إحسان إلى بيته يقول: أحسست لحظتها بقشعريرة تهز كياني من الأعماق، وأنا أتصور برؤية الكاتب وخيال القاص الأبرياء وهم ينتزعون من بيوتهم في ظلمة الليل لكي يقذف بهم أعضاء المكاتب الخاصة خلف القضبان.
ثم يأتي أحمد بهاء الدين.. لم يتعامل مع عبد الناصر وجهاً لوجه على الإطلاق.. لكنه تعامل كثيراً مع سياساته وأفكاره ومبادئه، وجد بها نفسه أمام عبد الناصر مباشرة، عندما قبض على إحسان عبد القدوس يقول بهاء: اعتقل إحسان عبد القدوسن بسبب مقال كتبه.. كان ذلك بعد الثورة، واستفزنا هذا الاعتقال وفكرنا ماذا نفعل؟ وكيف نصدر بشكل عادي وننشر موضوعات ومقالات وكاريكاتير وتحقيقات كما تفعل أي مجلة أخرى ورئيس تحريرنا معتقل داخل السجن وفكرنا هل نمتنع عن الصدور أم ماذا نفعل؟
فكر بهاء كثيراً كيف يخرج من هذا المأزق، ثم صارح السيدة روز اليوسف، وقال لها إننا يجب أن نأخذ موقفاً مما حدث ونعلنه على صفحات المجلة، لكنها حذرته من عواقب هذا القرار فأقل شيء أن تصادر المجلة وبالتالي تفلس.
وبدلا من اعلان الموقف صراحة اختار بهاء الا تذكر المجلة على أي صفحة من صفحاتها ولا في أي سطر منها مجلس قيادة الثورة، لا في خبر ولا في موضوع ولا في مقال، ولأن الفكرة كانت جيدة بالفعل فقد وافقت عليها روز اليوسف، أثار القرار مجلس قيادة الثورة وحذروا بهاء اكثر من مرة بأن هذا التصرف ربما يؤدي إلى نتائج خطيرة، ولكنه اصر على موقفه قائلاً لهم: لن يذكر اسم (مجلس قيادة الثورة الا عندما يفرج عن إحسان عبد القدوس) ... وقد كان.
كتب بهاء عبد الناصر كثيراً.. وقف إلى جوار أفكاره ومبادئه. لكن ربما يندهش البعض عندما يعرفون أن بهاء لم يتعامل مع عبد الناصر شخصيا على الإطلاق، ورغم ذلك كان عبد الناصر يعلم أن بهاء ليس معبراً عن أحد.. بل هو يعبر عما يراه.. وهذا ما أنقذه كثيراً من أن ينزل سجيناً طوال فترة حكم عبد الناصر يقول بهاء: كان عبد الناصر يفرق بين الكاتب الذي يمثل سياسة حزب أو اتجاه او واجهة لأحد، وكاتب يكتب اللي في مخه.. وهذا ما حماني تماماً.. فقد تأكد أنني مقطوع الصلة بأي تيار ولم يكن لي ظاهر وباطن.
لا ينفي أحمد بهاء الدين أنه وقعت حالات ظلم في عهد عبد الناصر، بل إنه نفسه منعت له مقالات مثل غيره.. لكنه كان يرى أن هناك فرقاً بين صحفي مؤمن بأهداف الثورة ومبادر وسباق عن قناعة للمطالبة بهذه الاهداف، وهذا بالطبع لا يجعله معارضاً لها، وبين صحفي آخر دافع عن العهد القديم بشكل أو بآخر، يقول بهاء: ربما حماني وحمى الكثيرين علاقتهم بالثورة.. وأنا أقصد العلاقة العقيدية والاقتناعية التي لا ترتبط بشخص وعلى كل حال استطيع أن أقول إنني لا أذكر أنني نافقت حاكماً أو مسؤولاً.. ولو كانت ذاكرتي تخونني فقطعاً أنا كنت أقل الكتاب الصحفيين نفاقاً، والصحفي لا يستطيع أن يخفى أو ينكر ما كتبه لأنه مسجل على صفحات الجرائد.
* * *
على خط أحمد بهاء الدين يأتي صلاح حافظ.. الذي يحدد المشكلة من البداية يقول: فوجئ المثقفون بمعاملة سخيفة من جانب الثورة، كانت أكثر مهانة وإذلالاً مما كان سائداً أيام الأحتلال الإنجليزي والملك نفسه، ثم جاءت محاكمات الثورة، وكانت محاكم مضحكة فعلا، يرأسها ضباط، يلبسون ثياب القضاة فتبدو واسعة عليهم.
ويرى صلاح أن كل ذلك سبب (حزازة) حقيقية بين المثقفين وبين الثورة، ولم تكن حزازة سياسية، فقد كانت أشبه بالثآر الشخصي، وذلك لم يعط الفرصة الكافية للمثقفين للتأمل الهادئ والموضوعي وقد أدى ذلك بالمثقفين إلى أن يركزوا في أحاديثهم وكتاباتهم على الأخطاء والسلبيات، والمثقفون بطبيعتهم يصوبون أنظارهم دائماً إلى الأخطاء من أجل إصلاحها، فما بالك إذا كان المخطئ وهو الثورة يهينك في كل لحظة ويحاول النيل منك بشتى الطرق.
ولانه لابد من قول فصل فإن صلاح حافظ يعتقد أن أستمرار هذه الخصومة بين الثورة والمثقفين هو الذي ألجأ الثورة إلى أن تسيطر على الصحافة بشكل كامل، فعبد الناصر لم يكن قبل صدور تأميم الصحافة يستطيع أن يطرد صحفياً من صحيفته إلا اذا قرر حبسه، أما بعد التأميم فقد صارت الصحافة ملكه، ومن هنا صار بامكانه أن يمنعه من الكتابة دون الاضطرار إلى حبسه.
في كلامه عن عبد الناصر حاول أن يضع الأمور في نصابها حدث هذا أكثر من مرة فهو يرفض مصطلح الناصرية ويعتبره من الكلمات غير مصرية الأصل، لكنها أساساً من صياغات حزب البعث، ومن أفكار البعثيين تحويل أي مجموعة أفكار وتصك لها لفظ يضمها، يقول صلاح: المصريون كانوا يقولون فيما مضى مبادئ سعد زغلول، ولو كان حزب البعث موجوداً وقتها لأطلق عليه لفظ (الزغلولية) .. هنا المسألة صيغة لفظية.. ولو كان المصريون هم الذين قاموا بصك اللفظ لقالوا (مبادئ عبد الناصر).
ويذهب صلاح حافظ إلى أنه في عهد عبد الناصر كانت هناك عملية لبناء صورة عبد الناصر في الخارج وأخرى لبناء صورته في الداخل، كانت الصورة التي بنيت له في الداخل هي صورة الرجل الي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، أي انه أشبه إله، يقول صلاح: وأعتقد أن رفض عبد الناصر للإدلاء بأحاديث للصحف المصرية كان يعكس الخصومة بين الثورة والصحافة المصرية، أو على الأقل التقليل من شأن هذه الصحافة، لماذا أتكلم مع صحافة أملكها؟ ثم أتحدث مع من ؟ إن أي صحفي هو موظف عندي فلماذا أوثره بحديث صحفي وأجلس معه الساعات الطويلة بحديث يصبح بعده اسما لامعا.
ومن عبد الناصر يصعد صلاح حافظ إلى هيكل.. فهو يرى أن من أسباب عزوف عبد الناصر عن الإدلاء بأحاديث للصحافة المصرية، إصرار هيكل على أن يكون الأوحد الذي ينفرد بالحديث مع جمال عبد الناصر، ويناقشه، فلو ان عبد الناصر مثلا تحدث مع (زيد) من الصحفيين، لكان هذا إعلان بأن زيد لا يقل أهمية عند عبد الناصر عن (السيد هيكل) ويؤكد صلاح: إن هيكل كان رصيده الأساسي أنه المحاور اليومي لعبد الناصر وأن مقاله الأسبوعي (بصراحة) أنما هو أفكار عبد الناصر، أو هكذا أعتقد الناس، وأعتقد أن هيكل قد لعب دوراً في أن يجعل عبد الناصر لا يتحدث إلى الصحافة المحلية.
ليس غريباً بعد ذلك أن يقول صلاح حافظ أن الصحفيين المصريين كانوا مجرد قراء في حضور عبد الناصر. ويحكي: عام 1967 وعقب الأزمة مع إسرائيل عقد عبد الناصر مؤتمراً صحفياً.. حضر هذا المؤتمر مراسلوا وصحفيون من كل أنحاء العالم ودعى رؤساء التحرير المصريون لحضور المؤتمر، وأخذ كل صحفي يكتب أسئلته وتسلم إلى محمد فائق الذي كان يجلس بجوار الرئيس عبد الناصر، وكتب الصحفيون المصريون ما لديهم من أسئلة، وبدأ الصحفيين والمراسلين الأجانب إلى عبد الناصر وأجاب عنها جميعا، ولم يسلم له أسئلة الصحفيين المصريين.. ويخلص صلاح من ذلك إلى أن الصحافة المصرية كانت تشعر بالمذلة وأنها صحافة من الدرجة الثانية، إذا ما قورنت بالصحافة الأجنبية ولو كانت صحافة بلاد أقل قدراً من الصحافة المصرية.
* * *
كان صلاح حافظ موضوعيا.. يقول رأيه في عبد الناصر بصراحة.لكنه كان يرفض تشويه صورته واتهامه بالباطل.. ولذلك كان من بين الذين تصدوا لجلال الدين الحمامصي عندما طعن في ذمة عبد الناصر المالية.. ففي يناير 1967 أشعل جلال الحمامصي النار عندما أصدر كتابه (حوار وراء الأسوار )وشكك فيه في الذمة المالية لجمال عبد الناصر وقال إنه قام بتهريب 15 ميلون جنيه إلى الخارج.
ورغم أن الرأي العام هاج على جلال الحمامصي ورفض اتهاماته التي لم تقم على أساس لكنه أصدر كتاباً آخر هو (أسوار حول الحوار)شكك فيه مرة أخرى في ذمة عبد الناصر المالية، وبدا مصرا على رأيه، لم يكن ما كتبه الحمامصي لوجه الله.. ولكن كتبه لوجه السادات.. فقد تضمن كتابه الثاني فقرة واضحة وصريحة قال: وقعت الأخطاء الجسيمة.. بدأت مصر تسير نحو ضياع سياسي وعسكري، ومن هنا كان علينا أن نجري حواراً يحلل هذه الأخطاء خاصة أن رحيل الرئيس جمال عبد الناصر (الأبدي) ـ ولاحظ كلمة الأبدي ـ هذه فرض على الرئيس السادات وهو يواجه التركة المثقلة أن يعلن عن قيام ما سمى في بدايته (حركة تصحيح) وإن كان قد تغير الأسم إلى ثورة التصحيح.
تحرك الجميع.. أرسل توفيق الحكيم بعد أن عاد اليه وعليه إلى جلال الدين الحمامصي رسالة.. لم يستنكر فيها ما ذكره عن عبد الناصر ولم يؤيده.. لكنه قال له: ( يجب أن يوضع الاتهام الذي دفعك اليه واجبك الوطني الإصلاحي موضع تحقيق عادل دقيق من السلطات القضائية النزيهة.. وأن تطرح أمام المحكمة العليا بقضاة معروفين بالنزاهة والشرف، والا بقيت الشكوك تساورنا حول هذا الاتهام الذي سيظل قائماً ضد المتهم إلى ابد الدهر.
ربط جلال الحمامصي بين موقف توفيق الحكيم من اتهام عبد الناصر بالسرقة، وبين رغبة الشيخ الكبير في ان يصلح الخطأ الذي وقع فيه أيام عبد الناصر، يقول الحمامصي: كان توفيق الحكيم يتألم لأن التاريخ سيحمله مسؤولية صمته ككاتب له أثره، عن كل ما كان يحدث خلال هذه الفترة الطويلة من حكم عبد الناصر.. فهو الرجل الذي كتب (عودة الروح) واعتبر جمال عبد الناصر نفسه قبل أن يثب إلى السلطة المطلقة، أنه بطل الرواية الذي عناه توفيق الحكيم، بل أنه سجل على نسخة من الكتاب بخط يده كلمات تحمل هذا المعنى!
لم يكن هذا فحسب بل أن توفيق الحكيم ـ والكلام للحمامصي لا يزال ـ كان يريد تبرئة نفسه من تهمة الصمت، ذلك لأنه كغيره كان يعيش في العسل الذي كانت تكتب بمداده كل أكاذيب الصحف عن الإنجازات والانتصارات، وكان يتمنى أن ينزل إلى الميدان، داعيا إلى فتح الملفات لمعرفة الحقيقة التي كانت مجهولة لغالية الشعب.. ولذلك كتب (عودة الوعي) .. ليكشف بعضا مما عرفه وصمت عنه!
اعتبر صلاح حافظ أن اتهام الحمامصي لعبد الناصر ظاهرة صحية، لأن الاتهام كان جزءاً من ممارسة مباشرة لنقد الحاكم أو الزعيم مهما يكن وضعه، مهما يكن إيمان الناس به، فإذا كان هناك شخص واحد يشك في هذا الزعيم ويريد أن يكشف حقائق مجهولة عن هذا الزعيم للرأي العام فهذا حقه، لأن هذا الحق لم يكن متاحاً وأصبح متاحاً الآن.
ولم يمانع صلاح حافظ أن تكون في مواجهة ظاهرة الهجوم على عبد الناصر، ظاهرة أخرى صحية أيضاً، وهي أن ترد على ما هو غير صحيح أو غير صائب وأن تصحح ما يقوله الناس، فإذا كان خصوم جمال عبد الناصر قد وجدوا الحرية في مهاجمته ومحاكمته، فمن الطبيعي أن الباحثين عن الحقيقة يكون لهم أيضاً حرية مناقشة هذا الهجوم والبحث عما اذا كان صحيحاً أو خاطئا.
اتهامات جلال الحمامصي لجمال عبد الناصر يجب أن توضع أمام أنه كان الصحفي الوحيد الذي أصدر عبد الناصر قراراً بفصله من عمله.. أعلن عبد الناصر القرار وهو على ظهر باخرة كانت تقله إلى المغرب في 31 ديسمبر 1960، اتصل عبد الناصر بكمال رفعت وقال له: ابعث خطاب فصل لجلال الحمامصي، ظل الحمامصي مبعداً عن الكتابة أربعة عشر عاماً كاملة، كانت أقصى سنوات حياته عذاباً وألما.. وفي عام 1974 عاد إلى الكتابة مرة أخرى، ليس صعباً بعد ذلك أن نتفهم الاتهامات وما وراءها فقد كان الحمامصي في عراك دائم مع عبد الناصر وثورة يوليو.. وقد أفصح عن هذا العراك عقب تولي السادات للسلطة في مصر، وسمح للذين اضطهدهم عبد الناصر بالحديث.. ولم يكن مستهجنا أن يتحدث الحمامصي بجرأة عن عبد الناصر، خاصة بعد أن قام بعض أعضاء مجلس قيادة الثورة بالهجوم على ثورة يوليو وعلى عبد الناصر مثل كمال الدين حسين وعبد اللطيف البغدادي وحسن ابراهيم وصدر هجومهم في كتاب حمل عنوان (الصامتون يتكلمون).
هل تأخرنا في الحديث عن أنيس منصور..
قد يكون .. لكن ها هو الآوان قد آن.. في 29سبتمبر 1972 وفي ذكرى عبد الناصر الثانية كتب أنيس منصور في جريدة الأخبار: (كلما مر وقت أطول على حياة ووفاة جمال عبد الناصر عرفنا بالضبط أبعدا المعركة التي عاشها والتي عاش من بعدها، فليس واضحاً الآن ماذا جرى على أرضنا يوم العدوان، ويوم النكسة، ولا هو معروف بوضوح ماذا دار وراء الأبواب المغلقة هنا وفي العواصم العربية والأوربية والأمريكية، إن كل الذي قرأناه وسمعنا عنه كان مصدره الطرف الآخر، ولكن لا خلاف بين أحد من الأصدقاء والأعداء على الأعمال الجليلة التي حققتها ثورة يوليو على كل مستوى.
ويصعد أنيس من الثورة إلى جمال عبد الناصر.. فهو عنده قد نجح في تغيير مسار التاريخ المصري والعربي، وتكاثر عليه الأعداء الأقوياء والأغنياء، وتضاعفت مصاعبنا وتكدست همومنا وتراكمت مشكلاتنا، وسوف تبقى كذلك لفترة طويلة، ويفخر أنيس بأنه ليس من قبيل الصدفة أن تحتفل مصر في أيام متقاربة بذكرى وفاة جمال عبد الناصر وبيوم العلم، فقد كان جمال عبد الناصر معلما في الكلية الحربية وكان ككل الزعماء معلما لشعبة ايضا.
ويبدو أن أنيس منصور كان متأثراً للغاية بوفاة جمال عبد الناصر فقد كتب بعد أيام قليلة من وفاته في 4 أكتوبر 1970: (إن الفراغ الهائل الذي تركه عبد الناصر ليس من السهل أن نملأه في يوم وليلة ولا في ألف ليلة.. ولكن إن كان عشرون شاعراً يضعون شكسبير كي يقول المثل، فإن العشرين شاعراً قادروا على تحقيق الكثير، فإذا لم يكن لدينا عبد الناصر الآن فإننا جميعاً وبالصدق والإخلاص والحب الأمين لمصر والشعب نستطيع جميعاً أن نقترب من الصورة التي كان يتمناها جمال عبد الناصر لبلاده في غيابه).
كانت هذه هي كلمات وداع أنيس لبعد الناصر.. لكنه بعد أن انضم إلى معسكر السادات تغيرت الصورة كثيرا.. فقد تحدث انيس عن خلافه مع عبد الناصر وكيف أوقفه عن العمل.. كان سبب الخلاف كما يقول أنيس أنه كتب مقالاً بعنوان حمار الشيخ عبد السلام.. وقال فيه: إن أحد الولاة في سوريا ضاق بثناء الناس على علم وفضل قاضي قضاة دمشق، فأمر بعزل قاضي القضاة وتعيين حمار الوالي قاضيا القضاة، وذهب الحمار إلى المحكمة وأحنى الناس رؤوسهم للقاضي الجديد) جاء سكريتر تحرير الأخبار ووضع صورة الرئيس عبد الناصر في مقال أنيس.
صدر أمر من عبد الناصر بطرد أنيس من أخبار اليوم ووقف مرتبه ومنع صرف أي معاش له، ومنع أي مطبعة من طبع كتاب له، ومنعه من الإذاعة والتليفزيون، ومنعه من أن ينشر مقالات في أي جريدة خارج مصر.. ويعتبر أنيس أن ملخص القرار هو: أن يموت جوعاً.
فكر أنيس منصور في الهجرة من مصر نهائياً.. لكن كان على أمين يمنعه بعنف من تنفيذ ذلك، وكان يقول له: اصبر فإن جمال عبد الناصر لن يعيش إلى الأبد.. وأن هذا الذي حدث له هو شرف عظيم.. وهو أقصى ما يبلغه أي كاتب، عاد أنيس منصور إلى عمله بواسطة مصطفى أمين له عند عبد الناصر، لكنه لم يتحدث الا بعد أن مات عبد الناصر.. أو بالتحديد عندما أقنع السادات بعض الكتاب أن عبد الناصر مات.. ولا خوف من فتح النار عليه.
هجوم أنيس المتواصل على عبد الناصر الذي خصص له أحد كتبه التي بلا عدد (عبد الناصر المفترى عليه والمفترى علينا) لم يخل من بعض المدح.. فهو يرى أن عبد الناصر كان أفضل من السادات في أنه كان يثق بمن حوله.. لأنه كان يرى نفسه أنه أكبر.. بينما كانت طبيعة السادات التآمرية تتغلب عليه.. كان من الطبيعي أن يقول أنيس كلمة حق في عبد الناصر.. ليس لأن أنيس موضوعي.. ولكن لأن شخصاً مثل عبد الناصر حتى لو اختلفت معه.. فإنك لا تملك أن تهاجمه طوال الوقت.. فعنده ما يجبرك على احترامه وتقديره.
الغريب أن انيس منصور حاول أن يوحى الينا أن كل من يعرفهم لم يكونوا يحبون عبد الناصر ولا يحترمونه.. بل أنه ذكر في كتابه(كانت لنا أيام في صالون العقاد) أن الكاتب الكبير عباس محمود العقاد.. عندما سمع ما قاله عبد الناصر بعد إطلاق النار عليه في حادث المنشية من أنه هو الذي علم المصريين الكرامة.. امتعض واستنكر ذلك.. وقال إن الشعب الذي يسمع حاكمه يقول ذلك ولا يضربه بالحذاء لا يستحق أن يعيش. شخصية العقاد وحدته وعنفه تسمح له بأن يقول ذلك.. لكنه أغلب الظن قال لبعض المقربين من أصدقائه.. ولم يعلنه أنيس الا بعد أن مات الرجلان العقاد وعبد الناصر.. فالبطولة في مصر تأتي دائماً بأثر رجعي..
* * *
طريق أنيس منصور لابد أن يقودنا إلى مصطفى محمود..
كتب د. مصطفى محمود مقالا عن هتلر ففوجئ بإيقافه عن الكتابة مباشرة، دون أن يعرف السبب لكنه يقول: أخذت موضوع إيقافي عن الكتابة ببساطة لأن الجميع ابتداء من إحسان عبد القدوس إلى مفيد فوزي حصلوا على حصصهم من عبد الناصر، منهم من سجن ومنهم من رفد منهم من تعرض لمصاعب كثيرة، فقلت في نفسي إن حظى أفضل من غيري فقد منعت من الكتابة فقط!
عاد مصطفى محمود إلى الكتابة في موقف درامي فقد استدعاه هيكل إلى مكتبه وقال له هيه أنت استويت.. ولما سأل د. مصطفى عن سره منعه من الكتابة، قال له هيكل.. لا تفكر في شيء.. ارجع اكتب وخلاص.. عاد مصطفى محمود للكتابة.. لكنه ظل محتفظاً بجرح منعه من الكتابة.. وكان طبيعياً بعد ذلك أن يفتح النار على عبد الناصر في كل مناسبة وحتى الآن.
يرى مصطفى محمود أن أخطاء عبد الناصر كانت أكثر كثيراً من حسناته ويقول: أفرض أنك بنيت سداً أو مصنعاً ولكنك هدمت إنساناً، ما الفائدة إذن؟ ليس هناك شيء في هذا الوجود أن تهدم الشخصية المصرية وتهدم الإنسان.
وفي 4 يونيو عام 1987 كتب مصطفى محمود في أخبار اليوم مقاله الشهير (سقوط اليسار) قال فيه مهاجماً عبد الناصر وسياساته: في مصر تركة من الأخطاء القاتلة لابد من مواجهتها في جرأة.. مجانية التعليم الجامعي التي حولت الجامعات إلى مجموعة كتاتيب لا تعليم فيها ولا تربية ولا حتى مجانية، والخمسون في المائة عمالاً وفلاحين في مجلس الشعب التي لا مثيل لها في الصين أو الهند أو في روسيا أو في أي بلد رأسمالي أو اشتراكي، والتي لم تكن سوى رشوة قدمها عبد الناصر ليستدر بها التصفيق والهتاف.
ليست هذه الرشوة الوحيدة في رأي مصطفى محمود يقول: حق التعيين لخريج الجامعة في الوظائف الحكومية سواء وجدت أم لم توجد، وسواء كانت هناك مسوغات وضرورات للتعيين أو لم توجد، وهي رشوة أخرى وبدل بطالة قدمها عبد الناصر من خزانة مفلسة ترزح تحت عبء الديون لكل عال متبطل ليقود له المظاهرات ويوقع على الاستفتاءات.
الطعن وصل إلى عبد الناصر مباشرة، فما فعله ناصر عند مصطفى محمود مجرد غوغائية زعيم أراد أن يكتمل الشارع خلفه ليضرب به أي طبقة تناؤئه يقول: الدرس الأول الذي تعلمه في سنة أولى شيوعية، في كيفية الحفاظ على الكرسي، اضرب الطبقات بعضها ببعض وأشعل فتيل الحقد الطبقي، ثم احتفظ بعربة الإطفاء الوحيدة، يلجأ الكل إليك ويقبل الكل قدميك، ويستنجد بك الخصم والصديق، لأنك تكون حنيئذ مرفأ الأمان الوحيد في بحر الفتن والأحقاد والتناقضات، وهكذا فعل صاحبنا، فقد وعى الدرس وطبقه بحذافيره، وهكذا ترك البلد بحراً من الفتن والأحقاد والتناقضات وميراثا من الخراب لكل من حمله من بعده.
طلقات مصطفى محمود طالت أحمد بهاء الدين فقد تعجب مصطفى من بهاء عندما كتب أن عبد الناصر ليس مسؤولاً عن الإهمال والتسيب والفساد والتدمير الذي وصل بنا إلى ما نحن فيه، ورغم أن بهاء أول من يعلم أن الفساد ما ولد الا في حكم عبد الناصر الذي غابت فيه الحرية، وقطعت الألسن وقصفت الأقلام، وسارت مبادئ النفاق والانتهازية، وحكمت مراكز القوى وانطلقت عصابة القتل تعيث في الأرض فسادا، وما ولد الإرهاب الذي نعاني منه الا في زنازين التعذيب في السجن الحربي بأمر وتوجيه وإشراف عبد الناصر.
مصطفى محمود رفض أن يمن أحمد بهاء الدين على المصريين بالسد العالي الذي أقامه عبد الناصر وقال له: أولى بك أن تلتف حولك لتجد أن مترو الإنفاق وحده بأعماله الخرسانية مضافاً اليه عشرات الكبارى والإنفاق والمصانع والسنترالات ومحطات توليد الكهرباء والموانئ الجديد والمدن السكنية والوادي الجديدة وتوسيع القنال وغزو الصحارى والتنقيب عن البترول، هي أضعاف السد العالي من ناحية الحجم الإنشائي ومن ناحية الأثر، ومع ذلك فقد تمت جمعيها دون أن نرى حسني مبارك يقتل أحداٍ أو يسجن بريئاً أو يعذب مخالفاً له في الرأي.
وحتى ينهي مصطفى محمود القضية قال: الزملاء الرفاق الذين يلبسون قميص عبد الناصر ينسون أن القميص أدركه البلى، وأنه دخل في تركة ماض وأصبح مخلفات، وأن العصر بمشكلاته ومتغيراته تجاوز عبد الناصر، وفكر عبد الناصر، وأن المشكلات التي استجدت تحتاج إلى فكر جديد، وأن نقود أهل الكهف التي يدورون بها في الأسواق لن تشتري لهم شيئاً، من وقتها ود. مصطفى محمود لا يقول شيئاً غير هذا عن عبد الناصر بمناسبة أحياناً وبدون مناسبة أغلب الوقت.
* * *
في أبريل 1975 طرح د. فؤاد زكريا في مجلة (روز اليوسف) سؤالاً هو: هل كان جمال عبد الناصر فوق مستوى الخطأ وفي إجابته عن السؤال نفى عن نفسه أن يكون صاحب مصلحة أو رجعياً وهو كذلك لم يكن صامتا أيام جمال عبد الناصر يقول: السؤال التوليدي الذي يثار ضد من يوجه انتقادا للعهد الناصري، والذي يقول: أين كنت في ذلك العهد.. ولماذا لم تتكلم أثناءه ففي استطاعتي أن أجيب باطمئنان كامل أنني تكلمت ونبهت وانتقدت.. ويخلص فؤاد زكريا إلى أنه عندما يكون الأمر متعلقاً بمصير أمة مرت بتجربة معينة دامت في الحكم قاربة عشرين عاماً، فلا ينبغي أن نمتنع عن التقييم الموضوعي الصارم مراعاة للعواطف والشهامة والنخوة، ولا يجب السكوت عن الخطأ لمجرد أن مرتكبه قد مات، وخاصة إذا كان هذا الخطأ متعلقاً بحياة الشعب بأسره.
وتساءل فؤاد زكريا كيف نستطيع أن نرسم خطوط مسيرتنا في المستقبل إذا لم تستوعب دروس الماضي كاملة.. إذا لم نحكم عليها بموضوعية ونزاهة، دون عاطفية كاذبة أو ولاء ساذج!..
وانطلاقاً من هذا التساؤل يقول زكريا: بوصفي مواطناً عادياً يحس بالقلق على مصير بلاده وبالحزن على أوضاع الملايين من فقراء شعبه، فإنى لا أستطيع أن أتصور تجربة اشتراكية يكاد يكون استغلال النفوذ هو القاعدة فيها، والنزاهة الشذوذ، ولقد كانت تلك الطبقة بالفعل هي النتيجة المنطقية لانعدام الرقابة الشعبية على المال العام، ولأن معظم المستغلين كانوا يستندون إلى مراكز القوى بأجيالها المختلفة، ومن ثم كانا في كثير من الأحيان يرتكبون آثامهم بطريقة شبه علنية، اعتماداً على متانة المسند الذي يرتكزون عليه، وفي شعب فقير مطحون كالشعب المصري يصبح مثل هذا الاستغلال جريمة كان ينبغي أن يشنق مرتكبها علنا في أوسع الميادين، ومع ذلك فإن التستر كان هو القاعدة، ومازالوا يشاركون فيه إلى يوم بدفاعهم المطلق عن التجربة الناصرية.
ومن بين الروائيين الكبار... يأتينا نجيب محفوظ.. كتب كل ما أراد.. أصدر أهم رواياته في عصر جمال عبد الناصر.. تحدث عنه كثيرا.. فهو يعتقد أن الرئيس جمال عبد الناصر أعطى الأدب والفن مساحة من الحرية، لم يمنحها لغيرها من المؤسسات فقد كان الأدباء يعبرون عن رأيهم بالكناية والرمز، لأن الحرية داخل حكم شمولي كانت لها سطوتها، والرقابة في داخله شديدة، ويؤكد محفوظ أنه لم يصب بسوء في عهد عبد الناصر رغم أنه كان يمثل نوعاً من المعارضة الذاتية أو النقد الذاتي.. وعلى طريقة نجيب الساخرة يقول: بل بالعكس أخذنا أوسمة وحصلنا على جائزة الدولة التقديرية!
ولأن نجيب محفوظ ظل فترة طويلة من حياته يهادن.. حتى قال رأيه بصراحة كاملة في حواره الطويل مع رجاء النقاش وضمه كتاب (نجيب محفوظ.. صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته) في هذا الكتاب الخلاصة قال نجيب محفوظ. كانت أول مشكلة حقيقية تواجه الثورة هو ما سمى بأزمة مارس عام 1954 عندما حدث صراع على السلطة بين فريق عبد الناصر وأنصار محمد نجيب، ولقد انحزت إلى جانب محمد نجيب لسبب أساسي، وهو أنه كان من حزب الوفد والديمقراطية، وبسببها فقد السلطة، وفقدت أنا الأمل الذي راودني بأن الثورة سوف تتجه نحو الديمقراطية والاستعانة بالوفد، وحزنت لنجاح فريق عبد الناصر في الإحاطة بمحمد نجيب، ولذلك اتسمت مشاعري بنوع من السلبية تجاه عبد الناصر بعد هذا الحادث.
كان هذا مبررا لنجيب محفوظ الا يتعاطف مع جمال عبد الناصر عندما جرت محاولة اغتياله في ميدان المنشية بالاسكندرية عام 1954، لكن نجيب محفوظ سرعان ما تعاطف مع عبد الناصر يقول: كان تأميم القناة من الأحداث التي هزت وجداني وانفعلت بها انفعالا شديدا، لقد اشعل التأميم في نفسي مشاعر وطنية متدفقة، خاصة بعدما أعقبه من عدوان ثلاثي على مصر، مما جعلنا نصبح مع الثورة كلا لا يتجزأ، وهو الأمر الذي جعل عبد الناصر يتحول في نظرنا نحن المصريين إلى زعيم.. أما مشاعري تجاهه فقد تحولت إلى الإيجابية والحماس وزاد تقديري وحبي له إلى أقصى درجة. ولما هدأت الضجة وسكنت أعدت التفكير فيما حدث، وكان ذلك بعد عدة سنوات من العدوان، واكتشفت أننا أعطينا الموضوع أكثر مما يستحق.. وأن ما قيل عن الانتصار العظيم للثورة، ما هو الا انتصار ناقص صنعه الإعلام ووسائل الدعاية الجبارة!.
بعد وفاة عبد الناصر كتب نجيب محفوظ كلمة رثاء في عبد الناصر نشرتها(الأهرام) يوم 2 أكتوبر 1970 قال فيها تحت عنوان(كلمات في السماء، وكان الكلام في صورة حوار بين ناصر ومحفوظ:
* حياكم الله يا أكرم زاهد
* حياكم الله وهداكم
* إني أحني رأسي حبا وإجلالاً.
* تحية متقبلة ولكن لا تنس ما سبق من قولي( أرفع رأسك يا أخي).
* نحن من الحزن في ذهول شامل.
* لا يحق الذهول لمن تحدق به الأخطار وتنتظره عظام الأمور.
* يعزينا بعض الشيء أنك إلى جنة الخلد تمضي.
* وسيسعدني أكثر أن تجعلوا من دنياكم جنة.
* إن عشرات التماثيل لن تجعلك في خلود الذكرى.
* لا تنسوا تمثالين أقمتهما بيدي وهما ( الميثاق) وبيان 30 مارس.
* وراءك فراغ لن يملأه فرد.
* ولكن يملؤه الشعب الذي حررته.
* سيبقى ذووك في صميم الأفئدة.
* أبنائي هم الفلاحون والعمال والفقراء.
* وجدت قرة عيني في توديع الكرة الأرضية لك.
* أما قرة عيني ففي استقلال الوطن العربي والحل العادل لأرضه الشهيدة.
* سيكون أحب الطرق إلى نفسي الطريق إلى مسجدك.
* طريق الحق.. هو الطريق إلى العلم والاشتراكية.
* نستودعك الله يا أكرم من ذهب.
* كلنا ماضون ومصر هي الباقية.
كان نجيب محفوظ أول المتبرعين لبناء تمثال لعبد الناصر... وكانت هذه دعوة تبناها توفيق الحكيم.. ثم يأتي الرأي النهائي لنجيب محفوظ عندما يقول: (لا أبالغ عندما أقول إن مصر لا تحتاج الآن إلى زعيم من أمثال عبد الناصر أو سعد زغلول، لأن وجود مثل هذا الزعيم في الظروف الراهنة يربك الأمور ويعطل الديمقراطية، ذلك أن حب الناس له سوف يجعلهم يتغاضون عن أخطائه حتى ولو كان من هذه الأخطاء، فرض أسلوب الرأي الواحد.. ووضع المعارضين في السجون، فمصر بحاجة الآن إلى حاكم وطني مستنير لديه إجابة علمية واضحة عن هذا السؤال: ما هو دور مصر في هذا النظام العالمي الجديد!!
* * *
لم أقابل كاتبا دخل السجن في عهد عبد الناصر.. الا ورأيته واقعا في غرام عبد الناصر.. ولا أنسى الجملة التي قالها لي محمود أمين العالم.. من أنه كان يضرب في سجن عبد الناصر لكنه لم يكن حزينا لذلك.. كان حزينا فقط لأنه لم يستطع أن يشارك في الانجازات التي قام بها عبد الناصر خارج السجن.. تكررت هذه الجملة كثيرا، لم يلعن الضحايا في سجون عبد الناصر من سجنهم.. لكنهم خرجوا يكتبون ويتناقشون. ويحاولون أن يصلوا إلى إجابة!
صلاح عيسى في كتابه(مثقفون وعسكر) يحاول أن يصل إلى إجابة السؤال الأبدي.. لماذا حزن المصريون كل هذا الحزن على عبد الناصر؟ بدأ صلاح من صورة عبد الناصر التي كانت المنظور الغربي الاستعماري بل وفي منظور آخرين مما يعادون هذا الغرب الاستعماري، صورة ديكتاتور وطاغية يحتقر الشعب بقسميه الواعي وغير الواعي، المتكلم والصامت، المتحرك والصابر، فيعامل الأولين بالمعتقلات والسجون ووسائل القهر والتعذيب كتعبير عن ازدارائه لإرادتهم، ويخضع الآخرين لعلميات غسيل مخ عنيفة، تحول بينهم وبين الوعي بمصالحهم، فقد كان طبيعيا عند تطبيق المحطات العقلانية الأوروبية، أن يفرح المصريون لموت الطاغية الذي احتقرهم وعذبهم وامتهن إرادتهم، أو أن يكتفوا بالترحم عليه انصياعا للمشاعر الدينية التي تؤثر الشماتة في الموت، فإذا حتم الأمر بعض المبالغة فليكن الدمع قليلاً، أما أن تنتشر تلك الحالة العنيفة من الاكتئاب الجماعي، فإن الأمر عسير على الفهم.
ويعرض صلاح عيسى تفسيراً آخر تبناه البعض ليصلوا إلى حقيقة حزن المصريين على عبد الناصر يقول: طرح آخرون الافتراض الذي يذهب إلى تفسير(مواكب الدموع المصرية) التي ودعت عبد الناصر، بأنها كانت تقديراً لإيجابيته، وخصوا بالذكر منها سياسته المعادية للاستعمار وإنجازاته الاجتماعية المتقدمة، لكن قيل لهؤلاء: إن معظم إيجابيات عبد الناصر غربت شمسها قبل أن تأفل شمس حياته، واضافوا، لعل الطاعنين على عبد الناصر بأنه كان أعظم ديماجوجي البرجوازية العربية في كل تاريخها، لم يجدوا دليلا قويا يؤيدهم كما وجدوه في هزيمة 1967 التي كشفت عن أن عالم عبد الناصر لم يكن سوى أبنية من الورق هدمت في 6ساعات، وجاء السقوط سريعا وخاطفا بينما عنتريات عبد الناصر الكلامية لم تغادر الآذان بعد.
نقل صلاح عيسى ما فسرت به الصحف الغربية ـ خاصة الأمريكية ـ دهشتها للاستقبال البالغ الحرارة الذي نظمه السودانيون لعبد الناصر حين سافر ليشهد مؤتمر قمة الخرطوم الذي عقد في أغسطس 1967، وبعد ما يقرب من شهرين من الهزيمة، فقالت إنه لأول مرة في التاريخ يحظى قائد مهزوم بذلك الاستقبال الذي ندر أن حظى به الغزاة المتنصرون، ولعل شيئاً من ذلك طال من حاولوا تحليل ما فعله المصريون والعرب يومي  9 و10 يونيو 1967، فقد خرج الناس يطالبون عبد الناصر بالبقاء في منصبه بعد أن أضاع خمس الأراضي المصرية وألحق ما بقى من الأراضي الفلسطينية في يد العرب، بما احتل منها في عام 1948، وفي لعبة ديماجوجية تافهة تسبب في قتل آلاف من المصريين والعرب في لا معركة.
مدرسة أخرى رفعت ما قاله كعب الأحبار يوما لعمر بن الخطاب من أن الله عندما خلق الدنيا جعل لكل شيء شيئاً. فقال الشقاء أنا لا حق بالبادية وقالت الصحة وأنا معك، وقالت الشجاعة أنا لاحقة بالشام فقالت الفتنة وأنا معك ـ وقال الخصب أنا لاحق بمصر.. فقال الذل وأنا معك!.
اصحاب هذه المدرسة ـ كما قال صلاح عيسى ـ قالوا إن مصر كدولة نهرية بدأت بعبادة النيل وهو أعتى الطغاة حيث سيطرت روح العبد على شخصيتها القومية، فانتقلت من عبادة النهر إلى تأليه الفراعين، ثم استنامت بعد ذلك دون مقاومة، لكل من تعاقب على تاريخها من الغزاة الطغاة وما أكثرهم، ونفسية العبيد تلك هي التي جعلت المصريين يودعون جلادهم بكل هذا الحزن الجماعي العنيف.. كأنهم لا يستطيعون أن يعيشوا دون أن يجلدوا أو يعذبوا.. فهم قوم مازوكيون (يتلذذون بالطغيان ويستمتعون بالقسوة ويصنعون الطاغية إذا عز وجوده).
لم ينحز صلاح عيسى لرؤية.. ولم يرفع رأيا على آخر.. عرض فقط كل ما قيل ليؤكد أن عبد الناصر كان محيراً في حياته.. وفي موته للدرجة التي احتار الجميع في تفسير الحزن عليه وتوديعه بمواكب من الدموع لم تنته ربما حتى الآن.. إننا ايضا لا نملك إجابة.. ولا أعتقد أن أياً ممن يكتبون عن عبد الناصر من أنصاره أو معارضيه يملك إجابة.. لأن عبد الناصر بفعل عوامل كثيرة يظل عصياً على الفهم ومعرفة حقيقته كظاهرة اقتحمت تاريخ مصر ويندر أن تتكرر بعد ذلك!
* * *
أطباء وجواسيس في بيت عبد الناصر!
عندما أرسم صورة لجمال عبد الناصر.. تقتحمني لحظات الإنجازات العظيمة.. والانكسارات الكبيرة.. تتداخل خيوط العزة والكرامة بخيوط السجون التي دخلها صفوة المجتمع على يد الزعيم الذي جاء ليخلصهم فإذا به يعتقلهم ويدمر قدراً ليس يسيراً من كرامتهم.. أجد في الصورة عشق رجل الشارع البسيط له وكره أصحاب المال والأعمال لسيرته.. تتزاحم أمام عيني مظاهرات الانتفاضة الأخيرة وصوره مرفوعة على سواعد الشباب تستنجد به لإنقاذ شعب فلسطين.. وجلسات المثقفين الناقمة عليه والتي تتهمه بأنه هو وليس غيره الذي ضيع فلسطين بعد هزيمة الأيام الستة ـ أراه وهو شامخاً على منبر الأزهر يعلن سنقاتل.. وأراه منكسراً وحزيناً وهو يعلل تنحيه وانضمامه لصفوف الجماهير وتحمله للمسؤولية كاملة!
أنحي هذه الصورة جانبا.. لأن هناك صورة أخرى لعبد الناصر غائبة وغير مطروحة.. هذه الصورة تكونها تحاليل الدم وخطوط القلب وروشتات العلاج وأنابيب الأكسجين وأجهزة التنفس الصناعي.. صورة يحل فيها التحدي محل الضوء والوهن محل الظلال.. تمتلئ بملامح يتداخل فيها الضعف وإرادة الحياة، الأمل والانتحار، الخوف من فقدان شيء ما والإحساس بتوقع هذا الفقد.. هذه الصورة لعبد الناصر المريض ستجعلنا نغير أسلوبنا في التعامل مع كل ما يمت بصلة له.. على الأقل ستجعلنا نتعامل معه على أنه بشر يخطئ ويصيب، ينهزم وينتصر.. يفرح ويمرض.. وفي النهاية يعيش ويموت.
صورة عبد الناصر المريض سيطرت على كتاب (اغتيال عبد الناصر) الذي اصدره عادل حمودة، لم يهتم عادل بتقييم الثورة.. ولا ماذا بقى منها بعد خمسين عاما.. لم يغرق في مناقشات بيزنطية.. ولا محاورات فلسفية.. لكنه حاول أن يكون جديدا ومتجددا.. فاتجه إلى مساحة لم يلتفت إليها من كتبوا عن عبد الناصر اعتقادا منهم أن الرجل لم يدخلها.. فكيف يمرض الزعيم.. مع أنه مرض وكيف يموت الزعيم.. مع أنه مات..
هبط عادل حمود على حالة عبد الناصر الصحية.. ورحلته مع المرض التي انتهت بموته من مفارقة عميقة.. ففي الدول الفقيرة التي تحاول خوض تجربة ليبرالية تنفتح فيها الحريات السياسية وحقوق الإنسان، يكاد الأمر كله يتوقف على مدى قدرة الحاكم على تحمل مخاض التجربة، وتكاد هذه القدرة تتوقف على حالته الصحية والعصبية والنفسية، ولذلك ليس غريبا أن تجارب كثيرة من هذه العينة انتهت بسبب صداع أو ضغط دم مرتفع.. أو تصلب في الشرايين أصاب الحاكم، أما في الدول الديمقراطية فالمعارضة تفتش في ذمة الحاكم المالية وحالته الصحية وتصرفاته الشخصية، وتنشر على الرأي العام ما تتوصل اليه، ولا يتهمها أحد بالسخافة ولا بالتجاوز.. فحياة الشعوب لا ينبغي أن تتأثر بدرجة حرارة الحاكم.
على هذه الخلفية نسير مع رحلة مرض عبد الناصر وأعيننا على واقعتين شهيرتين.. وهما موت الدكتور أنور المفتي طبيب عبد الناصر الذي قيل إنه قتل مسموما لأنه أفشى سر مرض الرئيس.. وقصة الجاسوس الإسرائيلي على العطفى الذي قيل إنه قتل جمال عبد الناصر.
مريض استثنائي
سأل (شواين لاي) أول وفد سياسي مصري زار الصين بعد وفاة جمال عبد الناصر: قال: لماذا مات جمال عبد الناصر؟ فوجئ الوفد بالسؤال.. ذهلوا وصدموا فلا أحد في مصر يسأل لماذا يموت الناس، ولم يرد أحد على السؤال حتى يمر دون تورط، لكن رئيس الوزراء الصيني كان مصراً على التورط فسأل متى ولد عبد الناصر، وكانت الإجابة في 15 يناير 1918، وسأل: ومتى توفى؟ وكانت الإجابة في 28 سبتمبر سنة 1970 فقال إذن فقد مات عن 52 سنة و8 أشهر و13 يوماً.. ثم اضاف في دهشة هل هذا ممكن؟ أحس أعضاء الوفد بالحيرة من جديد.. فردوا: هذه مشيئة الله، فقال لهم: يجب الا نحمل الله مسؤولية ما نفعل.. لابد من سبب، لقد مات عبد الناصر شاباً، فسن الـ 52 هي سن صغيرة، إنني الآن في الثانية والسبعين ولا أزال أعمل وفي صحة جيدة إنني لا أستطيع أن أتصور كيف مات.. وكانت تتوافر له أفضل العناية الطبية. كيف سمحتم له أن يموت؟ .. وأضاف شواين لاي وكان لابد أن يضيف، قال: سأوضح لكم السبب: لقد مات من الحزن والقهر.. مات كسير القلب.. أما الذنب فهو ذنب الاتحاد السوفيتي فقد خدعه السوفيت ودفعوه إلى مأزق ثم تخلوا عنه وتركوا فؤاده يتحطم وينكسر).
كان الزعيم الصيني محقاً.. لكن كانت هناك ظلال أخرى في خلفية الصورة.. فالسوفيت كانوا مجرد عامل فقط.. فقد أرهقنا قلب عبد الناصر بمذابح القبائل العربية، وقد كشفت قضية انحراف المخابرات أن صلاح نصر كان يتلذذ بتحريكه من مكان إلى آخر في منتصف الليل بدعوى الحفاظ على حياته من المؤامرات.. وفي النهاية انهارت صحة عبد الناصر.. وإن كنا لم نعرف بانهياره الا بعد موته.. لم نعرف أنه اصيب بمرض السكر وبتصلب الشرايين، ولم نعرف أن قلبه تعرض لأكثر من أزمة الشريان التاجي أصيب بسدة أو جلطة عرضت جزءاً من القلب للتليف، ولم نعرف أن البنكرياس شل، والساق اليمني اقتربت من مرحلة الغرغرينا، كل ما أعلن فقط أن الرئيس أصيب بالانفلونزا.. أي أنه عطس وارتفعت درجة حرارته فقط!.
لن تصدق أن عبد الناصر كان مريضاً.. فقد ظل حتى النهاية عملاقاً ساخراً قادراً على إطلاق النكتة، فاعتقد الجميع أنه في كامل لياقته الصحية والنفسية.. ولأنه كان يقف على قدميه بالساعات يخطب وينفعل.. فإن الجميع تصوروا أنه ليس مريضاً مطلقاً.. حتى جاء يومه الأخير.. مات فجأة.. ولم يستوعب البعض موته.. كما لم نعرف جميعاً تفاصيل مرضه حتى الآن.
لا أحد يعرف متى أصيب جمال عبد الناصر بالسكر.. ولا هو عرف.. لكن المؤكد أن مضاعفات السكر فرضت نفسها عليه بقسوة في نهاية 1968.. والشائع أن ناصر أصيب بالمرض اللعين في صيف 1958، بعد مفاوضات شاقة أجراها مع الاتحاد السوفيتي، بعد ساعات قليلة من قيام ثورة عبد الكريم قاسم في العراق، حاول خلالها إقناع خروشوف بدعم الثورة لكن دون جدوى اكتشف عبد الناصر إصابته بهذا المرض بالصدفة وبعد تحاليل أجريت له، ولم تكن التحاليل تجرى له بصفة دورية، كان يرفض ذلك بحجة أنه لا يملك الوقت اللازم لهذه التحاليل.
كان من السهل السيطرة على ارتفاع السكر عند عبد الناصر.. فالوحدة التي أعلنت مع سوريا، وقيام الجمهورية العربية المتحدة، وبروز جمال عبد الناصر زعيما للأمة العربية واستجابة السوفيت لطلب دعم ثورة عبد الكريم قاسم، وتولى د. أنور المفتي مسؤولية علاج ناصر.. كل هذه أمور كانت تدفع في محاصرة السكر.. لكن من قال إن كل ما يطلبه المرء يدركه؟!.
ففي 28 سبتمبر 1961 أي قبل وفاة جمال عبد الناصر بتسع سنوات، وقع انفصال سوريا عن دولة الوحدة بانقلاب عسكري.. في ظل الانفصال انطلق السكر متجاوزا حدود الأمان.. وارتفعت نسبته في الدم إلى 5 جرامات في اللتر الواحد، وهبطت كميات القلويات الاحتياطية في جسد عبد الناصر، بدأ لعابه يجف والإحساس بالعطش يزداد وراح وزنه يخف نتيجة تكسر البروتين.
كان الانفصال بداية العد التنازلي لهبوط نجم عبد الناصر السياسي.. فكل الأحداث التي أعقبته أدت ذلك.. عودة عبد الحكيم عامر المهينة من دمشق، زيادة نفوذ عامر وجماعته داخل وخارج ثكنات الجيش، انفلات الكثير من خيوط القوة والسلطة من بين يديه، ما جرى في اليمن، انحياز صلاح نصر وبعض مساعديه إلى خصومه في صراع الكواليس على الحكم.. كل ذلك جعل منحين القوة ينزل ومنحنى السكر يرتفع.
تدخل د. أنور المفترى بقوة ليواجه المرض العربيد في جسد عبد الناصر، فرض على الرئيس المريض إجراء التحليل ثلاث مرات يوميا مهما تكن مشاغله، ومهما يكن المكان الموجود فيه، واستجاب عبد الناصر.. واصبح يأخذ جرعة مكثفة من الأنسولين تكفيه 24 ساعة، كان يحقن بها كل صباح، وكان الجرعة تحوي 80 وحدة علاجية، أي 4 أضعاف ما كان يحقن به من قبل، ولم تكن هناك مشكلة في الطعام.. كانت المشكلة في ضبط الانفعال وإبعاد جمال عبد الناصر عنه، وتقليل مجهود العمل، وبدأ الكلام لأول مرة عن ضرورة الراحة والإقلاع عن التدخين.
كان عبد الناصر يدخن 80 سيجارة في اليوم، وقد علمه عبد الحكيم عامر منذ العادة عندما كانا ضابطين حديثي التخرج ويقطنان معا في السكاكيني بمنطقة الظاهر، وكان في البداية يدخن من علبة السجائر عبد الكريم عامر، ثم أصبح يشتري سجائره ومع ازدياد الأعباء تزايد عدد السجائر، ولأنه كان يستمتع بالتدخين فلم يقتصر على نوع واحد من السجائر، وفي بداية الثورة لاحظ الدبلوماسيون الأجانب أنه يفضل سجائر (كنت) الأمريكية، وبعد حرب السويس تحول إلى سجائر (كرافن) الإنجليزية، وقبل أن يقلع نهائياً عن التدخين في سنة 1968 كان قد تحول إلى السجائر المصرية.. وفي تلك الفترة أيضاً، بدأ الملح يخف من الطعام.. وبدأ الفحص الشامل يصبح عادة أسبوعية.
أحاط عبد الناصر نفسه بعدد من الأطباء.. لكنه للأسف الشديد اختارهم بقاعدة أهل الثقة وليس أهل الخبرة، ولذلك فقد كان من الصعب أن يفرضوا إرادتهم على عبد الناصر، ولذلك أيضاً كان السكر يرفع راية الخطر بين فترة وأخرى، فقد هاجمت مضاعفاته عبد الناصر وهو يزور مشروع مديرية التحرير عام 1964 مع رئيس الوزراء السوفيتي خرشوف، فأثناء الرحلة توقف الموكب وجاء من يقول للدكتور الصاوي حبيب الطبيب المرافق في سيارة إسعاف الموكب: الريس تعبان، وأسرع إليه الطبيب ليجده في حالة غثيان، وتسيطر على جهازه الهضمي رغبة في القئ!.
هذه الأعراض يمكن أن تتشابه مع أعراض ارتفاع نسبة الحموضة في المعدة ويمكن أن تنتهي تماماً بأقراص مضادة للحموضة وحقن تهدئ من انقباضات المعدة.. لكن مع مريض يعربد السكر في جسمه مثل جمال عبد الناصر، تكون هذه الاعراض إنذاراً بما هو أسوأ (الكوما) أو الغيبوبة، وبداية وجود مادة الاسيتون في الدم، وهذا الإنذار ياتي في صورة إعياء واضطراب وغثيان وفقدان الشهية ورغبة مستمرة في التثاؤب وتغير في التنفس بحيث يزداد عمقاً وعددا وارتخاء في العضلات.
كان الإنذار الذي أصدره جسد عبد الناصر قاسيا وقويا، لكن لم يلتقط أحد إشاراته.. فضاعت الإشارة وضاع الجسد.. وبعد 3 سنوات وصل عبد الناصر إلى مرحلة الأسيتون الذي هو مادة سامة تذهب مع الدم إلى الخلايا فتؤثر عليها، وبالتالي على نشاط الجسم، فيشعر المريض بانحطاط القوى لضياع الوحدات الحرارية غير المحترقة في البول، فكل جرام واحد من الاسيتون يعادل 5، 7 من السعرات الحرارية.
هذا التدهور جعل عبد الناصر يستقبل كل صباح د. ناصح أمين.. ليقدم اليه عينتين للتحليل الاولى بعد استيقاظه مباشرة الساعة السابعة والاخرى عند قدوم الطبيب الساعة التاسعة، وكجزء من روشتة العلاج كان على جمال عبد الناصر أن يبذل مجهوداً بدنيا محسوباً بدقة، فكان يتمشى في حديقة بيته كل يوم بعد العصر في حوالي الساعة الخامسة برفقة زوجته أو أحد أحفاده، وبعد ذلك يعود إلى التقارير والصحف والإذاعات الأجنبية التي كان يعرف مواعيدها ومكانها والتي كان مولعا بها، وتضمنت روشتة العلاج البند المعتاد والمستحيل وهو ضبط الانفعال والابتعاد عن مصادر الازعاج. لم يضبط عبد الناصر انفعاله.. ولكن ضبط الانفعال والابتعاد عن مصادر الإزعاج.. لم يضبط عبد الناصر انفعاله.. ولكن ضبط الموت موعده فخطفه كما قال شواين لاي عن 52 سنة و 8 أشهر و13 يوماً.. وهو عمر مبكر جداً للموت..
لغز الدكتور المفتى
الواقعة الثانية كانت واقعة موت د. أنور المفتى رئيس قسم الأمراض الباطنية والطبيب الخاص للرئيس جمال عبد الناصر 5 أغسطس 1975 وقع حادث غير متوقع، كانت له علاقات قوية بمضاعفات مرض السكر في دم جمال عبد الناصر الذي كان قد توفى قبل خمس سنوات، تقدمت زوجة الدكتور أنور المفتي السيدة فاطمة العبد إلى النائب العام ببلاغ طالبت فيه بالتحقيق في أسباب مصرعه بعد أن قالت إنه مات مسموماً.
قبل توابع البلاغ.. نبقى قليلاً مع المفتي ـ عبد الناصر، تعرف د. المفتي على جمال عبد الناصر بعد اكتشافه مرض السكر في سنة 1958، وقد نجح د. مفتي في السيطرة على مرض السكر عند جمال، وكان السكر قد أوشك أن يعود إلى معدله الطبيعي... لكن القدر لم يمهل الطبيب الشاطر ليحاصر المرض، ففي 16 يناير 1964 لفظ د. المفتي أنفاسه الأخيرة وصعدت روحه إلى السماء تاركة مريض السكر يعاني ويتألم.
الموت كان واحدا لكن الروايات التي فسرته كانت مختلفة.. أغلب أساتذة الطب ممن زاروا د. المفتي بعد سماعهم خبر موته أكدوا أن سبب الوفاة هو انسداد في شرايين القلب بجلطة وقد أدى ذلك إلى الوفاة في فترة قصيرة ـ كان هذا رأي الاساتذة ـ لكن صحيفة الاخبار كان لها رأي آخر فقد شككت في تشخيص الوفاة بسبب القلب لأن قلب د. المفتي كان سليما تماماً.
الرواية الثانية.. تتخلص في أن أحد أقاربه اتصل بجريدة الأهرام وقال إن الدكتور أنور المفتي توفي، وأن سبب الوفاة نزيف في المخ، ونشرت الصحف اليومية الخبر في طبعاتها الأولى، ثم رفع الخبر من الطبعات التالية.
الرواية الثالثة بطلتها زوجة د. المفتي .. فقرب منتصف الليل، استمعت السيدة حرمه إلى صوت غريب يصدر منه في أثناء نومه، وقامت لتطل عليه فوجدت أن لونه يميل إلى الزرقة وانزعجت حينما وجدت أن هناك(رغاوى) بيضاء تخرج من فمه، ونادت عليه فلم يجب، أسرعت الزوجة إلى التليفون، ولم تتذكر في هذه الساعة غير الدكتور صادق فودة استاذ امراض النساء والولادة وهو يسكن بالقرب منهم، أسرع د. صادق إلى منزل د. المفتي ودخل إلى غرفة النوم وبعد الفحص قال: لا فائدة مات الدكتور المفتي.
الكاتب الصحفي الكبير أحمد الصاوي محمد كان صاحب الرواية الرابعة، وقد نشرها في جريدة الأخبار في 26 يناير 1964 أي بعد عشرة أيام فقط من موت د. المفتي، كتب: نهض من فراشه صحيحا معافى منتعشا لآخر مرة وذهب إلى كليته والقى محاضرة وذهب إلى عنبر المرضى بالمستشفى يعالج المرضى ويداعبهم باعثا فيهم الأمل، وانتهى من عيادته الخاصة في ساعة متأخرة وخرج من عمارة اللواء ـ حيث توجد عيادته ـ نشيطاً محييا بوابها، وقضى ليلته مع صديقه د. شفيق الريدي استاذ الكيمياء الحيوية بجامعة القاهرة وزوجته، وتركهما في الساعة الواحدة صباحاً، وآوى إلى فراشه بعد أن أوصى زوجته فاطمة بأن توقظه فيما بعد لتناول طعام السحور، وذهبت فاطمة لتعود بعد لحظات فتسمع لزوجها شخيراً عجيباً جزعت له نفسها الحساسة فجرت نحوه توقظه فوجدته قد انتهى.
كانت زوجة د. المفتي كما هو واضح هي مصدر هذه الرواية.. كما كانت مصدر الرواية الخامسة التي وضعتها في سطور بلاغها إلى النائب العام.. والتي تؤكد فيها أن زوجها د. المفتى مات مسموماً لأنه أدلى برأي لم يرض مراكز القوى وكانت تقصد بذلك جمال عبد الناصر.. كان في بلاغ زوجة د. المفتي إشارة إلى قضية مصطفى أمين والى قضية التعذيب المرفوعة ضد صلاح نصر، وقد لوحظ أن البلاغ يتضمن عبارة اشتهر بها مصطفى امين، ورددها كثيراً في كتاباته عبارة: إن من حق الشعب أن يعلم الحقيقة ولوحظ ايضا ان صحف دار اخبار اليوم هي التي اهتمت باتهام قتل الدكتور المفتى بالسم، ولم تنشر الصحف الاخرى أي شيء الا بعد ان بدأ المحامي العام التحقيق في البلاغ.. ولوحظ للمرة الاخيرة ان المحامي الذي حضر التحقيق مع أسرة المفتى كان شوكت التوني محامي مصطفى أمين نفسه. ليست هذه مصادفات بالطبع.. وقد غلب الظن على أن يدا غير يد زوجة د. المفتي هي التي صاغت البلاغ.. وإن كان هذا لا يمنع انها وافقت ووقعت عليه.. الظن يتحول عندي إلى منطق.. فكان من الطبيعي أن يقف مصطفى أمين خلف زوجة د. المفتي.. ليس من أجل أن يعرف الشعب الحقيقة.. ولكن من أجل أن ينال من عبد الناصر ونظامه الذي سجنه تسع سنوات بتهمة التخابر لصالح أمريكا!.
أمام المحامي العام لنيابة استئناف القاهرة قالت زوجة المفتي إن زوجها قد صرح لها بأنه سيموت خلال ثمان وأربعين ساعة لأنه تناول سما وأن هذا السم قد سرى في جسمه ووصل إلى عينيه وأنه عندما صرح لها بذلك كان يقف أمام المرآة وينظر إلى عينيه.. وأضافت زوجة المفتى أنها تشك في أن مراكز القوى في عهد ما قبل التصحيح 15 مايو 1971 قد دست له السم لأنه ادلى برأي لم يرض مراكز القوى في ذلك الحين، وأن الذي دفعها لتقديم بلاغها ما نشر عن استعمال إدارة المخابرات العامة في عهد صلاح نصر لأنواع من المسموم لا تظهر آثارها ومنها السم الذي تناوله المشير عبد الحكيم عامر، وطلبت ضم اعترافات صلاح نصر في قضية انتحار المشير إلى ملف التحقيق.
وبعيداً عن التحقيقات.. وفي كتاب (هؤلاء المرضى الذين يحكموننا) الذي صدر بالفرنسية وترجمته زهيرة البيلي أن عبد الناصر استشار الدكتور المفتي الذي قال: إنه مريض منذ فترة طويلة بمرض السكر دون أن يعرف، وأن المرض قد وصل إلى مرحلة خطيرة، وكان معنى هذه الاعراض أن التهاباً شريانيا ينمو ويزداد في الاعضاء كلها وقال: إن هذه الاعراض ستؤثر على قواه العقلية ودفع الدكتور المفتي ثمن صراحته، فقد نفذ صلاح نصر الأوامر بقتله بالسم.. ويقال إن السم وضع له في فنجان قهوة وقال إنه تناوله في عصير ويقال إنه تناول السم في بيت جمال عبد الناصر!.
الاختلاف وارد.. لكن المؤكد أن د. المفتي تحدث عن مرض عبد الناصر إلى أحد اصدقائه قال له: إن عبد الناصر واقع تحت ضغط عربي شديد جدا وان تصرفاته غير طبيعية نتيجة ذلك.. وقد كانت تظهر على عبد الناصر اعراض عصبية ونفسية تجعل تصرفاته غير منضبطة.. لم يتوقف د. المفتى عند ذلك.. لكنه وصل إلى استنتاج محدد وهو أنه لابد من خضوع الحكام وكبار رجال الدولة لكشف طبي دوري للتأكد من صلاحيتهم الجسمانية والنفسية حتى لا تتأثر قراراتهم بعدم الصلاحية وأن يتم الكشف بواسطة هيئة طبية محايدة يختارها الشعب على أن تنشر النتيجة قبل انتخاب الرئيس أو قبل إعادة انتخابه.
الاحتمالات كثيرة ـ ولا تزال ـ في قضية الدكتور المفتي.. لكن عادل حمودة ينحاز في كتابه (اغتيال عبد الناصر) إلى أن الدكتور قد يكون قتل دون علم جمال عبد الناصر، أن يكون السم قد دس في كوب العصير أو فنجان القهوة بواسطة أحد أعوان صلاح نصر الذي كان قد تجاوز بنفوذه مؤسسة الرئاسة، وفي هذه الحالة يكون الدافع للقتل هو أن الدكتور المفتي أساء لهيبة الحكم وهو ما كان صلاح نصر يحافظ عليه شكلا ويفسده فعلا بتصرفاته التي حوكم عليها فيما بعد في قضية انحراف المخابرات ـ في هذه الحالة قد تنتفي مسؤولية جمال عبد الناصر الجنائية عن الحادث.. لكن مسوليته السياسية تبقي.. كما بقيت عن هزائم وانكسارات كثيرة شهدها الشعب المصري على يديه.
الجاسوس يدلك الرئيس:
وكما عاد مرض عبد الناصر إلى الساحة عام 1975.. فقد عاد مرة أخرى يطل برأسه لكن عام 1982 هذه المرة.. ففي 15 يناير وفي احتفال حزب التجمع بذكرى عيد ميلاد عبد الناصر نظر عبد العزيز الشوربجي شيخ المحامين إلى خالد محيي الدين قائلاً: إن في عنق محبي جمال عبد الناصر أمانة لا يمكن التفريط فيها، أمانة الكشف عن قاتله) وقبل أن يفيق حضور الاحتفال القى الشروبجي بقبنلته قال: لقد اعترف لي الجاسوس الإسرائيلي الذي يدعي علي العطفي بنفسه ونحن في السجن أنه قتل جمال عبد الناصر بالسم البطيئ، عندما كان يدلك له ساقيه أثناء مرضه بمراهم ودهانات خاصة تتسلل إلى الدورة الدموية فتفسدها تدريجيا دون أن يشك أحد.
لكن ماذا كان يعمل علي العطفي في بيت عبد الناصر، لقد أصيب ناصر بجلطة في ساقه اضطرته للسفر إلى (تسخالطوبو) في الاتحاد السوفيتي لإجراء جراحة عاجلة وبعد عودته كان معه توصية بإجراء جلسات علاج طبيعي، فقامت رئاسة الجمهورية بترشيح الدكتور علي العطفي لهذه المهمة، وكان علي العطفي متزوجاً من سيدة إيطالية اشتهرت في الأوساط الرياضية باسم (وليتا) وكانت دائمة السفر إلى روما لزيارة اسرتها، وهناك نجحت المخابرات الاسرائيلية في تجنيدها والاتصال بها وتسليمها مرهما خاص ليقوم زوجها باستخدامه في تدليك ساق عبد الناصر، وقد تشربت المسام المرهم الممزوج بالسم فأدى ذلك إلى إصابة الرئيس بأزمة قلبية انهت حياته.
هذه القصة لم يروها عبد العزيز الشروبجي في احتفال حزب التجمع.. لكنها نشرت في كتاب يحمل اسم علي العطفي وقد تسربت بعض نسخ منه إلى دول في الخليج، قرأها مصريون يعملون هناك وتكفلوا بنقل ما جاء فيها إلى أقاربهم ومعارفهم في مصر، الكتاب مجهول الهوية وناشره غير معروف وعندما طرح سرا في الاسواق كان علي العطفي في سجن طرة يقضي مدة العقوبة، فكيف كتب علي العطفي الكتاب؟ ودفع به الماطبع؟ هذه التساؤلات التي طرحها عادل حمودة في كتابه أجاب عليها أن الكتاب قد يكون من تأليف المخابرات الإسرائيلية وأنها ناشره الحقيقي والمسؤول عن توزيعه والمستفيد من ترويج ما فيه.
والإجابة منطقية لأنه من مصلحة المخابرات الإسرائيلية أن ينسب لها قتل جمال عبد الناصر بواسطة رجل كان يدلك ساقيه بالسم، فذلك يعني أن يدها أطول بكثير مما نتخيل، فقد وصلت إلى بيت جمال عبد الناصر وحجرة نومه وفراشه وثيابه وجسده وخلايا ساقيه وراحت تعبث بهذه الخلايا وتحطمها وتنقل من خلالها السم إلى القلب والدورة الدموية.. فأي نجاح أكثر من ذلك يمكن أن يحققه جهاز مخابرات في العالم؟..
بالطبع لا يوجد.
عندما أعلن الشروبجي عن قبنلته بمسئلية العطفي عن قتل عبد الناصر.. كان دكتور العلاج الطبيعي يقضي فترة العقوبة في السجن.. لكنه تحول بعد هذا الإعلان إلى أسطورة.
فمن هو علي العطفي..
لم يحصل العطفي الا على شهادة الإعدادية.. ولد في النصف الثاني من العشرينيات لأسرة متواضعة وكان ذلك هو السبب المباشر وراء عدم استكماله لتعليمه.. وجد نفسه ينزل إلى سوق العمل مبكراً.. لكن ذلك لم يلبي طموحه الجامح.. استهوته حرفة التدليك فتعلمها على يد الأجانب الذين كانوا في مصر قبل حرب السويس، وعندما هاجر هؤلاء بعد الحرب خوفاً من التمصير والتأميم كان قد اصبح خبيراً ولم يتردد في أن يقول إنه الأب الشرعي للتدليك والعلاج الطبيعي في مصر.
ولأنه برع في حرفته فقد تهافتت عليه الأندية الرياضية الكبرى التي كانت في حاجة ماسة إلى هذا التخصص، انتهى به المطاف في النادي الأهلي، ولأنه برع في إخفاء مؤهلاته، فقد كان يعامل معامله الخبير والاخصائي في علم لم يكن معروفاً هو علم العلاج الطبيعي والطب الرياضي وأمراض الملاعب.. واصل علي العطفي طريقه سافر في دورات تدريبية ومنح دراسية وشارك في تأسيس معهد عال للعلاج الطبيعي وكان ذلك عام 1962 وفي سنة 1969 استطاع معهد العلاج الطبيعي أن ينفصل ويصبح معهداً مستقلاً، فحاول علي العفطي المستحيل حتى يصبح عميداً لكن شهادة الدكتوراه التي يحملها غيره، جعلت الحلم مستحيلاً دون أن يحصل على شهادة مماثلة، أحس علي العطفي بأكبر صدمة في حياته عندما أيقن أن منصب العميد مسألة مستحيلة وأن الجاه والمال اللذين يتمتع بهما لن يرفعاه إلى مرتبة اجتماعية أكبر من مرتبة المدلك، وقد دفعه ذلك للبحث عن طريق يوصله إلى شهادة دكتوراه بأي ثمن حتى كان لو خيانة الوطن.. وفي لحظة أصبح علي العطفي جاسوساً.
بعد القبض على(علي العطفي) حاول تضليل المحقق فعندما سأله عن كيفية تجنيده في المخابرات الإسرائيلية، ادعى أنه كان في زيارة للعاصمة الهولندية امستردام وتعرف على فتاة من هناك وبينما هما يسهران في أحد الملاهي الليلية، عرفته الفتاة بتاجر يهودي أقنعه بالدخول معه في صفقات تجارية، ثم اتضح أن هذه الصفقات غطاء لما هو أخطر وأدهى.. العمل مع المخابرات الإسرائيلية.. كانت هذه القصة كاذبة ... فقد اعترف أنه هو الذي ذهب بقدميه إلى السفارة الإسرائيلية في امستردام وقدم نفسه إلى مسؤول بالأمن بالسفارة وعرض عليه التجسس لحسابهم في مصر، أوصله مسؤول الأمن بمندوب الموساد الذي استجوبه ساعات طويلة وعرضه لجهاز كشف الكذب ولاختبارات شديدة التعقيد.
وضع رجال المخابرات الإسرائيلية علي العطفي تحت الاختبار وفترة الاختبار في كل هذه الحالة لابد أن تكون كافية ولا نعرف المدة التي قضاها علي العطفي تحت الاختبار، وإن كان من المرجح أنها لا يمكن أن تقل باي حال من الاحوال عن سنة، وأغلب الظن أنها أكثر من سنة ربما 3 سنوات، وهي الفترة التي قدموا له بعدها شهادة الدكتوراه المزيفة في العلاج الطبيعي من الولايات المتحدة الأمريكية.
كان الإسرائيليون يعرفون أن شهادة الدكتوراه هي نقطة ضعفه فلم يقدموها إليه بسهولة، وقد استثمروا ذلك جيداً حتى تمكنوا منه واطمأنوا إليه وخلال فترة حصوله على هذه الشهادة كان دائم السفر إلى الخارج وكانت حجته مناسبة البحث والدراسة، وقبل أن يمنح الشهادة، كان قد نجح في توطيد علاقته بأكبر رأس في الدولة رئيس الجمهورية أنور السادات.. وكان العطفي موضع ثقة الشخصيات المهمة التي تعامل معها، ولم يشك فيه ولو بصورة عابرة، وكانت الأبواب تفتح له دون استئذان، وعندما قبض عليه لم يصدق أحد أنه جاسوس، وقالت شخصية مهمة كانت قريبة بحكم المصاهرة من الرئيس السادات: إنني يمكن أن أشك في أبني ولا أشك في علي العطفي.. وقالت هذه الشخصية نفسها في مجلس آخر لو كان علي العطفي جاسوساً فأنا أيضاً جاسوس.
ظل علي العطفي مضطرباً طوال الوقت.. لكن بعد حرب أكتوبر ومفاوضات الكيلو 101 واتفاقيتي فض الاشتباك الاولى والثانية أحس بأن علاقة السادات بالإسرائيليين أصبحت كالسمن على العسل، وأن ضراوة الصدام والصراع بين الجانبين تتحول إلى طريق آخر، ومن ثم وجد نفسه أكثر اطمنئناناً.. وكان أن وصل الاسترخاء إلى مداه بل وصل إلى درجة عدم الحرص. وعندما وقع السادات معاهدة السلام مع اسرائيل وصل علي العطفي إلى درجة الاستهتار.
وكانت للاستهتار مظاهره فأصبح يلقي خطابه في أقرب صندوق بريد لبيته، وكان يضع في حقائب يده ملابسه وهو مسافر أو عائد من السفر ما يدينه بتهمة التجسس لو فتحت هذه الحقائق، وكان الصدفة وحدها كفيلة بالإيقاع بالجاسوس الكبير.. ففي آخر زيارة له لامستردام وصلت جرأة العطفي إلى أقصاها وذهب بقدميه إلى السفارة الإسرائيلية وتردد عليها أكثر من مرة.. رصدته السفارة المصرية وبعد التحريات والمراقبة تم القبض عليه وهو في بيته في القاهرة.
حاول العطفي الإنكار.. لكن رجال المخابرات أوقعوه في الفخ قالوا له انه لن يفضح وأنه يمكن تكتم الأمر وأن الفرصة أمامه ليكون عميلاً مزدوجاً وأنه إذا قبل ستحفظ القضية ما دام في ذلك مصلحة عليا ووافق علي العطفي، وقال لهم إنه نادم على ما فعل وأنه سيفعل المستحيل للتكفير عن خطاياه وأنهم في اسرائيل طلبوا منه الحضور إليهم وأنه سيسافر ويعيش هناك لكون عيناً لوطنه على العدو.. بعدها وافق العطفي على أن يقول كل ما عنده.. وقام إلى المكتبة وأحضر كتاباً قدمه إلى ضباط المخابرات وقال لهم إن الشفرة التي يستخدمها في هذا الكتاب وبعد حسابات فنية دقيقة أجراها أحد الضباط اكتشف أن الشفرة ليست في هذا الكتاب.
أدرك العطفي أن الطرف الآخر يفهم مهنته جيداً، فقام وخرج من حجرة المكتب إلى الصالة، وفتح درجاً مسحوراً في مكتب صغير، وأخرج منه كتاب الشفرة وجهاز إرسال وورقة من نوع خاص كانت وسط بلوك نوت لا يختلف ورقه عن هذه الورقة الا في عيون الخبراء وفي أطراف أصابعهم، وضع علي العطفي هذه الأشياء أمام رجال المخابرات فتنفسوا الصعداء.. فقد أصبحت القضية.. قضية حقيقية.
في اعترافات علي العطفي التي كانت طويلة لم يشر من قريب أو بعيد إلى أنه دلك ساق جمال عبد الناصر، ولا أنه كلف بدس السم له في المراهم والدهانات.. وإن اعترف بأنه كان على علاقة قوية بأنور السادات وبأنه وضع برنامجه الصحي الخاص بالعلاج الطبيعي وبأنه كان صديقه وكان مسموحاً له بدخول حجرة نومه وبأنه كان قادراً على خصامه إذا صدرت التعليمات بذلك.
اعترف العطفي كذلك بأن شهادة الدكتوراه التي حصل عليها مزورة وحصلت جهات التحقيق عليها من ملفه في المعهد وضمت إلى باقي احراز القضية، واتضح أنه لم يناقش رسالة الدكتوراه، بل لم يكتب ابحاثها، وكان ذلك متعمداً حتى يظل السيف على رقبته ويستمر عجينة لينة في أصابع المخابرات الاسرائيلية.. وبحثاً عن المزيد من الأدلة فتشت الأماكن التي كان دائم التردد عليها... مكتبه في المعهد.. ومكتبه في النادي الأهلي.. ومكتب استيراد وتصدير يملكه شقيقه في وسط القاهرة.. وأثناء التفتيش قال شقيقه مصدوماً: لقد جعل رؤوسنا في الأرض.. لو كان قاتلاً أو مرتشياً لهان الأمر.. لكن ماذا نقول وهو جاسوس؟!
قدم على العطفي للمحاكمة أمام محكمة أمن دولة عسكرية عليا.. وكان رقم القضية الجنائية 4 لسنة 1979 وثبت للمحكمة بما لا يدع مجالاً للشك ان علي العطفي ارتكب جريمة التخابر مع دولة أجنبية هي إسرائيل للقيام باعمال عدائية ضد جمهورية مصر العربية.. بأن أمدها بمعلومات لمعاونتها في عملياتها الحربية للإضرار بالعمليات الحربية لمصر، وكان من شأن هذه المعلومات الإضرار بمركز مصر الحربي والسياسي والدبلوماسي والاقتصادي.
كانت العقوبة المتوقعة للعطفى هي الاعدام.. لكن المحكمة اكتفت بالحكم عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة 25 سنة.. الا أن الرئيس السادات الذي صدق على الحكم خفض الحكم إلى 15 سنة اشغالاً شاقة فقط.. ولاشك أن السادات فعل ذلك استجابة لطلب مناحم بيجين رئيس وزراء اسرائيل الأسبق عندما التقيا بعد توقيع معاهدة كامب ديفيد.. بل أن بيجين فعل أكثر من ذلك.. فقد طلب الإفراج عن الجاسوس.. لكن السادات أكد له أن ذلك ليس ممكناً على الأقل في الوقت الراهن. فشل بيجين في الإفراج عن العطفي.. لكنه نجح في مهمة أخرى.. فقد قال بيجين للسادات: إن نشر تفاصيل هذه القضية سيؤثر على مسيرة السلام التي بدأت بعد طول تعثر،فأمر السادات بمنع النشر، كان قرار عدم النشر مريحاً وقد وجد هوى في نفوس أغلب المسؤولين الذين كانوا على علاقة بعلي العطفي وكان معظمهم يتوقع القبض عليه بعد أن استسلم الجاسوس وراح يجيب دون حاجة لسؤال. وبينما كان علي العطفي في سجنه تردد أن السادات أفرج عنه.. وإن كان من المؤكد أن ذلك ليس صحيحا.. فقد حدث أثناء مفاوضات شرم الشيخ في صيف 1981 أن طلب بيجين من السادات إخلاء سبيل الجاسوس السجين، وأذاع راديو لندن الخبر وعلقت صحيفة الأهالي قائلة: (إن الشرفاء يودعون السجون والجواسيس يخرجون إلى الحرية).. وفي يوم السبت التالي نشرت مجلة أكتوبر في باب اتجاه الريح تكذيباً لما أذاعه راديو لندن وأكدت أن لا صحة له.. واضافت المجلة ان علي العطفي لا يزال في سجنه ونشرت بجوار التكذيب صورة فوتوغرافية له.
باعتراف علي العطفي.. يصبح ما أعلنه عبد العزيز الشروبجي في احتفال حزب التجمع بذكرى ميلاد عبد الناصر فقي 1982 كلاما في الهواء.. فكل الدلائل تشير إلى أن رواية قتل جمال عبد الناصر بأصابع علي العطفي المغموسة في السم والمدربة على التدليك رواية لا تستطيع أن تقوم بمفردها، ولا تستطيع أن تنهض إلا في مجتمع لا يثق بنفسه ويرى أنه أصبح مجتمعاً مستباحاً يقتل فيه الحاكم بالتدليك، وحمامات الساونا، لقد احتاج جمال عبد الناصر إلى التدليك والعلاج الطبيعي في فترات زمنية لا يمكن الخطأ في تحديدها.. فترة بداية الآلام من أواخر عام 1966 إلى ما بعد هزيمة يونيو 1967، فترة انفجار الآلام من بعد الهزيمة بأسبوع إلى سفره وعلاجه في تسخا لطوبو فترة اختفاء الآلام أو التعايش معها بسهولة من بعد عودته إلى إصابته بأزمة قلبية في سبتمبر 1969، وبعد الإصابة بهذه الأزمة أصبح العلاج الطبيعي نوعاً من الإرهاق البدني لا يستطيع القلب تحمله.. وكان من غير المعقول معالجة آلام الساق على حساب إرهاق القلب.. والثابت أن على العطفي لم يذهب إلى الإسرائيليين الا في الوقت الذي لم يعد فيه جمال عبد الناصر في حاجة إلى التدليك والساونا وحمامات المياه.
معنى ذلك أن على العطفي كان كاذباً. فحسب أوراق القضية فإن فترة التجسس كانت من سنة 1972 إلى 1979، وحسبما جاء في التحقيقات في القضية رقم 318 لسنة 1979 حصر تحقيق أمن دولة عليا فإن علي العطفي ذهب إلى الإسرائيليين بقدميه ودون ضغط في سنة 1969، يضاف إلى ذلك ان الإسرائيليين باعتراف العطفي لم يتقبلوه بسهولة وهذا منطقي، وإلا كانوا بلهاء أن يثقوا في كل من يطرق أبوابهم ويقترح التجسس لحسابهم وأدى ذلك إلى فترة اختبار حاز بعدها الثقة.
ما يؤكد كذب العطفي كذلك.. أن إسرائيل التي حاولت استغلال قضية جاسوسها في التأكيد على قتلها لعبد الناصر بالسم كانت كاذبة.. فإذا كانت إسرائيل قد قتلت عبد الناصر بمس يتسرب من الساقين إلى القلب تعرف مدة تأثيره، فلماذا فوجئت بوفاته في 28 سبتمبر 1970، كما نقلت وكالات الانباء، فيوم الوفاة خرج هذا الخبر من إسرائيل.. وكان هذا نصه: (استقبلت إسرائيل نبأ وفاة عبد الناصر بذهول وتركت الأنباء الحكومة في حيرة تامة في وقت لم يكن فيه ثمة ما يدعو للظن بأن صحة الرئيس المصري تدعو للقلق).
قصة الدولة الهشة
هذه الحكايات الثلاث... قد تعصر قلبك على مرض عبد الناصر لكنها تلفت الانتباه إلى أن الحاكم في مصر وفي الشرق كله يخاف من المرض.. يخشاه. ويكذب عندما يتحدث عن أخباره الصحية.. فالغموض الذي أحاط بمرض جمال عبد الناصر وإصراره على إخفائه.. جعلت قصصا غامضة تلحق به مثل حكاية د. أنور المفتي ود. علي العطفي.. لا نستطيع أن نفصل فيهما حتى الآن برأي.. وليظل التاريخ أمامنا كهفاً مجهولاً لا نستطيع دخوله بسهولة.
لقد حاول كتاب (اغتيال عبد الناصر) أن يحمل الجميع مسؤولية قتل عبد الناصر.. فقد أوجعوا جسده وأرهقوا قلبه.. فسلم الروح وهو يحاول أن يعالج جروح الحرب ويخفف آلام المصريين.. وهو كلام يحتاج إلى إعادة نظر.. والى التخلص من عقدة الذنب التي ضخمها في داخلنا نزار القباني بقصيدته التي أنشدها فور إعلان وفاة جمال عبد الناصر قال:
قتلناك يا آخر الانبياء..
قتلناك وليس غربياً علينا..
قتل الصحابة والأولياء
فكم من رسول قتلنا
وكم من إمام ذبحناه وهو يصلي العشاء
فليس صحيحاً أن الآخرين قتلوا عبد الناصر.. بل لقد ساهم الرجل في قتل نفسه بنفسه.. لقد اختار أطباء بقاعدة أهل الثقة فضيعوه.. وأخذ قرارات خاطئة فأصابته تبعاتها في مقتل.. ولأنه أخفى تفاصيل مرضه فقد خرج من يدعي قتله.. لينال بذلك أسطورة لا يستحقها.. وعملاً ضخماً كانت تسعى له أجهزة المخابرات العالمية لكنها فشلت.
2
زملاء وعملاء
السادات مقام الرئيس في مصر الأسطوري
هناك حاكم يهتم بما سيقوله التاريخ عنه.. يضحي بكل شيء من أجل أن يظل عظيماً ورائعاً وعبقرياً ومنجزاً.. وزعيماً، وهناك حاكم لا يهتم كثيراً بالصورة التي تستقر له عند الناس لا في عهده.. ولا فيمن يأتي من بعده يأخذ القرار الذي يريده... في الوقت الذي يريده.. حتى لو أغضب الجميع وأحزنهم وصادر النوم من عيونهم.. فما دام الحاكم يعتقد أن ما ذهب إليه صحيحاً.. فلا أهمية لشيء.. ولا أهمية لأحد.. وليغرق الطوفان كل ما يرفع رأسه بالمعارضة.
وفي تاريخ مصر يأتي السادات على قائمة الزعماء الذين لم يضعوا للتاريخ اعتباراً في حساباتهم.. وهي قائمة طويلة تضم محمد علي وإسماعيل.. فجميعهم حققوا إنجازات هائلة.. وأخذوا قرارات صادمة.. وأحدثوا تغييرات قلبت المجتمع المصري رأساً على عقب.. ورغم أنهم كانوا يعلمون أن أعداداً من المصريين ترفض قراراتهم وتستنكر ما يفعلونه.. لكنهم مضوا في قراراتهم وليشرب من غضب من البحر ولم يفعلوا ذلك على طريقة عبد الناصر عندما هدد أمريكا بأنها إن لم تعجبها قراراته فلتشرب من البحر الأبيض فإن لم يكفها فلتشرب من البحر الأحمر.. فجعلوه يشرب من البحرين معاً ـ ولكنهم سقوا معارضيهم من البحر بالفعل حتى شبعوا.
عن نفسي لا أخفي إعجابي الشديد بالرئيس السادات، ورغم أن الثقافة السياسية السائدة في مصر تجعل من يعجب بالسادات يلتزم الصمت ولا يصرح بذلك خشية أن يتهم بالعتة أو البلاهة، لكنني لا أخفي ذلك بل اعتبر السادات من الزعماء العظام الذين حكموا مصر.. وفهموا الشعب المصري.. كان واضحاً للغاية لم ينافق الناس ولم يجاملهم.. وربما كان عيبه الذي لن أقول الوحيد.. أنه لم يحكم مصر كرئيس دولة.. ولكنه حكمها كعمدة أو ابن بلد.. أراد أن يشعر المصريين أنه مثلهم.. يعيش كما يعيشون.. ويتحدث كما يتحدثون.. فاستصغروا شأنه واحتقروا كلامه.. وجعلوا منه أضحوكة.. وقد فعلنا لذلك لأن أخلاق العبيد تتمكن منا حتى النخاع.. فالحاكم القوي صاحب القبضة القوية تخشاه ونخضع له ونرفعه إلى درجة الأولوهية.. أما الذي يتباسط معنا. فنجرجره في الشارع ونتعامل معه وكأن صديق يجلس معنا على القهوة ندخن معه الشيشة ونلعب معه الطاولة.. ولا مانع أن نسخر منه في النهاية..
لقد قرر السادات أن يصنع تاريخه كما يريد هو.. لا كما أرادت الأقدار، ركب حكم مصر بعد عبد الناصر وكان سهلاً عليه أن يسير على خطى عبد الناصر ويواصل سياسة الجعجعة الوطنية التي كانت تنتهي دائماً بمصيبة.. جاء والكراهية وصلت مداها لإسرائيل واليهود.. لكنه وضع كل ذلك جانباً وقرر أن يعقد صلحاً مع إسرائيل، وفي 1971 كانت خطته أن تنسحب إسرائيل من سيناء في مقابل أن يفتح هو قناة السويس للملاحة العالمية.. لكن لم يستجب أحد من إسرائيل.. فهو خليفة لرئيس مهزوم ويقود بلداً مهزوماً.. فليس من حقه أن يملي شروطه.. بل ليس أمامه سوى أن يخضع.. سحب السادات قناع الفلاح الطيب الذي ارتداه.. ووضع مكانه الفلاح الماكر الخبيث.. رنت في أذنيه كلمة كيسنجر وزير الخارجية الأمريكية أن المهزوم ليس من حقه أن يفرض شروطه.. فقرر أن ينتصر!.
فعلها السادات وانتصر. وكان انتصاره هو سر قوته.. وبعد أن كان يستمد شرعيته من انه خليفة عبد الناصر.. أصبح يستمد شرعيته من أنه الرئيس المنتصر.. الذي محا العار وأعاد الكرامة ومسح الهوان.. ووضع العسكرية في مصر في مكانها الذي يليق بها.. ورغم أن قرار السادات بخوض حرب أكتوبر كان أخطر قرار في تاريخ مصر الحديث.. لكن دراويش عبد الناصر، حاولوا أن يحرموه من عبقرية إنجازه.. فأشاروا إلى أن عبد الناصر هو الذي استعد وخطط وجهز وحدد موعد العبور.. وأن السادات جاء على الجاهز وأخذ ذلك كله لحسابه.. ولم يكن هذا كلام السياسيين الذين اختلفوا مع السادات فقط.. ولكنه أصبح الآن كلام الناس في الشوارع.. ولا زلت أذكر ما قاله لي صديق ناصري يجري عبد الناصر في روحه كما يجري الدم في العروق عندما كنا نسمع أغنية عبد الحليم حافظ الرائعة( عاش اللي قال للرجال عدوا القنال).. نظر إليّ بتأثر شديد وقالك شوف عبد الحليم بيغني لعبد الناصر إزاي؟ قلت له ولكن الأغنية للسادات فهو الذي عبر القناة.. فقال غاضبا: مستحيل .. هذه الروح التي يغني بها عبد الحليم لا يمكن أن تكون إلا لعبد الناصر..
لقد كان السادات في كل قراراته صادماً.. قادراً على الإدهاش.. لدرجة جعلته يدخل كتاب الاساطير متن أوسع أبوابه. بل أصبح بما فعله بنفسه وبشعبه شخصية أسطورية.. ليس بما فعله فقط. ولكن بما كان يقوله ويتمثله في أحاديثه أيضاً. . فقد سخر من استضعاف خصومه له في 15 مايو وأعلن أنه سيجلس تحت الشجرة أمام النهر لينتظر جثثهم تمر أمامه.. وكأن هزيمتهم أمر مفروغ منه. كان الصحفيون والمثقفون عنده أفندية.. والديمقراطية لها أنياب والمعارضون له لا يستحقون إلا الهزم. والدستور لا يستحق العناء.. ولم يكن غريباً أن يصرح لأحمد بهاء الدين في محاوراته معه: اللي زينا هم اللي بيصنعوا الدساتير يا بهاء، وكل ذلك كوم.. وما فعله عندما أعلن أنه سيسافر إلى إسرائيل.. لم يصدم الشعب المصري الذي أيده عدد كبير منه بعد ذلك فيما فعله.. ولكنه صدم إسرائيل بشعبها وقادتها أيضا.. فقد أجبرهم صاغرين أن يستقبلوه ويتفاضوا معه بعد أن رفضوا مجرد الحديث معه.. ذهب إليهم وهو يضع حذائه فوق رقابهم وكان موقفاً للغاية عند أقضي لأنيس منصور بمكنون نفسه بأنه لو كان مكان مناحم بيجين لما استقبله.. فقد زنقه من خانة اليك بهذه الزيارة.. فإسرائيل تصرخ بأنها تريد أن تعيش في سلام ولا تكف عن ابتزاز العالم بأن العرب يريدون أن يغرقوها في البحر.. لكن ها هم العرب يمدون أيديهم بالسلام وهو منتصرون.. وبذلك تبطل حجة إسرائيل لقد أدرك السادات الفكرة التي تقوم عليها إسرائيل.. وهي ادعاء الرعب من اعتداءات العرب بذلك تحظى بتأييد العالم. لكنه ها هو ينسف فكرتها ويبطل حجتها.
لم يقدر أحد ما فعله السادات.. بل سخروا منه وتركوه وحده.. عقدوا المؤتمرات ليشتموه فيها.. ولأن الانتصار كان قد أضاف إلى غروره غروراً وكبرياء فقد قرر أن يترك العرب ليذهبوا إلى الجحيم.. وأخذ يتفاوض لتعود الأرض المصرية إلى اصحابها بعد نصر حقيقي انجزه بجنوده.. ورغم مرور السنوات لم تنته المرارة من السادات. فما زال العرب يحاولون التقليل من شأن ما فعله.. وكان سخيفاً ما فعله الشيخ حسن نصر الله زعيم حزب الله عندما قال: إن إجبار إسرائيل على الخروج من جنوب لبنان هو أول انتصار حقيقي على إسرائيل منذ هزيمة 1967.. وكأنه اعتبر أن نصر أكتوبر مجرد فيلم سينمائي. وليس حرباً حقيقية.
لقد خدم القدر عبد الناصر عندما وفر له كتاباً صاغوا أسطورته وسهروا على بناءها.. لكن السادات خاصمته الأقدار في ذلك فلم تقيد له كتاب أكفاء.. كانت لديهم أسطورة كاملة الأركان في رئيس غير مجري التاريخ أكثر من مرة لكنهم لم يكونوا بحجم الحدث.. وبعمق الشخصية التي قربتهم منها.. فجاءت الكتابات التي تناولت حياته هزلية ضعيفة إلى التسلية أقرب.. وقد يكون السادات سبباً مباشراً في ذلك.. فهو لم يعط العيش لخبازه كما يقولون.. وقد يكون ذلك لأنه عمل صحفياً في بداية حياته.. ولذلك كان يعرف كيف يعمل الصحفيون والكتاب.. تدخل في عملهم فأفسده وكان هو الخاسر في النهاية.
ومن جملة ما فعلته الأقدار في السادات أنها افسدت فرصة أن تكون له جنازة أسطورة.. هذا بعد أن اغتيل في ذكرى انتصاره فاختلطت الأحزان بالأفراح. لقد أعلن الذين فرحوا في قتل السادات عن شماتتهم. وكتب كثيرون عن مظاهر لفرح والشربات الذي وزع يوم قتل السادات.. لكن لم يتطرق أحد لمظاهر الحزن على موته.. في قريتي رأيت الناس وهم يتابعون جنازته يبكون بحرارة... بل أنهم أعلنوا الحداد على طريقة أهل الريف.. فأغلقوا التليفزيونات شهراً كاملاً ولبسوا الأسود عليه.
لقد فرضت الظروف الأمنية أن تكون جنازة السادات رسمية.. وحضرها قادة إسرائيل.. ولو فتح الباب ليحضرها البسطاء كما حدث مع عبد الناصر حيث تم تأخير دفنه حتى يأتي الناس من بلادهم.. لو تم ذلك لكانت الملايين التي أحبت السادات حضرت جنازته وبكته ولكانت أضيفت جنازة أسطورية إلى كتاب الجنازات الكبيرة التي شهدها التاريخ المصري.. لكن هذا لم يحدث لأن الاقدار كانت قد قررت أن تمارس لعبتها مع السادات حتى النهاية.
الجرأة على السادات؟
لم تكن الصورة التي نشرتها جريدة (الميدان) للرئيس السادات قتيلاً وعارياً، إلا حلقة واحدة من حلقات الجرأة على الرئيس السادات، والوقاحة في تناول سيرته، منذ تولي حكم مصر بعد وفاة عبد الناصر عام 1970، وحتى الآن، فالرجل مستباح في الجلسات الخاصة وعلى صفحات الجرائد، الكل ينهش فيه بلا رحمة.. ولا خجل، وكنت أجدني كلما سمعت سباً للسادات وطعناً في سياسته وفي المقابل أجد تقديسا لعبد الناصر وتأليهاً له.. كنت ـ وما زلت أقول ـ إن المصريين يعاملون عبد الناصر مثل أبيهم.. ويعاملون السادات مثل زوج الأم.
الطريف أننا لا نعامل السادات على طريقة سعيد صالح في مسرحيته (هاللو شلبي) أن الذي يتزوج أمي أقول له يا عمي، ولكننا تعاملنا معه على طريقة اللي يجوز أمي أضربه على دماغه.. وأنتقم منه شر انتقام حيا وميتاً.. مهزوماً ومنتصراً.. فهو لا يستحق إلا اللعنة.. حتى ولو قدم في حياته شيئاً ضئيلاً.. يستحق به العفو والمغفرة!.
حضور السادات في حياة المصريين لا يخرج عن إلقاء نكتة عليه.. أو اتهامه بالخيانة أو وصفه بأنه كان رجلاً يحب المزاح.. والتراث المسموع والمقروء يؤكد ذلك، فقد وصفت قناة الجزيرة معاهدة السلام التي أبرمتها السادات مع إسرائيل بأنها مجرد تحشيشة.
وبلغت المأساة ذروتها عندما صدرت جريدة العربي الناصري في 31 ديسمبر 2000، وعلى صدرها عنوان عنيف يقول بكل بساطة ـ ولن أقول سذاجة ـ (عبد الناصر بطل القرن.. والسادات الخائن الأعظم) .. وفي سبيل تبني الجريدة لوجهة نظرها استعانت بمقال الدكتور فوائد مرسي قال فيه: مات عبد الناصر وهو يعد لمعركة كبرى مع إسرائيل لإزالة آثار العدوان، وقبل عبد الناصر ما سمى بمبادرة روجرز بأمل استكمال عدتة للقتال، فلما تولى السادات أوحى إلى الأمريكان بأنهم سيجدون فيه شخصاً آخر غير عبد الناصر، وبدأ بمواصلة تجميد الموقف العسكري استجابة لمبادرة روجرز منذ أغسطس 1970، وقدم لذلك ما سمي بمبادرة 4 فبراير 1971 التي نفرد السادات بوصفها بعيداً عن قيادة الاتحاد الاشتراكي ومجلس الوزراء، ودعا فيها إلى انسحاب اسرائيلي جزئي، وفتح قناة السويس للملاحة العالمية، وعلى الرغم من إهمال إسرائيل وأمريكا لمبادرة (السادات) فإنه استمر في موقف التجميد بحجة تقاعس الاتحاد السوفيتي عن استكمال تسليح الجيش واتفاق موسكو وواشنطن على الاسترخاء العسكري في المنطقة، وفي أبريل 1971 أعلن السادات عن قيام اتحاد الجمهوريات العربية المتحدة بين مصر وسوريا وليبيا ضارباً عرض الحائط بإجماع قيادة الاتحاد الاشتراكي على معارضته، لكنه مع التخلص مما أسماه مراكز القوى، واعادة تشكيل الاتحاد الاشتراكي ومجلس الشعب الجديد، تطلع السادات إلى إقامة نظام عربي جديد انتهى إلى تسليم قيادة المنطقة العربية للسعودية، وعلى الرغم من توقيعه في يونيو 1971 معاهدة للصداقة والتعاون مع الاتحاد السوفيتي، فإنه سعى حثيثاً لتوتر العلاقات المصرية السوفيتية والبحث المستمر عن أسباب للصدام، ولم تمر سنة واحدة على المعاهدة حتى قام السادات بطرد الخبراء السوفيت دفعة واحدة، تقرباً وزلفى إلى الأمريكان.. لكن الأمريكان واصلوا إهمالهم له).
اتهام جريدة العربي للسادات بالخيانة لم يمر مرور الكرام، مما اضطر القائمين على الجريدة إلى تقديم اعتذار لأسرة السادات عن هذا الوصف الذي رأه بعضهم توصيفاً معنوياً، فليس المقصود أن السادات خائناً بالمعنى المادي.. لكنه خائن بالمعنى المعنوي، بل واستشهد بأغنية حديثة لعلي حميدة يقول فيها: (خان العشرة ليه) ما فعلته الجريدة لم يكن مسبوقاً.. فهي قدمت فقط ما يقوله المثقفون في جلساتهم على المقاهي... والناصريون على النواصي.. أخرجته من إطار الجلسات الخاصة إلى العلانية.. ولا تفسير لذلك إلا أن كل من يصف السادات بالخيانة يملك في داخله شيئاً ما يجعله يتجرأ ويعلن رأيه في السادات .. هذا الشيء هو ما يهمنا أن نبحث عنه.. فقط أوكد أنني لست طرفاً .. فلا أنا ناصري أتعبد في محرابه آناء الليل وأطراف النهار ولا أنا ساداتي أتغزل في أعماله وأقواله وسياساته.. ولكني إذا جاز التعبير( بازي النزعة) أقتنع بما يتسق مع إنسانيتي وإنسانية من حولي.. وما يوفر لهم حياة كريمة لا مكان فيها للذل والهوان.. فأنا لا أقبل انتهاك الإنسان حتى لو كان ذلك باسم الوطن أو الزعيم الملهم او الرئيس المؤمن!
أنا أرصد فقط..
عندما جلس السادات مكان عبد الناصر ليحكم مصر.. اعتقد الجميع أنه غير كفء وأنه لن يستطيع أن يتحمل المسؤولية.. فهو لا وزن له ولا قيمة، رغم أن عبد الناصر هو الذي اختاره.. وهو ما يعني أن السادات كان أفضل رجاله.. فقد كان أكثرهم خبرة وحنكة سياسية وأوسع إدراكاً لما يدور حوله في مصر أو العالم، ولو لم يكن السادات يستحق أن يخلف عبد الناصر لما عينه نائباً له، ولا مكان هنا للتفسير الفانتازي الذي يتبناه صلاح عيسى من أن عبد الناصر اختار السادات خليفة له. حتى يترحم عليه المصريون عندما يقارنون بينه وبين السادات.. فالفارق بينهما سيكون كبيراً، فمع احترامي لتفسير الأستاذ صلاح.. لكنه لا يصلح لتفسير سلوك رؤساء بقدر ما يصلح لتفسير سلوك ستات في حي شعبي يكدن لبعضهن البعض لأي سبب تافه.
لقد أعلن السادات للمصريين من أول وهلة أنه لن يستطيع أن يملأ الفراغ الذي تركه عبد الناصر.. ففي الاحتفال بالذكرى الأولى لوفاة عبد الناصر وقف السادات ليتحدث فقال: إنها لحظات شاقة جدً على نفسي أن أقف لأتحدث في ذكرى جمال ولا أكتمكم؟ أنني كما تعودت وكما نشأت في بيتئي الساذجة في القرية، لا أستطيع أبداً أن أحزن كما يجب أن أحزن أو كما نتعود في القرية، أن أحزن على حبيب أو صديق.. إلى هذه اللحظة لم أستطيع أبداً.. كما جمال صديقاً وفياً لكل زملائه، كان جمال مثال الأخ والصديق والعون لكل من يريد العون.. بهذا بدأ جمال تنظيم الضباط الأحرار.. وقبل أن تقوم المبادئ الستة أقام التنظيم على قيم نحترمها هنا في بلدنا (الوفاء والحب والصداقة).
ما قاله السادات هذا كان امتداداً لما قاله أثناء حياة ناصر، وتكفينا هذه الفقرة من كتاب السادات الذي منحه اسم (ويا ولدي هذا عمك جمال) قال فيه: (وجمال يا رب صنعك الرائع وإبداعك القاهر، إنه عبدك المؤمن بك المتوكل عليك المسير بإلهامك الباعث في شعبه وقومه رسالة الحق والعزة والسلام ونصرة اليوم... يا رب هي أروع وهبتنا من انتصارات).
وكأن هذا الثناء من السادات على عبد الناصر في حياته وبعد موته، وتأكيده على أنه يسير على طريق عبد الناصر، جعله يهون في عيون الناس... وعيون رفاق عبد الناصر الذين رأوا فيه دمية يستطيعون أن يفعلوا بها ما يريدون وقتما يشاءون لكنه ضربهم بقوة وجمعهم جميعاً في سلة واحدة كما يقول أنيس منصور وألقى بهم في السجون.. لكنه وحتى بعد أن ألقى برجال عبد الناصر كان يؤكد على ولائه وإخلاصه ووفائه لناصر!
وفي شهادة نجيب محفوظ على زعماء مصر يقول عن السادات: (كانت انطباعاتي عن السادات سيئة منذ توليه السلطة بعد عبد الناصر، وظلت تلك الانطباعات كما هي لم تتغير حتى كانت أحداث 15 مايو 1971، حيث اكتشفت خلالها أن هذا الرجل داهية، وليس سطحياً كما تصورت، وأنه أشبه بالشخص المستضعف في أفلامنا السينمائية القديمة والذي يفاجئ الناس بأفعال لم يتوقعوها منه! شخصية المستضعف هذه تشبت بها السادات ولم يحاول أن يغيرها، فقد سأل أنيس منصور السادات قائلاً: يقال إنك أفلحت في إقناع الرئيس عبد الناصر بأنه لا حظر لك ولا خوف منك على عبد الناصر، ولذلك طال وجودك إلى جواره، فاستراح جمال عبد الناصر إليك تماماً، ثم إنك ذهبت إلى أبعد من إقناعه بأنك رجل مريض إلى أن أوصيت عبد الناصر على أولادك لأنك سوف تموت قبله، فلم يعد لديه خوف أو قلق.. وهكذا طال عمرك السياسي... فضحك السادات ولم يعلق بشيء..
ولأن الأسئلة بين أنيس والسادات لم تكن تنتهي على طريقة قل لي يا ريس نعم يا أنيس.. سأله أنيس مرة عما يقال عن أن السادات في جنازة عبر الناصر تظاهر بأنه مصاب بأزمة قلبية، وكذلك فعل على صبري، ولم تكن هناك أزمة، إنما كانت لدى السادات معلومات مؤكدة أن هناك محاولة لاغتياله سوف تنفذ أثناء الجنازة.
وللمرة الثانية يضحك السادات قائلاً: يا باي إن لا يصدق أحداً... أعوذ بالله. ولم يثبت السادات الواقعة، ولم ينفها.. ويبدو أنه كان يحب أن ينظر بمظهر الرجل الغامض.. وهو ما يجعل الجميع يستضعفونه ويسخرون منه.. ولم يكن يأخذ رد فعل.. ما دام ينفذ ما يريده!.
وعندما نعود مرة ثانية وأخيرة إلى شهادة نجيب محفوظة عن الرئيس السادات نجده يقول: (من تحليلي لسلوكيات وأفعال السادات توصلت إلى أنه شخصية غريبة الأطوار تدعو إلى الحيرة والدهشة، فأحياناً يغضب من تصرف أو رأي ويعاقب صاحبه، ثم يلبث أن يقوم هو بنفس التصرف، وطبيعي أن شخصية هذا مسلكها يمكن أن تغري الآخرين بالتطاول عليها حتى ولو سراً، فلابد أنه ستأتي فرصة لتكون السخرية السرية علنية.
حاول السادات أن يحكم مصر بمفرده وبعيداً عن ظلال جمال عبد الناصر بعد انتصاره في حرب أكتوبر، فما الذي ينقصه الآن.. لقد انتصر على اليهود الذين هزموا ناصر... وآن الأوان أن يدين له المصريون بالولاء... لا لأنه خليفة عبد الناصر والرجل الذي يسير على طريقه.. ولكن لأنه القائد المنتصر.. الذي يجب أن يعشق لذاته.. وليس لذات سلفه.. لم يدرك السادات أن ذلك لم يكن ممكناً.. فقد رآه المصريون منذ البداية أقل من عبد الناصر.. وساعدهم على الاقتتناع بذلك.. وعندما جاء ليغير الصورة لم يتمكن لأنه قد (فات الميعاد).
لم يتصرف السادات بحنكة.. فقد أراد اقتلاع عبد الناصر من جذوره وتشويه صورته.. فعل ذلك عندما لم يعترض على حملات التشويه التي تعرض لها عبد الناصر من بعض الكتاب والصحفيين ورسامي الكاريكاتير.. وفعل ذلك عندما تطوع هو نفسه وتحدث عن عبد الناصر.. قال عنه: إن عبد الناصر كان مشغولاً بالخرافة التي أصبح اسمه مقترناً بها، خرافة كبيرة جداً في مصر والعالم العربي فهو البطل الذي حقق النصر على امبراطوريتين كبيرتين بريطانيا وفرنسا، ولم ينس السادات أن يؤكد أنه ورث اقتصاداً مهلهلاً، بفعل سياسات عبد الناصر، حاول السادات أن يؤكد أنه وراء فكرة تنظيم الضباط الأحرار.. وأن عبد الناصر نزل على التنظيم في مرحلة لاحقة.. وهو ما رفضه الذهن المصري والعاطفة الشعبية التي كانت لا تزال متأججة بحب عبد الناصر.
ولعل حملة السادات على عبد الناصر. كانت وراء حملة النكت التي حاصرت السادات تسخر منه ومن كلامه عن علاقته بعبد الناصر.. ومن بين سيل النكت كانت هذه النكتة التي كان يلقونها على عبد الناصر.. مثال ذلك أن مواطناً صلى في مسجد جمال عبد الناصر وراح يتمتم وهو يرفع يده إلى السماء فسأله جاره:
ـ بتعمل إيه.
ـ باقرأ الفاتحة لسيدي المفتري.
لكن وبعد أن مات عبد الناصر وبعد أن فتحت عليه أبواب جهنم.. وانهالت عليه الشتائم والاتهامات من كل مكان.. أصبحت النكتة تقول: إن الرجل الذي كان في مسجد عبد الناصر سئل بتعمل إيه:
فقال: باقرأ الفاتحة لسيدي المشتوم.
أعطى السادات الفرصة للمصريين لسيخروا منه. سلمهم نفسه طواعية.. ولذلك سرعان ما تحولت النكتة من نقد موقفه من سلفه عبد الناصر إلى نقد مواقفه وسياساته الأخرى.. فقد سخر المصريون من حصره على إلقاء تصريحاته السياسية بعد أداء صلاة الجمعة، وحرصه الأكبر على أن يظهر خاشعاً في ركوعه وسجوده أمام كاميرات التليفزيون فأطلقوا عليه هذه النكتة: خرج السادات ذات يوم ثم عاد مسرعاً فسألته زوجته:
ـ إيه ..فيه إيه؟
ـ نسيت حاجة مهمة جداً؟
ـ نسيت إيه؟
ـ زبيبة الصلاة؟
لم تكن النكتة وحدها التي جرجرت السادات إلى الشارع وجردته من ملابسه وسخرت منه.. وقف الشعر العامي أيضا وجهاً لوجه أمام السادات وجاء أحمد فؤاد نجم بقاموس بذاءاته الشهير الذي جمعه من حياة الصعلكة ليقول في قصيدته بيان هام: نقدم إليكم/ولا تقرفوش/شحاته المعسل بدون رتوش/يأفين/يبلبع حبوب/ويفضل يهلفظ ولا تفهموش/بسم الله/سلام عليكم/وسلمون وموز/وأما المسائل فهنجف ولوز/مساء التنفس/مساء الروايح/سلام عليكم بصفتي رئيسا وأبا وجوز.
وفي قصيدة الانتخابات اختار نجم للسادات اسم (العيسوي) إمعاناً في السخرية منه وتسهيلاً للاستدلال عليه، يقول فيها: بشرى لجميع الحشاشة/ العيسوي بيه رمز الماشة/سبحانه الله من أو مباشة/ بقى كل الأمن العام في إديه/ العيسوي بيه/العيسوي بيه/من أجل ضمان الحرية/لجميع تجار الباطنية/ العيسوي بيه ميه الميه حيخلي القرش بربع جنية.
لقد ظل المصريون يربطون بين النكتة والمخدرات.. وعندما جاء السادات أصبح ضلعاً ثالثاً.. فأينما وجدت نكتة ومخدرات.. ستجد إلى جوارهما الرئيس السادات.. وهذه واحدة من كثير.. خرج السادات ليشم الهواء على الطريق الزراعي، فوجد غرزة فدخلها، فمد أحدهم إليه الجوزة قائلاً:
ـ مساء الخير.. فتناول الجوزة وسحب نفسا ثم أعادها لصاحبها الذي سأله:
ـ والأخ بلا أفيه بيشتغل إيه؟.. فرد
ـ أنا رئيس الجمهورية .. فقهقه الرجل قائلاً:
ـ كده من أول نفس!
لقد طالت النكتة كل زعماء مصر.. وجعلت عبد الناصر بكل شموخه وكبريائه يهتز أمامها، بل راح بعد هزيمة 1967 يطلب من الشعب أن يكف عن طعن الجيش من الخلف بالنكت، وأن يؤكد أنها سلاح للعدو، لا يجب أن نستخدمه بأيدينا، لكن حتى النكت التي قيلت عن عبد الناصر كانت مختلفة تماماً عن التي رمي بها السادات، فبينما ركزت النكت التي حظى بها عبد الناصر على قوته وعنفه وافترائه على خلف الله أحياناً.. راحت النكت التي كانت من نصيب السادات تسخر من ضعفه وقلة حيلته إلى الدرجة التي أوصلته فيها إحدى النكت أنه لم يكن يصدق نفسه أنه اصبح رئيساً للجمهورية.. فبعد توليه الرئاسة قال لنفسه ذات يوم:
يجب أن أناقش الرئيس في كثير من الأمور اليوم.. لكنه استدرك قائلاً:
لكنني أنا الرئيس .. فماذا أفعل.. آه.. ينبغي أن أناقش زوجتي في هذه الأمور.
ولأن الشارع المصري اعتبر السادات ضعيفاً منذ البداية فقد تجرأت على أهل بيته وأطلق في حقهم النكت أيضاً.. ويقول هيكل إن السيدة جيهان السادات كانت تهتم اهتماماً خاصاً بتقارير النكتة عنها وعن زوجها ولم تكن تضحك لهذه النكت بل كانت تبدو غاضبة وهي تسمعها أو تقرؤها وكانت تعلق أثناء ذلك بعبارات قاسية.. قائلة إن الشعب المصري لا يستحقها هي وزوجها.. ولو أنصفه القدر لكان مكانهما دولة أخرى وشعب آخر.
كان السادات على عكس زوجته يضحك للنكت التي تصله بل كان يرويها لبناته ويضحك معهن عليها.. بل كان يطلب من أصدقائه والمقربين منه أن يرووا له النكت الجديدة.. ولم يكن غريباً أن يروي السادات بنفس بعض النكت، ولعل هذا ما أغرى الناس بالتنكيت على السادات والسخرية منه.. فما دام الرئيس ينكت.. فلماذا لا تكون عليه هو.
لقد أضر السادات نفسه ضرراً بالغاً عندما أحاط نفسه بمجموعة من الندماء، واستغنى عن المستشارين، وعلى ما يبدو أن السادات كان لا يحب وجع الدماغ بالاستماع إلى المشاكل.. فقد قرب السادات إليه عثمان الذي كان بطبيعته مسؤولاً عن إزالة الشوائب التي يمكن أن تعلق بمزاج السادات، إقترب أنيس منصور من عقل السادات وكان قادراً على إضحاكه وتسليته وإذهاب الملل عن نفسه، ولذلك لم يكن السادات يستطيع أن يستغنى عنه.
قرب أنيس منصور من السادات يجعلني أنصت اليه وهو يحلل أخطاء السادات وعيوبه.. يقول أنيس: قبل الثورة كان السادات هو الوحيد المعروف والباقون محدش يعرفهم كان عنده فكرة وهدف، وهذا الهدف كان يتم سراً، وكل من تآمر عليهم السادات من رجال عبد الناصر، كان رأيهم في السادات أنه ولا حاجة وأنه راجل مهرج، ويرى أنيس أن السادات مسؤول عن هذه التهمة، لأنه لم يجرؤ أن يفصح عن أعماقه أمام جمال عبد الناصر، ولولا هذا الشعور لكان عبد الناصر قضى عليه تماماً.
ولأن حكايات أنيس منصور لا تنفد، فهو يحكى أنه ذات مرة مرة قال له الرئيس السادات إن عبد الناصر كان هو الزعيم ولم يكن يقبل أبداً أي واحد يبان قدامه ويكون له رأي أو نظرية وتوارت كل الرؤوس ويعلق أنيس على هذا الرأي بأن السادات احتفظ بآرائه في صدره ولهذا بقى طويلاً، لم يكن في مجلس قيادة الثورة يظهر بمظهر المعترض وإلا كان انتهى من زمان!.
إلى جوار أنيس منصور قرب السادات أيضاً موسى صبري الذي لعب دور المبرراتي في حياة السادات... كان يبرر له كل قرار ويظل يؤكد على عبقريته وأنه على صواب حتى كان سبباً أسباب اغتياله، فقد لعب موسى دوراً في خداع السادات عندما أقنعه أن كل الشعب المصري يحبه وأن من يعترضون عليه قلة حاقدة لا وزن لها ولا خوف منها.
فعل السادات ما هو أكثر من ذلك.. فقد قرب إليه أيضاً فايز حلاوة الذي كان مسؤولاً عن إضحاك السادات وترويق مزاجه وقد استثمر حلاوة جلساته الخاصة مع السادات، فقد كان يجمع النكت التي تلقى في مجلسه ويضعها في مسرحياته التي قدمها مع زوجته وقتها تحية كاريوكا بعد حرب أكتوبر، مثل روبابيكيا، البغل في الإبريق، ويحيا الوفد، وفي المسرحية الأخيرة سب حلاوة السوفيت، وضحك السادات عليها طويلاً لأنه شارك في تأليفها.. وتكاد تكون هذه هي المرة الوحيدة التي تهبط فيها النكت من جلسات الرئيس الخاصة إلى الكباريه السياسي.
وعلى نفس المساحة الهزلية اقترب حمادة سلطان المنولوجست الكبير وماكينة النكت التي لا تتوقف من جلسات السادات الخاصة، بل كان يطلبه الرئيس السادات في أي وقت، لا لشيء إلا ليطلب منه أن يحكي له آخر نكتة.. هذا الاقتراب بين السادات وحمادة سلطان.. جعل الناس يضعونهما في سلة واحدة.. فلا فرق بين منولوجست بدرجة رئيس، ومنولوجست بدرجة مهرج يروى النكت ويتبادل القفشات مع الرئيس!
وفي الوقت الذي اقترب كل هؤلاء من الرئيس السادات، كان هيكل برجاجة عقله وقدرته على التصرف يبتعد عن السادات تماما، ظل هيكل إلى جوار السادات في صراعه مع مراكز القوى للدرجة التي جعلت السادات يؤكد أن هيكل كان مهندس العملية من بدايتها إلى نهايتها التي كللت بانتصار السادات.. ووقف إلى جواره في حرب أكتوبر!
لكن العلاقة العميقة انهارت وتحولت في بعض مراحلها إلى عداء ظاهر.. في فبراير 1974، اتصل عبد الفتاح عبد الله وزير شؤون رئاسة الجمهورية بهيكل ليخبره بوجود خمس غرف جاهزة تنتظره في الجناح الذي أعد له في قصر عابدين بعد تعيينه مستشاراً لرئيس الجمهورية، رفض هيكل العرض قائلاً: إنني لا أنوي الذهاب إلى قصر عابدين وإنما أنا خارج من الأهرام إلى بيتي حتى أعثر على مكتب أعمل منه كصحفي وكاتب مستقل، وعلى باب الأهرام قال هيكل للصحفيين الذين كانوا في انتظاره: (إنني استعملت حقي في التعبير عن آرائي بصراحة والرئيس السادات استعمل سلطته في إخراجي من الأهرام).
ترك خروج هيكل من الأهرام في نفسه جرحاً غائراً.. لم تمحه الأيام، لقد حاول السادات أن يقترب من هيكل بعد ذلك، ففي نوفمبر 1974 وبعد قطيعة تامة استمرت شهوراً، اتصل السادات بهيكل وطلب أن يلقاه في استراحة الهرم، كان هيكل مشغولاً بكتابه الطريق إلى رمضان، وكان السادات يشعر بضيق وضغوط من كيسنجر وعلى وشك الذهاب إلى قمة الرباط التي أعلن فيها أن منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الوحيد للفلسطينيين، جلس هيكل ليتحدث مع السادات.. لكنه وجد أن الخلافات مع السادات ما زالت قائمة.. ولذلك قال له: لنظل أصدقاء أفضل.. ولنر فيما بعد ما يمكن عمله معا.
أخر مرة رأى هيكل فيها السادات كان في شتاء 1975.. لكنهما ظلا يتحدثان تليفونيا لفترة طويلة، كانت أهم المكالمات.. هي المكالمة التي جرت بينهما بعد أحداث 18و 19 يناير والتي دارت كالتالي:
* هيكل: أهلا يا أفندم أتمنى ألا تكون متضايقاً.
* السادات: هو ده ما كنت أقوله لك دائماً يا محمد.
* هيكل: إيه هو؟
* السادات: مراكز القوى أهم اتحركوا
* هيكل: أعمل معروف لا داعي لاستدعاء أشباح نسيناها.
السادات: لا.. لا يا محمد.. وبعد أن شرح هيكل وجهة نظرة في المظاهرات وحاول أن يؤكد أن لها بعدا اجتماعيا.. وجد السادات يقول له..(أنا ما فهمتش حاجة.. أنت جرالك إيه.. صديت) لم يعلق هيكل على كلام السادات.. وبعد حوارات طالت طلب سيد مرعي من هيكل ألا يضغط على السادات ولا يضايقه ولا يلح عليه بآرائه وأفكاره!
عندما خسر السادات هيكل خسر كثيرا، فلم ينس هيكل جرحه الذي كان السادات وراءه.. ولذلك كان طبيعياً أن يفضح هيكل السادات في كتابه(خريف الغضب) قصة بداية ونهاية عصر السادات وهو الكتاب الذي استخدم فيه هيكل كل قدراته.. لم يركن إلى قدرة الباحث الذي يحارب بسلاح الوثائق فقط ولكنه أخرج أسلحته كلها فاستخدام الأسلوب الروائي والتحليل النفسي حاول هيكل أن ينفي عن نفسه تهمة أنه تعمد الإساءة إلى السادات.. لقد علق على لون السادات الأسود في كتابه.. وبرر ذلك قائلاً: أنا تناولت لون السادات وأنا مش أبيض أنا من الصعيد.. وعندي أصدقاء من أفريقيا ولست عنصريا ولا أتصور اللون نقيصة لكني حاولت أن أجد في اللون مفتاح للنفاذ لأنور السادات..
تحدث هيكل في خريف الغضب عن نشأة السادات وفقره.. واتهمه البعض أنه يعاير السادات بأصله وفصله وفقره.. وبرر هيكل ذلك أيضاً قائلاً: لقد حاولت استعمال مفاتيح النشأة والبيئة في خريف الغضب وهي مشروعة وعلمية، كل واحد فينا بما في ذلك رجل السياسة هو ذلك الطفل الذي كان لقد غضب البعض عندما تكلمت عن تأثير الفقر على السادات فالفقر ليس عيباً تصور البعض أنني أعايره وهو ما لم يخطر ببالي فأنا حاولت أن أفهم مكوناته بقدر ما أستطيع.
قد يكون هيكل فيما قاله في حواراته الكثيرة تعليقاً على خريف الغضب.. لكن ضربته للسادات لم تكن طائشة.. أوجعته. وآلمت من يحبون السادات على قلتهم، خسر السادات كثيرا لأن هيكل خرج من معسكره، وظل في معسكر السادات كتاب اهتموا بمصالحهم.. لم يجيدوا الدفاع عن السادات أو تحسين صورته أو رد غيبته فطارت كلماتهم عنه في الهواء وبقيت كلمات النقد والهجوم ثابتة وراسخة.. انتشرت بسهولة وأصبح سهلاً أن تسمع من رجل الشارع العادي كلاماً في حق السادات وكأن السادات مجرد مواطن عادي ولم يكن يوماً من الأيام رئيساً للجمهورية له حسناته وسيئاته .. قد تكون سيئاته قاتلة لا تغتفر لكنها تبقى في النهاية سيئات رئيس يحاول أن يجتهد فأخطاء!
لقد تعرض الرئيس السادات طوال حياته ولا يزال رغم مرور أكثر من عشرين عاماً على اغتياله.. لحملة من الشتائم والسباب جردته حتى من ثيابه الذي يستره... الغريب أن الرئيس السادات نفسه كان هو السبب الرئيسي في هذه الحملة المستمرة، توضيح ذلك يحتاج إلى عقدة مقارنة بين السادات وعبد الناصر.
عبد الناصر عندما كان يغضب على صحفي يعتقله.. يخرسه.. يظهر له العين الحمراء.. كان عبد الناصر يكسر أعناق الرجال.. فعل ذلك مع إحسان عبد القدوس وفكري أباظة ومصطفى أمين.. كان يحيلهم إلى أشباح لا تجرؤ على التفكير في الحديث عن عبد الناصر بعيب حتى لو كانت العيوب ظاهرة، أما السادات فكان عندما يغضب على صحفي يشتمه ويسبه فيتحول الصحفي بذلك إلى ند لرئيس الجمهورية.. لم يفعل ذلك مع الصحفيين فقط.. ولكنه عندما شتم الشيخ كشك شتمه الشيخ في شريطه المناظرات عندما قال: اعتبر أيها السادات من سلفك.. انظر إلى جبروته.. وكيف بات الآن عظاماً بالية، بسم الله الرحمن الرحيم، ذهب لا من لا يقولها وجاء الآن من يقولها مبتورة.. بسم الله أكملها يا ناقص.. جعل السادات نفسه في مساواة مواطنيه فتجرأوا عليه.. فإذا شتمهم شتموهم.. وإذا أهانهم أهانوه!
عبد الناصر سجن عدداً كبيرا من الصحفيين والكتاب والمفكرين وقد فعل السادات ذلك أيضاً وبشهادة الذين دخلوا الرئيسين، فإن سجن السادات كان مجرد نزهة بالنسبة لسجون عبد الناصر.. لكن الفارق أن عبد الناصر أقنع كل من سجنهم أنه فعل ذلك من أجل خدمة الوطن وقضيته.. ولذلك لا تجد مثقفاً كبيراً أو حتى مواطناً عادياً دخل السجن في عهد عبد الناصر إلا ويمدح الزعيم ويسبح بحمده، السادات جعل القضية شخصية.. ولذلك شعر كل من دخل السجن في عهده أنهم ضحايا غروره ومجده الشخصي ولذلك اعتبروه خائناً.. باعهم بلا ثمن.. وأهدر كرامتهم في السجون المظلمة بلا مقابل.
لقد ساوى السادات نفسه بالمواطنين .. كبار وصغاراً عندما نزل معهم في سجال وتبادل معهم الشتائم، فقد هيبة الرئيس ووقاره.. وعندما اختفى الوقار، تجرأ عليه الجميع على صفحات الجرائد وفي الأفلام والمسلسلات وفي الجلسات الخاصة.. وكان هذا ما جناه على نفسه.. ولم يجنه عليه أحد!.
بهاء والسادات
لو كان الرئيس السادات حياً يرزق.. ما زاد على فيلم (أيام السادات) أي شيء فكل الأحداث والحوارات والأفيهات واللفتات صاغها أحمد بهجت على ضوء (البحث عن الذات) الذي كتبه السادات بنفسه، و(سيدة من مصر) الذي كتبته جيهان السادات، أي أن الفيلم سيرة ذاتية بحتة كتبها صاحبها، واشرف عليه زوجته وقرأت السيناريو فحذفت وأضافت وعدلت!
ولأن السادات لم يكن وحده هو الذي كتب أحداث الفترة التي حكم فيها مصر، بل كتبها كثيرون غيره، فإن ما ورد في الفيلم من أحداث يمكن أن تختلف حوله الروايات، ولكل فيما يكتبون مذاهب، من بين مفكري ومثقفي وكتاب مصر اعتمد صناع فيلم السادات على اثنين فقط في أحداث الفيلم هما محمد حسنين هيكل الذي ظهر كثيراً في مشاهد الفيلم، وأحمد بهاء الدين الذي ظهر باهتاً شاحباً متردداً في مشهد واحد حشره أحمد بهجت ضمن مشاهدة الكثيرة ليعلن من خلاله أن السادات قرر إعلان الأحزاب.
بدأ المشهد هكذا.. شخص يخبر السادات أن أحمد بهاء الدين وصل وقد جاء من المطار مباشرة.. يتجه السادات إلى بهاء مرحباً بشدة.. وسرعان ما يسأله.. بقى كده يا أحمد تكتب إن الانفتاح (سداح مداح) فيرد بهاء: والله أنا قلت رأي يا ريس.. يأخذ بالسادات الكلمة، ويبدأ في محاضرة طويلة يشرح خلالها لبهاء أن الانفتاح يشبه الثورة الصناعية في أوربا، وأنها كانت في بدايتها ايضا ( سداح مداح) لكن النتيجة النهائية كانت عظيمة .. وهي النتيجة التي يريدها السادات لانفتاحه.. لا يفعل بهاء أكثر من تصديقه على كلام السادات مردداً (تمام يا ريس).. وينتهي المشهد بأن يقول السادات لبهاء: (سيبك من الموضوع ده.. أنا قررت أعلن قيام الأحزاب.. حيكونوا ثلاثة أحزاب.. يسار علشان تقولوا فيه اللي إنتو عاوزين.. ويمين ووسط وحاكون أنا رئيسه).
تتوالى مشاهد الفيلم دون رعاية أو اهتمام بأحد غير السادات.. فهو يصاحبك من تيتر البداية وحتى رصاصات الاغتيال الأخيرة.. وإذا كان هذا هو أحمد بهاء الدين في (أيام السادات) بلا زيادة أو نقصان، فإن أحمد بهاء الدين كتب أيامه مع السادات من خلال كتاب مهم هو (محاوراتي مع السادات).
يحكي بهاء عن محاوراته مع السادات بصورة تؤكد أن مشهد الفيلم الوحيد الذي ظهر فيها بهاء كان مشهداً هزلياً للغاية كتب يقول: كانت الصحف تخرج علينا كل يوم بعد حرب اكتوبر تبشرنا بالاف ملايين الدولارات التي تهطل علينا ـ وستهطل علينا ـ من البلاد العربية والأوروبية وأمريكا، ولعل السادات كان حريصاً على تأكيد فكرة اقتران السلام المقبل بالرخاء العميم، وقد بدأ يكرر هذه المعاني في خطاباته في السنوات التالية، فأخذت هذه الأموال تتحول إلى مجالات الاستهلاك بسرعة هائلة.
لقد كان في تقدير أحمد بهاء الدين أن جو الانتصار بعد حرب أكتوبر هو أحسن جو، لأن تطلب الدولة من الناس ربط الأحزمة والصبر ثلاث سنوات مثلا، تتوجه فيها هذه التبرعات، والمساعدات والقروض والتسهيلات في اتجاه الاستثمار الإنتاجي وإصلاح ما أهمل منذ 1967، فيكون ذلك أساس رخاء حقيقي يتزايد بعد ذلك، لكن السادات كان متعجلاً في توزيع ما اعتبر أنه ثمار النصر، وكانت له طرق غريبة في توزيع هذه الثمار، وكانت له طرق غريبة في تبسيط أعقد القضايا الاقتصادية وعقد مقارنات بالغة الطرافة.
تحدث بهاء الدين مع السادات قبل صدور قانون الانفتاح الذي اصدره د. عبد العزيز حجازي رئيس وزراء مصر 1974، قال له: لماذا لا نبدأ يا ريس بمنطقة حرة واحدة حتى تستوفى شروطها وتمتلئ بما نطمح إليه من نشاطات ثم نعلن على ضوء التجربة عن منطقة حرة ثانية، وهكذا؟ ورد السادات عليه قائلاً: إنني أتعجل اليوم الذي تصبح فيه مصر كلها منطقة حرة؟ سأله بها: إزاي يا ريس؟ فرد السادات بثقة: ألا ترى الرخاء والنجاح في هونج كونج وسنغافورة وغيرهما، انتهى الحوار بين الرجلين، لكن بهاء يعلق ساخرا، وكان عباً محاولة شرح الفرق بين مدينة حرة وبين دولة طويلة عريضة إلى آخر ما يدخل في الف باء الاقتصاد.
انتظر بهاء ما تجود به السماء، وبت بالفعل عواصف الانفتاح، وهجمت على البلاد شتى أنواع السلع الاستهلاكية، وبدأت تظهر أولى فصائل المستثمرين الجادين، كما ظهر النصابون المحليون والدوليون المعروفون، ودارت كل أجهزة الإعلام مرئية ومسموعة ومقروءة تندد بما سمي بفترة الإنغلاق، كان لابد لبهاء أن يكتب وكتب، وخرج عدد الأهرام في 12 يوليو 1974 يحمل مقالاً بتوقيع بهاء عنوانه(الانفتاح ليس سداح مداح).
ولنستمع لبهاء وهو يروى تفاصيل ما حدث بعد هذا المقال العاصفة يقول: في اليوم التالي من نشر مقالي عن الانفتاح، اتصل بي الرئيس السادات تليفونيا وقال لي أن الدكتور عبد العزيز حجازي غاضب جدا من هذا المقال، وأنه شكاني إليه، وأن ظهور مثل هذا المقال بهذا العنوان في الصفحة الأولى من الأهرام وموقعاً بأسمي بعد أقل من ثلاثة أشهر من صدور القانون يعرقل الانفتاح ويثير له مشاكل كثيرة، وانطلق السادات في كلام طويل لم أعد أميز منه بالضبط ماذا يمكن أن يكون كلام د. حجازي وماذا يمكن أن يكون كلام السادات نفسه.
كان بهاء ـ صريحاً مع نفسه فقد أكد أن الاوضاع التي كشف عنها الانفتاح كانت هي بداية الشرخ الحقيقي بين السادات وبينه، هذا الشرخ الذي أخذ في الاتساع حتى نهاية علاقتهما، لقد حاول بهاء أن يكتب مراراً في الأهرام محاولاً مقاومة تيار الانفتاح تحت عناوين التنمية والبناء والاعتماد على النفس وعدم تكرار مأساة التبعية الاقتصادية، والارتهان للأجنبي، ولكن المشاكل والتوترات زادت بين الكاتب الكبير، وأهل السلطة، ولما لم تكن هناك وقتها صحف معارضة ولا أحزاب معارضة، ولم لم تكن قد راحت السكرة وجاءت الفكرة، فقد فكر بهاء في ترك منصبه في الاهرام وأن يعود مسوؤلا فقط عن مقال يكتبه ويضع عليه اسمه.
أخذ صناع فيلم السادات من سيرة بهاء ما يروق لهم فقط في رسمهم لصورة السادات بغض النظر عما قاله بهاء عن واقعة معينة، قد يعتبر أحمد بهجت نفسه حرا في أن يصيغ الحوادث كما يريد، لأنه يكتب دراما وليس تاريخا، لكن ليس بهذه الدرجة التي ظهر معها السادات بؤرة الأحداث ومركزها والجميع يدورون في فلكه يسمعون له في إنصات ويرددون كلامه بلا مناقشة.. ليس هذا فقط، ولكن يحاولون أن يقنعوا به الآخرين.
لم يكن بهاء كذلك.. فهو الكاتب الوحيد الذي لم تبقر السلطة بطنه وتجعله تابعاً لها بأي صورة من الصور، ولذلك عندما كتب عن السادات كتب بموضوعية شديدة.. ولم يكن غريباً والكاتب هو بهاء أن يؤكد في مقدمة كتابه الذي نشرته دار الهلال أنه ليس لديه على محاوراته مع السادات شهود، إلا في القليل النادر وليس لديه وثائق إلا أقل وأندر، فهو يكتب هذه الأحاديث معتمداً على الذاكرة تماماً تاركاً الحكم عليها للقارئ ورأيه في أمانة الكاتب ومسؤوليته.
لقد رأيت السادات من وجهة نظر أحمد زكي وأحمد بهجت ومحمد خان وقد حرصوا أن تستمتع بالفيلم، فمؤكد أنك ستجد فيه ما يسعدك، فإذا كنت من محبي السادات، فستجد حالة تقميص رائعة يؤديها أحمد زكي للسادات، وكأن الرجل بعث من مرقده، وإذا كنت مشاهداً عادياً لا تصدع رأسك بالانضمام لأي من حزبي عبد الناصر أو السادات، فستجد حرفية عالية جداً تم بها تنفيذ الفيلم فلا تشعر فيه بالملل.. والحوار بسيط تنساب كلماته بلا مشاكل ولا مانع من بعض الإيهات التي تجعل القاعة تضحك وكأنها تشاهد فيلماً لمحمد هنيدي.
السادات عند أحمد بهاء الدين شيء مختلف ليس تماماً.. لكنه مختلف كثيراً عما جاء في الفيلم.. يقول بهاء عن بداية تعارفه بالسادات: حدثني إحسان عبد القدوس عن أنور السادات، وعلاقته به قبل الثورة، وأنهما صديقان، وبدأ أنور السادات يأتي أحياناً إلى مجلة (روز اليوسف) في مبناها القديم ليجلس ساعات مع إحسان، وكان بشوشاً يقهقه بضحكة عالية ويقدمه إحسان لمن يتصادف أن يكون موجوداً ولكن كنت أتصرف بنفور من التعرف عليه مفضلاً أن أبقى بعيداً عن زعماء المؤسسة العسكرية الذين لم تتضح أهدافهم بعد، خصوصاً بالنسبة لواحد منهم اقترن في ذهني بالاتصال بالألمان النازيين والاشتراك في محاولة اغتيال مصطفى النحاس زعيم الحركة الوطنية الشعبية في ذلك الوقت.. كان هذا في أوائل الخمسينيات.
لم يكن بهاء مقبلاً على التعرف على السادات.. لكن حدث ما لا يهواه.. ففي سنة 1957 كانت هناك أمور كثيرة قد اتضحت من فكر وأهداف مجلس قيادة الثورة سواء إلغاء الألقاب أو التحويل إلى النظام الجمهوري أو إعادة توزيع الأرض الزراعية، أو حضور جمال عبد الناصر مؤتمر باندونج بوصفه أحد زعماء ومؤسسي حركة عدم الانحياز، خلال هذه الأحداث دق جرس التليفون في بيت بهاء الدين، كان المتحدث هو أنور السادات وقال له إن جمال عبد الناصر قرر تكوين لجنة مصرية للتضامن الآسيوي ـ الأفريقي تساهم باسم مصر في هذه الحركة الشعبية الواسعة في آسيا وأفريقيا، وأنه تقرر أن يكون السادات رئيساً للجنة ويوسف السباعي سكرتيراً لها، وسرد على بهاء نحو 12 اسما هم أعضاء اللجنة كان من بينهم بهاء، يومها أخبر السادات بهاء بأن الرئيس جمال عبد الناصر هو الذي وضع اسمه في اللجنة!
مرة أخرى يحكي بهاء عن أيامه مع السادات يقول: كانت الثورة تحاول عبثاً إقامة تنظيم شعبي جماهيري لها أسست هيئة التحرير ثم حلتها وأسست الاتحاد القومي في محاولات غير ناجحة لملء الشارع السياسي، وكان جمال عبد الناصر قد جعل كمال الدين حسين رئيساً للاتحاد القومي، ثم اختار له حسين الشافعي مؤقتاً، ثم اختار له أنور السادات بصفة مؤقتة أيضا إذ كان منصبه هو رئيس مجلس الأمة.
ودخلت ـ الكلام ما زال لبهاء ـ إلى حديقة بيت السادات وهو جالس على مقعده المفضل وجلست على مقعدي المألوف وسألني السادات بطريقة عفوية، وكأنه لا يهتم كثيراً بما يسأل عنه، وقد كان يتقن هذا الأسلوب كثيراً حتى لا ينتبه محدثه في غمرة التفاصيل إلى ما يهمه من الحديث عن الأخبار والشائعات التي تخرج من فندق شبرد وتملأ القاهرة وأخذت أسرد له ما في ذاكرتي من أحاديث ومقابلات وشخصيات ونوادر، وكأن حديثي قد ابتعد عما يهمه، سألني: وشائعة أن صلاح البيطار سوف يكون أميناً عاماً للاتحاد القومي في مصر وسوريا: ألم تسمعها؟
قلت له: لا لم أسمع هذا الخبر أو هذه الشائعة، ولكنها في رأي فكرة عظيمة، الغريب أنها لم تخطر على بالي قط؟ فسألني وما وجه العظمة فيها؟ فقلت له: القيادة في مصر صارت لها خبرة في إدارة الدولة والسياسة الخارجية وتطوير المجتمع من خلال القنوات الحكومية، ولكنا نشكوا دائماً من عدم خبرتنا في تكوين تنظيم شعبي ناجح رغم شعبية الثورة، ورجل مثل صلاح البيطار بنزاهته وتجرده ودوره الخاص في الوحدة يتميز بخبرته الطويلة في العمل الحزبي والتنظيمات الشعبية وعدت أكرر له: والله إنها فكرة عظيمة!
ولأول مرة أرى أنور السادات لا يكتم غضبه وثورته، مع أنه في العادة قادر تماماً على ذلك وقال لي: تقول لي إنك لم تسمع الخبر أو الشائعة وأنت تترافع عنه على هذا النحو؟ ماذا يظن هؤلاء السوريون وخصوصاً البعثيين منهم؟ إنهم يتصورون أنهم سيحكمون مصر ويعلموننا السياسة؟
وجد بهاء أن ثورة السادات أكبر من الموضوع.. ولم ينتبه إلى أن السادات كان رئيساً مؤقتاً للاتحاد القومي وأنه كان ينتظر أن يكون المنصب من نصيبه، ومضت السنوات على الرجلين وعلاقتهما باردة، وكان كلما طلب السادات بهاء على فترات متقاربة، كان بهاء يتحدث بصراحة كاملة عن كافة الأمور العامة مهما كانت دقتها، وكان السادات يستمع أكثر مما يتحدث، ويصف بهاء السادات بأنه كان ممن يحسنون الاستماع وعدم إظهار مشاعرهم أو النطق بما يريد أو يقوله، ولذلك عندما صار رئيساً للجمهورية، وكان بعض أهل السلطة يبدون دهشتهم وأحياناً استنكارهم من مصارحتي الكاملة للسادات، كنت أقول لهم: إن السادات يعرف أرائي بالتفصيل في كل الأمور والسياسات والاتجاهات جيداً، ولو قلت له أي شيء يخالف معتقداتي المدونة لديه، لنزلت من عينيه، ولم يصدقني، فالأحسن أن يكرهني إذا شاء ويعتبرني صادقاً!
أحداث كثيرة ومواقف كثيرة أثرت سلبياً على علاقة السادات ببهاء الدين، فبعد هزيمة 1967 تصاعدت حملة الصحف على هيكل، والامتيازات التي تنفرد بها الأهرام، وقرر عبد الناصر أن يكون علي صبري مشرفاً على جريدة الجمهورية، والسادات مشرفاً على مؤسسة أخبار اليوم ومؤسسة دار الهلال، واتصل السادات ببهاء الدين ليبلغه بذلك، ويطلب منه أن يخصص له مكتباً في المؤسسة كي يباشر عمله منه.. ودار الحوار بينهما هكذا.
بها الدين: مكتب تحت أمرك وهو الوحيد اللائق بك.
السادات: مش معقول يا أحمد! أنت بذلك لا تريدني في دار الهلال.
بهاء الدين: سيادتك تعلم أنني كثيراً ما وسطتك لدى الرئيس عبد الناصر كي يعفيني من رئاسة مجلس إدارة دار الهلال، وأن يجعلني مشرفاً على تحرير مجلاتها فقط، وتذكر أنه عندما رفض ذلك أكثر من مرة بحثت عن وظيفة في اليونسكو ووجدتها وكنت على وشك الحصول على إجازة سنتين أعيشها في باريس فراراً من مشاكل الإدارة!
السادات (مقاطعاً): طيب أجل حكاية المكتب دي لحد ما نتقابل:
لم يعد السادات إلى هذا الحديث مرة ولم يدخل دار الهلال بعده أبداً، واكتفى بالمكتب الذي أعدته له أخبار اليوم، وكان يذهب إليه كل جمعة.. لكن موقف بهاء ولا شك أثر سلبياً على علاقته بالسادات.
علاقة السادات ببهاء دخلت نفقاً مظلماً عندما شن الرئيس هجوماً على بعض الكتاب المصريين الذين يكتبون في صحف بعض الدول العربية، كان بهاء وقتها مريضاً وكانت مقالاته أيام هذا الخطاب تنشر في جريدتي (الأنوار اللبنانية)و(الوطن) الكويتية وغضب السادات من بهاء، لكن موسى صبري الذي ذهب لبهاء ليصحبه لمقابلة السادات في اسوان أكد لبهاء ان القطيعة بين السادات وبينه يجب أن تنتهي لأن السادات يثق أن بهاء يفرق بين انتقاد سياسة مصر وبين مهاجمة مصر.
رفض بهاء أن يذهب وقال لموسى أريدك أن تقول للرئيس السادات على لساني إنني أطالب بالمساواة بالمطربة شريفة فاضل، فقد كانت شريفة صاحبة كباريه(الليل) في شارع الهرم تغني أسبوعاً في كازينو الليل وأسبوعاً في كازينو في لندن، حيث يكثر السواح العرب، وأنها كانت تغني ليلة عندما تصايح بعض السكارى بكلمات ضد السادات وكامب ديفيد، وأن شريفة فاضل سايرتهم بكلام يحمل نفس المعنى، وبعد أيام نشرت جريدة الأخبار خطاباً من المحامي لبيب معوض يقول فيه على لسان موكلته شريفة فاضل أنها تؤدي عملها في لندن كمطربة فقط ولا علاقة لها بالسياسة!
لقد قال بهاء لموسى صبري إن شريفة فاضل من حقها أن تغني في كباريه في مصر وفي كباريه في لندن، ومن حقها أن تنفي ما يوجه إليها من تهم غير صحيحة، ,أنا أطالب بهذا الحق وبالمساواة مع شريفة فاضل في كباريهات الصحافة!
تطورت الأمور وانقطعت الصلة بين السادات وبهاء... كانت هناك محاولة واحدة بذلتها جيهان لتعود المياه إلى مجاريها.. يقول بهاء: سألتني جيهان.. ألا تريد أن ترى الرئيس قبل سفرك للكويت؟ وتواصل الحوار بينهما:
بهاء الدين: لا أحد يتردد في مقابلة رئيس دولته، ولكن عندي سببان للاعتذار عن المقابلة الأول أن الرئيس غاضب مني.
جيهان: وهل تصدق كلام الصحفيين؟
بهاء الدين: لم يقل لي أحد ذلك، ولكنه أمر بديهي، فالرئيس يخوض معركة حياته السياسية وأنا لست في معسكره، وقد رفض مني حتى موقف المعارضة المتعلقة فمنعني من الكتابة.
جيهان: لا غضب ولا كلام فارغ.. أنت تعرف شعوره الخاص نحوك، وقد كنت أسمعكما تتشاجران ثم يطلبك بعد أيام.. إن بينكما عشرة طويلة.
بهاء الدين: وهنا يأتي السبب الثاني.. إنني بصراحة أسمع أن الرئيس في حالة عصبية شديدة التوتر وأنه لم يعد يطيق المناقشة وأنه لا يتردد في إهانة من يناقشه ويصب جام غضبه على الصحفيين.. إنني لأجل هذه العشرة الطويلة لا أريد أن أقابله في هذه الظروف، فقد يحدث بيننا ما يكسر الجرة نهائياً، إنني أفضل ألا نتقابل حتى تمر حدة الأزمة بشكل أو بآخر فيكون في اللقاء فائدة.
كان ما قاله بهاء صحيحاً.. ولذا لم يقابل الرئيس السادات بعدها، لقد كان بهاء الدين في علاقته مع السادات يحافظ على مكانته ككاتب عجزت السلطة عن اقتحامه، لكن صناع فيلم السادات رأوا فيه غير ذلك.. لأنهم صنعوا الفيلم بوجهة نظر السادات الذي لم يكن يرى في المثقفين، إلا (شوية أفندية)!
3
الرئيس ممثلاً
عندما يضع الرئيس أحمر الشفاه
إذا أردت ان تكون رئيساً عظيماً... فلابد أن تكون ممثلاً عبقرياً.. لتستطيع أن تقنع ناخبيك بوجهة نظرك هذا إذا كنت في بلد ديمقراطي يأتي الرؤساء فيه عبر صناديق الانتخابات، أو تسيطر على شعبك وتظل جاثماً على صدره هذا إذا كنت في دولة من دول العالم الثالث يأتي فيها الحاكم بانقلاب ولا يرحل إلا بالموت.. والمفارقة الحقيقية أن الرئيس في أمريكا مثلاً ترسم له الأدوار التي يقوم بها بعناية شديدة.. فكل كلمة محسوبة.. وكل لفتة معمولة حسابها.. الابتسامة يتم تحديد مقاسها مسبقاً.. والضحكة لا بد أن تكون درجة الصوت فيها محددة.. لا تزيد ولا تنقص.. بل إن النكت والإفيهات التي يلقيها الرئيس الأمريكي تصنع على عين لجنة يتم اختيارها بعناية، وتنفق عليها بالمليارات.
في العالم الثالث الرؤساء ممثلون بالسليقة، بعضهم يمثل على شعبه لمزاجه الشخصي، يحبه ويعشقه ويتفنن في تفصيل الادوار لنفسه.. ويقوم بكتابة الأدوار ويؤديها ويخرجها وإذا أراد فهو يخرج عن النص عندما يريد.. في مصر مثلاً أشار كل من كتب عن الرئيس السادات إلى عشقه للتمثيل وحبه للكاميرات وحرصه على الظهور أمام الجمهور بشكل حدده هو دون تدخل الآخرين.. فهيكل في خريف الغضب يروي أن السادات وابتداءُ من 1974 وما بعدها اتخذ لنفسه عادة جديدة في الاحتفال بعيد ميلاده، كان يعود في ذلك اليوم إلى القرية التي ولد فيها وهي قرية(ميت أبو الكوم) وهناك وأمام عدسات التليفزيون وتحت اضوائه الباهرة يجلس مرتدياً جلابية ريفية أنيقة التفصيل وعباءة عربية فاخرة ليحكي على امتداد ساعتين او ثلاث، ذكريات حياته والمشكلة ـ كما يقول هيكل ـ إنه لم تتوافق روايتان قط من الروايات التي كان يحكيها، فقد كان في كل سنة يضيف ويحذف بل ويتناقض في روايته لقصته عن الطريقة التي قدمها من قبل، وأحياناً كانت القصص الجديدة تتصادم بقسوة مع ما سبق له هو أن قاله أو كتبه فيما أدلى به من أحاديث أو ما كتبه من مقالات في عديد من الصحف والمجالات التي كان يسيطر عليها أو  يرعاها، ويمكن أن يقال إنه كان يكتب قصة حياته من جديد مرة كل سنة.
انتهى كلام هيكل الذي حاول من خلاله أن يؤكد أن السادات كان ممثلاً في كل حالاته.. ليس في لقاءاته الرسمية.. وخطبه السياسية فقط.. ولكن في روايته لحياته الشخصية أيضاً، على عكس ما فعله هيكل فإن الكاتب الأمريكي (آرثر ميللر) كان صريحاً.. لم يتحدث بالتلميح أو الإشارة.. كتب مقالاً طويلاً ضمنه في كتاب في حجم كف اليد.. ولأن ميللر هو كتابه.. فالكتاب يباع بـ 15 دولاراً مرة واحدة.. رأى ميللر في كتابه أن رؤساء أمريكا كلهم ممثلون..والخلاف بينهم في درجة الأحتراف.
قبل أن يفهم أحد ميللر خطأ.. فإنه يؤكد أن ما كتبه ليس إلا ملاحظاته الشخصية حول أداء السياسيين التمثيلي، ولا تعني ملاحظاته تلك أية إساءة لفن التمثيل، فبعض أصدقائه من الممثلين، ثم إنه يعتقد وهذا هو الأهم أن التمثيل أمر حتمي ليس للرؤساء فقط، ولكن لنا جميعاً بمجرد أن نخرج من بيوتنا، فالطريقة التي نتحدث بها في الشارع مع الناس وعلى المقهى مع أصدقائنا.. ليست هي الطريقة ذاتها التي نتحدث بها في غرف نومنا داخل منازلنا.
لقد دخل ميللر إلى مقاله من رؤيته للإنسان فهو ليس حيواناً اجتماعياً كما كان يعتقد أرسطو لكنه بالإضافة إلى ذلك (حيوان ممثل).. ولذلك فمن الطبيعي أن يرتبط الناس بطريقة أداء الرئيس وشخصيته أكثر من ارتباطهم بقراراته.. فما زلنا نذكر الطريقة التي أخذ بها جمال عبد الناصر قراره لتأميم القناة وتجد نبرته الأسطورية التي أعلن بها القرار صدى في نفوسنا أكثر من تأثير القرار نفسه، وما زلنا نتأمل الطريقة التي ألقى بها السادات قراره بالسفر إلى إسرائيل ونحس بها... أكثر من إحساسنا بالقرار نفسه وتوابعه التي تظلنا حتى اليوم.
والرئيس المحظوظ في رأي ميللر الممثل المحظوظ.. فشخصياتهم تفرض نفسها منذ البداية على الجمهور، لكن مشكلتهم الكبرى أنهم لابد أن يعيشوا مثل راكب الدراجة الذي يواصل الحركة باستمرار حتى يصل إلى هدفه، لأنه لو توقف لحظة فلن يصل.. وكذلك الرئيس والممثل.. فكل منهما نجم، يبحثان عن دور جديد.. قصة جديدة.. قرار جديد.. المهم أن يكونا في دائرة الضوء، يبحثان عن دور جديد.. قصة جديدة.. قرار جديد.. المهم أن يكونا في دائرة الضوء، والصعوبة التي يقابلها أي رئيس الآن وبعد انتشار التليفزيون ومن ورائه الفضائيات أن الشعوب أصبحت ولمدة 24 ساعة في اليوم محاطة بالتمثيل، فكل ما يقدم على شاشات العالم في النهاية تمثيل: نشرات الأخبار.. البرامج الحوارية.. برامج المسابقات.. المسلسلات.. الأفلام.. وبالمرة تأتي خطب الرؤساء والسياسيين التي تستدعي حبكة درامية محكمة كان يجيدها ريجان من بين رؤساء أمريكا للدرجة التي كان يتندر فيها المحللون عليه بأنه لم يكن يستطع التمييز بين أدواره في الأفلام التي شارك فيها وأدواره الحقيقية التي قام بها من موقع مشاركته في الأحداث الفعلية كسياسي.
إن التطور التكنولوجي الرهيب الذي تلهث وراءه البشرية دون أن تدركه فرض على من يرغب في كرسي الرئاسة الأمريكية أن يتعلم فنون التمثيل.. لا يكتفي بقدراته الشخصية... ولا بكفاءته الذاتية.. والمفاجأة أن تعلم التمثيل ليس كل شيء.. فيمكن أن يتقمص الرئيس الأمريكي شخصية ولا تعجب الجماهير في النهاية فتطيح به من البيت الأبيض، بوش الأبن حاول في حملته أن يبدو جاداً بعيداً عن جو المرح.. حاول أن يبدو مستبشراً وسعيداً... لكنه فشل في إقناع الجمهور وقد أرجع ميللر ذلك لسوء الحظ ليس أكثر، فالممثل يمكن أن يؤدي دوراً على المسرح أو السينما ويفشل.. ليس لأنه سيء.. ولكن لأنه لم يكن على مزاج الجمهور. يفرض الدور الذي يؤديه الرئيس الأمريكي أمام عدسات جمهوره أن يغير بعض طباعه، فبوش الصغير الذي أصبح معبوداً للأمريكان الآن.. كان قبل أن يصل لمنصب الرئيس يتلفت يميناً ويساراً وهو يتحدث.. يصمت لبرهة كلما أنهى فقرة في خطابه.. واعتبر بذلك ممثلاً سيئاً.. لكنه وبعد أن تسلمته لجنة مسؤول عن إعداده وإعادة إنتاجه.. تخلى عن الالتفات يميناً وشمالاً.. ونسى الصمت تماماً.. بل إنه تخلى عن (الشخر) الذي كان يخرج منه رغماً عنه وهو يلقي كلمة.. فليس مناسباً أن يقف رئيس ليشخر أمام شعبه!
ولا يكون الرئيس ممثلاً بارعاً إلا إذا أخفى عن مشاهديه أنه يمثل عليهم.. فهو تلقائي.. هكذا يفعل آل باتشينو وتوم هانكس وأحمد زكي.. وهكذا كان يفعل بيل كلينتون.. ويجيد الفعل ذاته الآن بوش الصغير، ويذكر ميللر أنه أثناء حملة أيزنهاور، ضد أدلى ستيفينسون فتح التليفزيون ليشاهد أيزنهاور الجنرال الذي قاد أعظم قوة غازية في التاريخ وهو مستلق بين يدي اخصائية تجميل محترفة تعده ليظهر على التليفزيون، كان ميللر ساعتها ساذجاً، لقد سأل نفسه لماذا يظن هذا الرجل أنه في حاجة إلى البودرة وأحمر الشفاه وليس إلى الأفكار والتصريحات؟ ما لم يعرفه ميللر أن الرئيس لا يستغنى عن الشجاعة بنفس الدرجة التي لا يستغنى فيها عن أدوات التجميل.. فالقرارات الجريئة لا تغنى عن أحمر الشفاه.. والأفكار العظيمة لا تغنى عن البودرة.. لكن المهم ان يظل الرئيس محتفظاً بصورته.. فمن الخطر أن يعرف الناس أن الرئيس يخفي وجهه الحقيقي تحت وجه بلياتشو.
لقد نجح كلينتون في أن يصل إلى البيت الأبيض مرتين.. ورغم أن الأمريكان اكتشفوا في النهاية أنه كان يكذب عليهم طوال الوقت.. لكنهم كان يصدقونه ليس لأنهم سذج.. ولكن لأن كلينتون كان ممثلاً عبقرياً.. يقول ميللر: (إنه على الرغم من فضيحة الاعتذار المثيرة للاشمئزاز التي غادر بها كلينتون البيت الأبيض.. إلا أنه ترك منصبه بكم هائل من الإنجازات، ارتبط به الأمريكان.. تعاطفوا معه.. وجدوا أن المأزق الذي تعرض له يكفي جداً ليغفروا له خطاياه.. تمنوا أن يخرج من أزمته.. وهو ما يحدث تماماً مع الممثل عندما تتيح له أحداث المسرحية تكفيراً درامياً لذنوبه، كان سر كلينتون أنه يسترخي أمام عدسات التصوير.. وهو الاسترخاء الذي كان يخلق حالة من الود بين المؤدي(الرئيس) والمشاهد(الجمهور).
بوش الصغير على العكس تماماً من كلينتون.. فالجماهير العالمية خارج الولايات المتحدة الأمريكية ليست معجبة به على الإطلاق.. سنضطر لاستثناء الشعب الأمريكي مؤقتاً، لأنه ما زال مبهوراً بما حققه بوش في حربه البربرية ضد العراق.. وسر هذا النفور من بوش أنه ممثل فاشل.. يشعر كل من يسمع له أو يراه أنه يمثل دوراً ما.. فهو كما يقول ميللر (ينفخ صدره ويزم فمه بقسوة في محاولة لإخفاء ضعفه) فقبل أن يصل إلى السلطة كانت تتكرر أخطاؤه النحوية كثيراً.. كان يكرر أنه القائد المنتظر والزعيم الذي سيرفع الأمة الأمريكية من الضياع.. لكن هذا لم يشفع له.. فقد كان الأمريكان يرونه مهرجاً يؤدي دور الزعيم ليس إلا.. ومن سوء حظه أنه كان كلما انفعل قصرت قامته أكثر فأكثر.. وعندما تولى السلطة لم يجهد نفسه ليتقن دوره.. لكنه لجأ للحيلة الأبدية.. حيث اعتمد على العنف كلما دعت الحاجة إلى ذلك.. ولذلك فهو ومن 11 سبتمبر وحتى الآن يلعب دور شجاع السينما الذي أعلن الحرب على الإرهاب.. وهو ما زال يتخفى وراءها.. يستمد منها قوة وشرعية.. ويلفت بكلامه عنها تركيز الجماهير الضخمة عن شخصيته المهتزة. وضعفه السياسي.
لم يختلف بوش فيما يفعله إذن عما كان يفعله وحش الشاشة العربية أو ملك الترسو ـ كما كان يحب أن يلقب ـ فريد شوقي.. لم يكن فريد ممثلاً عبقرياً... ولذلك كان يعتمد في أفلامه على كثرة المشاهد التي يضرب فيها عصابات تهريب المخدرات.. التي يقسم في كل مرة بشرف الست والدته أنه لن يرحمهم أبداً.. فعندما يفتقد الرئيس أو الممثل القدرة على إقناعك بحسن الأداء... فإنهما لا يترددان في أن يفعلا ذلك معك بسوء الأدب.
وإذا كان ضعف الرئيس أو الممثل يحل بالقوة والعنف في الواقع وعلى الشاشة.. فإن الممثل الجيد رئيساً أو فناناً يستطيع أن يقنع جمهوره بما يريد دون عناء، لقد صدق الأردنيون الملك حسين عندما عاد إلى الأردن من أمريكا ليعزل أخاه الأمير الحسن عن ولاية العهد... ويولي ابنه الأمير عبد الله وقتها والملك الآن. نزل الملك حسين من الطائرة مجهداً منهك القوى.. كان الرجل يعالج من السرطان.. ما أن لمست قدماه أرض الأردن حتى خر ساجداً يشكر الله على نعمة أن جعله يرى تراب أرضه مرة أخرى... مشهد تمثيلي رائع وظفه الملك في خدمة هدفه.. فقد تعاطف معه الشعب الأردني بشدة وبارك قراره وشد على يديه.. لم يكن أمام الملك الذي أدى الدور ببراعة إلا أن يطلب إسدال الستار .. وكتابة كلمة النهاية لحياته.. لتبدأ حياة جديدة لمملكة اختارها بنفسه بل وضع لها السيناريو والحوار.
وفي رام الله عندما حوصر الرئيس ياسر عرفات ونقلت الكاميرات الفضائيات صوره وهو يعيش في ظلام مقره يتحدث على ضوء الشموع.. يتحدى المحتل ويعده بأنه سينتصر عليه.. أصبح عرفات في يوم وليلة ـ رغم ما لحق بتاريخه الطويل من شوائب ـ بطلاً أسطورياً صامداً.. كان يوظف كل إمكاناته.. عيناه الغائمتان أصبحتا عيني صقر... رعشة يديه وشفتيه اختفت تماماً... نبرات صوته أصبحت حادة.. لكن عندما أنتهى الحصار وخضع عرفات لشروط شارون سقط القناع.. واكتشف الناس أن الرئيس كان يمثل.. ومادام الدور انتهى فلا داعي لتصديقه.
الفكرة الاساسية التي أخرجها أرثر ميللر في مقاله الطويل، وهي أن الرئيس لابد أن يكون ممثلاً بشرط ألا يعرف الناس أنه يمثل عليهم، تفسر لماذا لم يكن الناس يصدقون الرئيس السادات رغم أنه كان بارعاً في الأداء.. خطيباً ماهراً.. يستخدم إمكاناته الجسدية لتساعده في التعبير عما يريد؟ فأغلب الظن أن ما رواه الرئيس السادات عن حياته وعن عشقه للتمثيل ومحاولته العمل به.. جعل ذلك كله ينظرون بعين الريبة لهذا الرئيس الذي كان يحلم في يوم من الأيام أن يصبح ممثلاً.
ففي مقال نشره الرئيس السادات بنفسه عن نفسه في جريدة الجمهورية عدد 28 نوفمبر 1955 كتب السادات يقول عن رحلته مع التمثيل: (كان ذلك في أوائل عام 1936 وكنت في مدرسة رقى المعارف الثانوية، وتكونت في المدرسة فرقة تمثيلية، كنت أنا ضمن أفرادها، بعد أن أديت الامتحان أمام المشرف وكان ممثلاً محترفاً جيء به لكي يشرف على الفرقة ولكي يعد الرواية التي ستقدمها الفرقة في نهاية العام الدراسي، وأنا أذكر أنه جاء بروايتين إحداهما دراما والأخرى فكاهية وأنه أعطاني دورين أحدهما في الدراما وكان اسمي فيه (جيردمش والآخر في الرواية الكوميدية وكنت أمثل فيها دور مأذون أسمه الشيخ عزيز، ومازلت أحتفظ إلى اليوم بالبروجرام الذي طبع لهذه الحفلة، وعليه صورتي كما ترى الآن في كل البروجرامات التي تطبعها الفرق التمثيلية.
بعد أن أدى السادات هذين الدورين قرأ إعلاناً تطلب فيه الفنانة أمينة محمد وجوها جديدة لفيلمها الذي كانت تنوي إنتاجه وهو (تيتاونج) توجه السادات إلى مقر الشركة في عمارة بشارع إبراهيم باشا وها هو يقول وكما جاء في مقال الجمهورية: (جاءت الفنانة أمينة محمد واستعرضتنا جيئة وذهابا وكنا أكثر من عشرين شاباً انتقت منا اثنين وطلبت من الباقين أن يرسلوا لها بصورتين إحداهما فاس والثانية (بروفيل) ولم يكن هذا الطلب إلا زحلقة).
هذا ما قاله السادات عن نفلسه.. أما ما قاله عنه الآخرون فهو كثير أيضاً.. تقول دورين كايز رئيسة شبكة تليفزيون(اية. بي.سي) الأمريكية في القاهرة والتي التقت السادات رئيساً:، كان لدى السادات إحساس غريزي بكاميرات التليفزيون.. لا تكاد أنوارها تقترب منه حتى يعد نفسه لها، ويرى هيكل في خريف الغضب أن السادات كان يملك ممثلاً قابعاً في اعماقه.. ويعتبر السادات واحداً من النجوم اللامعة.. والنجم اللامع عند هيكل يبدو قادراً على القفز فوق حدود الزمان والمكان، يمد يده مباشرة إلى أيدي وآذان ملايين من الناس لا يعرفهم، ومقياس النجاح والفشل بالنسبة له لا يقاس بعدد الأصوات التي حصل عليها في الانتخابات، أو بحجم أغلبية تقف وراءه في برلمان، ولكن يقاس بعدد المرات التي ظهرت فيها صورته على أغلفة مجلات مثل تايم ونيوزيك.. وبالرحلة إلى القدس.. التي كانت ـ وهذا رأيي وليس رأي هيكل ـ لحظة القمة في الدور الذي كان يؤديه الرئيس السادات..
لقد نزل السادات إسرائيل وصافحه أعداؤه.. ولم يشغل الناس ساعتها هل ستؤدي هذه الزيارة إلى وضع حد للحرب الدائرة بين العرب وإسرائيل.. لأن سؤالاً أهم كان يلح على أذهانهم.. وهو هل الرحلة وقعت بالفعل؟.. وهل ما يرونه أمامهم واقعاً.. أم أنه واحدة من الأساطير الكثيرة التي يسمعون عنها في حكايات ألف ليلة وليلة؟.. تفاعل العالم مع السادات ربما لأن الناس هناك لم تكن تعرف أنه كان وظل عاشقاً للتمثيل.. لكن الناس هنا في مصر ضاقت ذرعاً بما فعل.. لأنهم شعروا أن الرئيس يخرج عن النص.. ويقول كلاماً لم يتفقوا معه عليه.. ولذلك تركوه وحده على خشبة المسرح.. حتى كانت النهاية الدامية.
الغريب أن السادات كان يغذي عند الناس الشعور بأنه يمثل.. لكن يراعي طبيعة الشعب المصري التي تختلف كلية عن طبيعة الأمريكان.. فالشعب المصري يفعل كل ما هو ممنوع ومحرم في السر.. لكنه لا يتردد في إدانة أي ممنوع ومحرم إذا خرج إلى العلن وأصبح مكشوفاً.. فهم يكذبون لكنهم يدينون من يكذب.. يسرقون الكحل من العين ثم يدعون الشرف، مقصرون في عملهم طوال الوقت.. لكنهم أكثر من يتهم الآخرين بالتقصير.. ولذلك لم يسامحوا السادات لأنه كان يلاعبهم على المكشوف.. وظل يفعل ذلك حتى شهوره الأخيرة.
صباح السبت 23 فبراير 1980 خرجت جريدة أخبار اليوم وعلى صفحاتها الأولى ثلاث صور للرئيس السادات، الأولى وهو بملابسه الداخلية داخل الحمام يغسل وجهه على الحوض، والثانية وهو يحلق ذقنه بنفس ملابسه الداخلية والثالثة كان مسترخياً فيها على الأرض يضع رأسه لأسفل وقدميه لأعلى.. كانت فكرة الصور لإبراهيم سعده الذي كان قد تولى رئاسة تحرير أخبار اليوم منذ شهرين فقط.. سجل فاروق إبراهيم المصور الشهير حوالي عشرة ألاف صورة للسادات وهو في الحمام وهو في سريره وهو يأكل.. وهو يركب دراجة هوائية وراءه حفيده، وهو يسير واضعاً عصا بين يديه ومرتدياً قبعة وهو يصلي وهو يقرأ القرآن وهو يطالع الصحف، فعل فاروق إبراهيم ذلك بعد أن شجعه السادات بقوله: (لقد وافقت على أن أسجل حياتي بعدستك إيماناً مني بضرورة تشجيع المواهب المصرية الشابة) ويبدو أن هذه الصور لم تلق ارتياح البعض ولذلك عقب عليها سعدة في العدد التالي مباشرة بأنه(من حق الناس في مصر أن تعرف كيف يعيش الرئيس السادات، فهو أبو العائلة الكبيرة ومن حق الأبناء أن يعرفوا ماذا يفعل كبيرهم.. وكيف يقضي يومه وكيف يعيش داخل منزله).
لن أتحدث عن أزمة الصور.. ولن أطرح سؤالاً حول صحة ما حدث وهل كان السادات موفقاً فيما فعله.. أم كان مخطئاً، لأن السؤال فات أوانه.. لكن ما يهمني هو تأكيد أن الرئيس كان مصراً حتى النهاية على أن يظهر الممثل القابع تحت جلده.. من أن لآخر كان يمنحه الفرصة ليظهر.. يعيش حياته كما يريد.. دون أن يعترض الرئيس أو يستحي أو تهتز منه شعرة.. ولذلك لم يكن من الصعب أن يتصور البعض أن الرئيس السادات ظل ممثلاً حتى لحظة اغتياله.. فقد تلقى رصاصات القتلة وكأنه يؤدي مشهداً سينمائياً ترصده الكاميرات.. ولعل ما جعل هذا راسخاً في الأذهان ما قدمه أحمد زكي في فيلم (أيام السادات) فقد اهتم بأن يعرض لملامح الرئيس وانفعالاته وهو يقتل.. للدرجة التي جعلت البعض يعتقد أن الذي يقتل في الفيلم ليس أحمد زكي ولكنه السادات نفسه... ولم يكن ذلك لأن أحمد زكي ممثل عبقري فقط.. ولكن لأن السادات كان ممثلاً عبقرياً كذلك.
إن الصور التي نشرتها أخبار اليوم أخرجت السادات من خانة السياسي إلى خانة النجم، فالرئيس يترك نفسه على طبيعتها.. تلتقط له الكاميرات الصور على حاله.. لكن أن يستعد لها: ينام ويقوم.. يتحرك ويسكن.. يصلي ويقرأ.. يسبح ويركب الدراجة ... كل ذلك وهو يعلم أن الكاميرات ترصده.. فإنه بذلك يفسح المكان للنجم الذي ينافسه في الشهرة كي يأخذ راحته.. وقد أخذ السادات الفنان راحته بالفعل.. لكنه مع الأسف الشديد لم يصدقه الناس.. لسبب واحد أنهم أدرجوا أنه يمثل عليهم.. ولو كان أخفى بعض مشاعره وأتقن الدور أكثر من ذلك ربما صدقه الناس.. أقول ربما!
* * *
هل كان عبد الناصر ممثلاً؟
تصر د. هدى عبد الناصر أن أباها يعاني من ظل كبير.. فكل من كانوا معه تكلموا.. كتبوا مذكراتهم.. دونوا شهادتهم.. وهو وحده الذي لم يتحدث.. لم يرد على من نسبوا إليه أشياء لم يفعلها وأقوالاً لم يتفوه بها.. وهو كلام رغم ما به من منطق.. لكنه ليس صحيحاً بالمرة.. فقد انفرد عبد الناصر بالساحة وحده ثمانية عشر عاماً كاملة.. فعل وحده.. وتحدث وحده.. وقرر وحده.. تعلق به الجميع.. داروا في فلكه.. تأثروا به.. اعتقدوا فيه.. قدموا له عقولهم على بياض ومقدماً ودون مقابل.. ولذلك فعندما مات لم يمت وحده.. فقد سار وراءه محبوه ومريدوه ودراويشه.. الذين مازالوا يستلهمون روحه في حضرته.. ولا يقبلون نقده أو الاعتراض عليه.. ولو من باب حسن النية.
لقد حسم عبد الناصر القضية لنفسه منذ البداية عندما انحاز إلى الفقراء.. وتصدى لكل من حاول أن يعبث باقدارهم ومصائرهم.. ولذلك وضعوه في قلوبهم.. وعندما قرأت كتاب(آرثر ميللر) عن الرئيس عندما يصبح ممثلاً.. لم يتبادر عبد الناصر إلى ذهني مطلقاً... فعلها السادات الذي جلس وتربع على قمة الأداء التمثيلي.. فنجح وهو يؤدي دور الرئيس.. لكن بعد صفحات قليلة.. وجدتني متورطاً في استدعاء عبد الناصر بشحمه ولحمه.. أحضرت ألبوم صوره.. وضعتها إلى جوار بعضها البعض.. تأملت تعبيراته.. استجابته للكاميرا فأيقنت أنني أمام ممثل عبقري.
لكن ما الذي جاء بعبد الناصر إلى كتاب(ميللر).. لقد وجدته فيما كتبه الكاتب الأمريكي عن (فرانكلين روزفلت).. فهو بالنسبة له الرجل الوحيد الذي يستطيع أن يطلق عليه لقب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية بثقة، فقد كان رجلاً جيداً.. لم يكن يستطيع أن يقف على قدميه، لكنه كان حريصاً على عدم استعراض ضعفه بظهوره على كرسي متحرك، كان يبدو دائماً متفائلاً ومستبشراً رغم أن حالته المزاجية العامة لم تكن كذلك!
ويبدو أن ميللر وقع في غرام روزفلت.. ولذلك يراه نجماً حقيقياً يمتلك حضوراً طاغياً، بل يصل به الرجل الظاهرة التي تستعصي على الفهم وتحير من يتابعونها، فقد كان مثالاً للجنتلمان المحافظ، ركز في حملته الأولية لانتخابات الرئاسة على الميزانية بصرامة، وهو ما جعله يتعرف عن قرب على الحياة الأمريكية العادية.. وكان طبيعياً بعد ذلك أن تتغير رؤيته لدور الحكومة في رفع المعاناة عن المطحونين من الشعب الأمريكي.
وحتى لا يعتبر قراء ميللر كلامه دخانا في الهواء.. فإنه يدلل بما حدث له شخصياً، فقد تعرض جده لأمه لأزمة مالية كبيرة، نتيجة كساد سوق الأوراق المالية عام 1929، انتقل بعدها ليعيش في بيت ابنته، كان روزفلت وقتها رجل أعمال ينتمي للحزب الجمهوري وكان يعرقل كل الجهود التي يبذلها الرئيس الأمريكي وقتها (هيربيرتا هوفير) لإخراج أميركا من أزمتها الاقتصادية.. كان ميللر يغضب بشدة كلما رأى صورة لروزفلت في هذه الفترة.. كان يكره غطرسته وأعصابه الباردة وهو يواجه هوفير، لكن بعد أن وصل روزفلت إلى البيت الأبيض وبعد عام واحد فقط انقلبت أفكار الرجل.. أنشأ مجموعة من الوكالات لمعالجة أزمة البطالة التي طحنت عظام الشعب الأمريكي وتحسين وضع الطبقة الوسطى والقضاء على الجوع الذي كان منتشراً في كل أرجاء أمريكا، تحولت الكراهية فجأة إلى محبة.. تفككت رؤية ميللر لروزفلت.. أقبل عليه بفضل سياسته الواقعية وتفكيره الدائم في واقع المواطن الأمريكي.. لم يعجب به بسبب صوره ولا طريقة نطقه للكلمات ولكن لأنه كان صاحب فضل مباشر على ميللر وعلى عائلته.. التي وصلت إلى مرحلة جيدة بعد أن وصل بهم الحال للدرجة التي كان من الممكن معها أن يطردوا من منازلهم.
ما حدث لعائلة ميللر حدث لعائلات أخرى كثيرة.. كانت تسكن في منازل مكونة من ست غرف يعجز اصحابها عن النوم من احتمال الطرد والتشرد، فجاء حل روزفلت العبقري وكأنه جاء من السماء، أنشأ شركة لإقراض أصحاب المنازل، كان القرض العقاري يسدد على عشرين أو أربعين عاما في الوقت الذي لا تتجاوز فيه الدفعة الشهرية مبلغ المائة دولار.
فضل روزفلت على ميللر استمر طويلاً، فعندما دخل الجامعة كان يتلقى 15 دولاراً من إدارة الشباب الوطنية، ولولا هذا المبلغ ما كان له أن يستمر في التعليم، وبعد أن تخرج انضم إلى المسرح الفيدرالي في آخر ستة أشهر من عمره وكان يتقاضى خلالها 20 دولاراً و 17 سنتا وكتب خلالها رواية وبعض المسرحيات الإذاعية التجارية التي مكنته من الاستمرار في الحياة لمدة ست أو سبع سنوات حتى كتب مسرحية(كل أبنائي).
شيء مما فعله روزفلت مع أبناء شعبه المطحونين فعله عبد الناصر بأبناء شعبه المسحوقين الذين كانوا عبيداً في أرضهم.. أعاد الحقوق لأصحابها.. نصر الفقراء وناصرهم وأعانهم على من ظلموهم قروناً عديدة، استقوى به الضعفاء وما زلت أذكر ما سمعته من شيوخ قريتي عن عبد الناصر، أحدهم صادف مشكلة صغيرة في الجمعية التعاونية فهدد رئيسها أن يرسل خطاباً لعبد الناصر، وبالفعل كتب له برقية يطلب منه أن يعيد له حقه.. وبالفعل اهتم عبد الناصر ووصلت رسالة تؤكد هذا الاهتمام وتعيد للفلاح الضعيف ـ الذي لا يملك من الدنيا شيئاً ـ حقه.
لقد بذل عبد الناصر نفسه لأبناء الشعب الحقيقيين.. وضعهم في قلبه.. لم يتعامل معهم كرئيس يأمر فيطاع.. أو يجمع أطراف الدنيا ليضعها في جيبه وليذهب الآخرون إلى الجحيم.. كانت تؤرقه أوجاع البسطاء فينتفض لها ويتصدى لحلها. وحتى لو وصلته هذه الهموم عن طريق النكتة ففي إحدى حفلات أضواء المدينة ألقى الممثل أحمد غانم نكتة قال فيها إن مواطناً ذهب ليشتر أرزاً من الاسكندرية ركب القطار وفي محطة طنطا قال له محصل القطار أنت رايح تشتري رز من إسكندرية فقال له المواطن نعم، فرد عليه المحصل.. طيب إنزل هنا.. لأن طابور اللي بيشروا الأرز من الإسكندرية آخره في طنطا.. سأل عبد الناصر عن معنى النكتة وعلى ما يبدو أنه لم يكن متذوقاً جيداً لها فقالوا له إن هناك أزمة طاحنة في الأرز فأصدر تعليماته لحل الأزمة بأي طريقة.
إنني أؤمن أن عبد الناصر قام بدوره في ضوء اجتهاده الخاص.. أصاب في أشياء كثيرة.. وأخطأ في أشياء كثيرة.. وهكذا هي الحياة، صحيح أن من بين أخطاءه ما قصم ظهر المصريين وأحالهم إلى كائنات هشة ضعيفة غير قادرة على المقاومة.. لكنها تجربته التي صاغتها الظروف الدولية والمتغيرات العالمية التي هي في النهاية أقوى من أي زعامة حتى ولو كانت مستمدة من حب الشعب واستعداده للفداء والتضحية من أجل زعيمه.
الفارق ربما يكون الوحيد بيني وبين من ينتسبون إلى عبد الناصر أنني غير مفتون به، لأنني في الأساس لا أفتن بالزعامات والقيادات الكاريزمية.. لا تهزني الأشياء الضخمة... زرت الهرم مرة واحدة ولم أنبهر بضخامته.. لا يؤثر في اتساع البحر ولا أخشاه رغم علمي بقدرته على القتل والإفناء.. تستفزني المباني العالية وأعتبر أنه لا ضرورة لها على الإطلاق.. وقد يكون ذلك لأني أنتج أسلوباً في الحياة يقوم على أنه لم يعد في هذا العالم مكان للأفكار الكبيرة ولا للزعامات الكبيرة... فكل شيء جائز!
قبل سنوات وعندما كنت في الثانوية العامة كان المقياس هو الدرجة النهائية 100% وكان الذي يحصل على 90% يعتبر معجزة عصره، كان الناس في المحافظات المختلفة ينظرون لمن يحصل على أكثر من 95% مثلاً على أنه عبقرية فريدة نادراً ما تتكرر.. لكن الآن أصبح الناس يستوعبون أن يحصل الطالب على أكثر من 100%.. وهناك بالفعل من يحصل على 102%و 104%، لم يعد هناك سقف لشيء إذن.. والمشكلة التي يعاني منها جيلي أن هناك من يصر على أن هناك ألف سقف لابد من الالتزام به. ولذلك قامت قيامة البعض عندما حاولت انتقاد جمال عبد الناصر.. وشعرت وقتها أنني أقترب من قدس أقداس أو بأنني أتحدث عن ذات إلهية مصانة لا يجب الاقتراب منها.. وهو ما رفضته وما زلت أرفضه حتى الآن.. فعبد الناصر عندي قائد وزعيم أدى دوره في لحظة تاريخية معينة.. أخطأ وأصاب.. وليس معقولاً أن نتغاضى عن أخطائه التي كان منها ما هو قاتل لمجرد أنه جرت على يديه إنجازات تصل في بعضها إلى درجة المعجزات.
ولذلك فقد يستنكر البعض ان ننظر إلى عبد الناصر من زاوية أنه كان ممثلاً عبقرياً ومؤدياً ممتازاً، وقد يفعلون ذلك لأنهم يمكن أن يعتبروا ذلك إساءة وسوء أدب في التعامل مع رمز واسطورة اسمها جمال عبد الناصر.. لن أتعرض لمن يمكن أن يقوله المستنكرون والغاضبون.. ولكني فقط سأقف طويلاً أمام عبد الناصر ليس الزعيم هنا ولكن الممثل.
لم يكن التمثيل غريباً على عبد الناصر وفي سنوات عمره الأولى ما يؤكد ذلك، ففي منزل متواضع بشارع الدكتور قنواتي في حي باكوس بالاسكندرية يحمل رقم 18 ولد عبد الناصر في 15 يناير عام 1981.. دخل روضة الأطفال في حي محرم بك وبعد سنوات انتقلت الأسرة إلى أسيوط.. حيث ينتمي أبوه، وفي الفترة من 1923 إلى 1930 انتقل الأب للعمل هناك.. وفي الخطاطبة وفي مدرسة السكة الحديد أكمل عبد الناصر تعليمه بين 60 تلميذا كان يدرس نصفهم صباحاً والنصف الآخر مساء.. بعد عام واحد أي في 1924 أرسله والده إلى القاهرة بعد وفاة والدته ليعيش مع عمه السيد خليل حسين الذي ألحقه بمدرسة النحاسين الابتدائية، وكانت المدرسة تقع في قلب القاهرة الإسلامية بالقرب من مقابر سلاطين المماليك وتجاور حي الحسين وخان الخليلي..
ترك عبد الناصر مدرسة النحاسين الابتدائية بعد السنة الثالثة وأرسله والده إلى جده لوالدته السيد محمد حماد، الذي أدخله مدرسة العطارين التي نال منها الشهادة الابتدائية ثم عاد إلى عمه حسين ليلتحق بمدرسة رأس التين الثانوية.. وفي المرحلة الثانوية بدأت اهتمامات عبد الناصر السياسية وتفجرت قدراته التمثيلية.. فقد كان يحب المسرح، بل أصبح في هذه المدرسة عضوا في فريق التمثيل بمدرسة النهضة الثانوية الذي انتقل إليها عام 1923 ومن بين ما يذكر أن عبد الناصر شارك في مسرحية يوليوس قيصر التي قدمت على مسرح(برنتانيا) في 19 يناير عام 1931.. ومن مفارقات القدر ان عبد الناصر ادى في هذه المسرحية دور يوليوس قيصر. ويبدو أن دور يوليوس قيصر استهواه كثيراً.. فلم يتنازل عنه مطلقاً في حياته.. فقد أحب الزعامة وقدم لها كل ما أرادته منه.. ضحى براحته ورفاهيته من أجلها.. لم يكن يسرف في الطعام ولا السهر.. لم تكن له علاقات بالنساء يمكن أن تحسب عليه، لم يتورط في صفقات يمكن أن تكون مأخذا عليه بعد ذلك.. فقد أدرك منذ البداية أن الزعامة لها ثمن لا بد أن يدفعه.. وقد دفعه راضياً.. وقد جنى عبد الناصر ثمار ما دفعه وما قدمه، فحتى الآن ما زال يطل برأسه رمزاً للكرامة.. ويكفي أن تتأمل عينيه الثاقبتين وهو يخترق بهما جموع المظاهرات التي تحمل صورة وتتحدى به السيطرة الأمريكية والهيمنة الصهيونية على العالم العربي.
لم ينتظر عبد الناصر أن يتخرج ليمارس دوره السياسي.. فمنذ كان في المدرسة الثانوية بدأ هذا الدور، وفي ملفاته الخاصة هذا المشهد الدقيق: في صباح 12 نوفمبر عام 1935 اجتمع تلاميذ النهضة الثانوية في فناء مدرستهم وأخذوا يهتفون تحيا مصر، ثم حملوا علم المدرسة وخرجوا يتقدمهم جمال عبد الناصر ومضوا إلى مدرسة فؤاد الأول الثانوية فانضم اليهم تلاميذها وساروا في مظاهرة ومروا بفندق شبرد وكان يجلس في شرفته بعض الانجليز، فوجد عبد الناصر نفسه يهتف (تسقط انجلترا) ثم تقدمت المظاهرة في اتجاه الجامعة لتنضم إلى الطلبة القادمين من الجيزة كان طلبة جامعة فؤاد الأول..(القاهرة الآن).. وطلبة كلية الهندسة قد اجتمعوا في حديقة الاورمان المواجهة للجامعة قادمين عن طريق كوبري الروضة لأنهم علموا أن البوليس أغلق كوبري بولاق، كان كوبري الروضة به قسم متحرك يفتح في ساعات معينة من النهار لمرور المراكب الشراعية، فتحت الشرطة الكوبري وفصلت بين الطلبة والتلاميذ بثلاثين مترا من الماء، نزل جمال إلى الشاطئ واستأجر قاربا صغيراً وانضم إلى طلبة الهندسة في جزيرة الروضة.
مارس عبد الناصر التمثيل كهواية قبل ان يحترف العمل السياسي.. لكنه عندما أصبح على رأس السلطة احترف التمثيل ايضا، فهناك الكثير من النقاط المشتركة التي تجمع بين السياسي والممثل، فكل منهما تقتله الرغبة في الشهرة.. وإن كان يفرق بينهما في حين أنه لا يهتم الممثل بأن يحظى باحترام جمهوره بنفس القدر الذي يحظى فيه بإعجابه.. فإن السياسي يحرص على أن يجمع الاحترام والإعجاب وربما الافتتان.. ولذلك لم يكن غريباً أن يستخدم عبد الناصر كل ما اتيح له من علاقات.. فقد أوحى إلى مصطفى أمين في أشهر الثورة الاولى أن يكتب مقالاً عن الضباط التسعة الذين قاموا بالثورة وفعلها مصطفى.. لم يكتب فقط ولكنه نشر صورة عبد الناصر في الصفحة الاولى وحده.. وفي الصفحة الثالثة حيث نشر الموضوع أعاد نشر صورة عبد الناصر بحجم كبير والصور الأخرى بحجم أصغر.. وكان هذا كافياً ليعرف الناس أن عبد الناصر هو البطل الحقيقي في الثورة التي يقف على رأسها اللواء محمد نجيب.
أنكر عبد الناصر أنه كان وراء النشر عندما غضب الضباط الآخرون وأقنعهم أن مصطفى أمين تصرف من تلقاء نفسه.. وصدقه الضباط.. لكنهم كانوا يعرفون أنه كان وراء التعليمات التي صدرت للصحف والإذاعة بأن تخفف من نشر صور محمد نجيب وإذاعة كلماته في الإذاعة.. لقد كان عبد الناصر واعياً لما يفعله.. فقد حركت شهوة الزعامة ليرسم الطريق كاملاً.. يعتني بكل تفاصيله، فالشهرة التي يحصدها محمد نجيب لابد أن تؤثر على وجوده وشعبيته ولذلك لابد أن يتدخل لإيقاف سيلها بكل الطرق.. ولأنه كان ذكياً بدرجة كبيرة فلم يظهر في الصور مطلقاً.. ترك الأمور تسير في نصابها حتى سقطت الثمرة في حجره وحده.. فجناها كاملة.
إن عبد الناصر كان يحمل شخصية تحب الفن والفنانين.. لم يكن يحب التليفزيون كثيراً رغم أن ظهور التليفزيون ودخوله مصر كان عاملاً حاسماً في تكوين كاريزمية عبد الناصر وأسطورته، فبعد أن كان الناس يسمعون صوته القوى فقط أصبحوا يسمعون صوته ويرون صورته ببنيانه الضخم المقتحم الذي ملأ على الناس أبصارهم وكيانهم فعظموه وأحبوه ورغم ذلك فإنه كان يحب السينما وكان قاعة العرض في بيته هي مكانه المفضل في ساعات الراحة.. كان مغرماً بمشاهدة الأفلام الأجنبية وخاصة الأفلام الحربية ولا أستبعد أن الصورة التي التقطت لعبد الناصر على مدار تاريخه كان يتم التقاطها بعناية شديدة.. وقد ظهر في كثير منها وكأنه نجم سينمائي يعرف لغة الكاميرا جيداً وكيف يستعد لها.. والى جانب السينما كان عبد الناصر يحب الأغاني.. ومن بين برنامجه اليومي أنه كان يستيقظ مبكراً وفي طريقه إلى الحمام كان يدندن بأغنيات أم كلثوم التي كان أسيراً لها.. كانت أغنيات أم كلثوم جميعها مفضلة لديه.. ثم تأتي بعدها أغنيات عبد الوهاب.
ومن المفارقات العجيبة ان حنجرة أم كلثوم التقت بألحان عبد الوهاب لأول مرة في أغنية (أنت عمري) وهو التعاون الذي أطلق عليه الناقد جليل البنداري لقاء السحاب، وقد استمع عبد الناصر إلى هذه الأغنية من راديو سيارته وهو متوجه لاستراحة برج العرب.. يحكي خالد عبد الناصر كنا في العادة نتبادل الحديث أثناء الطريق.. لزمنا الصمت، فالرئيس يستمع لثومة على أنغام عبد الوهاب، هذه من المرات النادرة التي سمحت لنا الظروف أن نستمع مع والدي لصوت أم كلثوم، أبي كان يحفظ اللحن من أول مرة والكلمات بمجرد أن تجري على حنجرة ثومة، وفي الخميس الأول من كل شهر كان يستمع بمفرده لحفلة ثومة المذاعة على الهواء مباشرة في الغالب أثناء قراءة التقارير الرسمية والصحف وعندما لا تمكنه الظروف من سماع حفلة خميس ثومة، يطلب الشرائط من الإذاعة.
وهناك كذلك قصة إسماعيل يس مع أسرة عبد الناصر، لقد قدم إسماعيل سلسلة أفلامه في أسلحة الجيش المختلفة بتعليمات من عبد الناصر، فقد شعر بحاسته الفنية قدر نجومية إسماعيل يس وأن الناس ستحب الجيش والتطوع فيه عندما مر إسماعيل يس بمتاعب صحية لم يطلب أن يتدخل الرئيس لعلاجه.. ولما سأل خالد يس: لماذا لم يطلب والده أن يتدخل الرئيس.. قال له يس: إسماعيل يس ما يعملهاش.
ورغم حب عبد الناصر للأفلام الأجنبية فإنه كان يشاهد الأفلام المصرية ليس في العروض الخاصة فقط، ولكن في السينما أيضاً، تم هذا في البداية، فقد أصطحب ابناءه مرتين للسينما مرة شاهد معهم فيلماً لأنور وجدي وفي المرة الثانية كان يعرض فيلم(لا أنام) بطولة فاتن حمامة ويحيى شاهين، وقال له ابناؤه (عايزين نشوف معاك فيلم فاتن حمامة يا بابا) دخلوا العرض في حفلة السادسة بهدوء دون أن يلتفت انتباه أحد، وبعد (لا أنام) لم يعد عبد الناصر يشاهد أفلاما سينمائية في دور العرض العامة!
والآن نأتي إلى الممثل.. الذي كان يسكن تحت جلد جمال عبد الناصر.. لقد ظهر هذا الممثل في عدة مشاهد أداها عبد الناصر ببراعة.. ولو جاءوا له بأعظم مخرج في التاريخ ما كان ليخرجها بالصورة التي أخرجها ناصر..
المشهد الأول كان في ميدان المنشية عندما أطلق عليه الرصاص.. كان رد فعل سريعاً وموفقاً.. لم يهتز.. حول الموقف كله لصالحه.. كان لابد للممثل أن يظهر الشجاعة المطلوبة في هذا الموقف... ولم يظهر عبد الناصر شجاعة نادرة فحسب ولكنه ركب المشهد كله.. عندما قال: ليظل كل منكم في مكانه.. فإذا مات جمال عبد الناصر فكلكم جمال عبد الناصر.. لقد أضاف هذا المشهد كثيراً لجمال وأكد أنه لا يرضى الهزيمة أو الاستسلام ببساطة.. وهذه كانت عادته.. ففي شبابه كان يلعب الشطرنج مع أصدقائه.. كان يخسر دائماً ولا دور واحد فاز فيه، ذهب لدار الكتب قرأ كل كتب الشطرنج ودرس فنونه وأساليبه ولم يفز عليه بعدها أحد.
المشهد الثاني كان مسرحه الجامع الأزهر أثناء عدوان 1956.. صعد جمال عبد الناصر منبر الجامع الأزهر وبصوته القوي أعلن أن الشعب المصري سيقاتل حتى النهاية.. وإذا كان أحمد زكي قد أدى المشهد في فيلمه ناصر 56 الذي كتبه محفوظة عبد الرحمن وأخرجه محمد فاضل، فإن يوسف شاهين لابد وأنه استوحى منه مشهداً رائعاً في فيلمه المصير.. عندما صعد محمود حميدة منبر مسجد وكان يقوم بدور المنصور حاكم الأندلس.. ليخطب بالناس بصوت قوي ويزف إليهم البشرى بأنه ليعلم الجميع ممن حضر مجلسنا أن الجنة آتية لا ريب فيها.. كانت قدرة عبد الناصر التمثيلية فائقة للدرجة التي جعلته لا يؤثر على جمهور الحاضرين فقط.. ولكنه أصبح موحياً للآخرين كما يستلهمون منه ما يقدمونه على شاشة السينما.
المشهد الثالث كان أثناء خطابه بعد النكسة الذي أعلن فيه تنحيه وأنه يتحمل المسؤولية كاملة.. كان عبد الناصر قادراً على توصيل كل المعاني التي يريدها.. لقد جرب مع الناس أن يكون قوياً وجباراً فاستجابوا له.. فليجرب معهم أن يكون منكسراً ضعيفاً محطماً.. فعلها ونجحت.. في لحظات استجاب المصريون لنبرة الحزن والانكسار في صوت قائدهم الكبير فطالبوه بألا يتنحى وألا يبتعد عنهم.. كانت لحظة عاطفية عاتية اجتاحت في طريقها كل حسابات العقل والمنطق.. فرغم أنه قائد مهزوم لكن لا مانع من أن يبقى.. أما ما حدث وجرى على يديه.. فالله وحده هو الذي يتصرف فيه.. وهو منطق كان المصريون ولا يزالون يعيشون به وعليه.
لقد حجبت عبادة المصريين لعبد الناصر تأملهم في جانب الممثل فيه.. وقد حاول نفسه أن يخفي هذا الجانب لأنه يعرف أن المصريين انطباعيين.. إننا نرى السادات ممثلاً طوال الوقت لأنه حكى لنا حبه للتمثيل وعشقه له واستعداده في فترة من الفترات لأن يصبح ممثلاً.. لكن عبد الناصر وحتى معلومة أنه اشترك في فريق التمثيل بمدرسته الثانوية تجدها مهملة للغاية.. لم يلتفت إليها أحد لأننا لسنا على استعداد أن نصدق أن عبد الناصر ولو في لحظات معينة كان يمثل ويتقن الدور رغم أن ذلك لا يعيبه ولا يسيء إليه.
فارق أخر يفصل بين جمال عبد الناصر والسادات فعبد الناصر كان نجماً.. أم السادات فكان ممثلاً.
النجم يمثل دوراً واحداً.. يقدمه في كل أفلامه بتنويعات معينة.. لكنه في كل مرة يؤدي نفس الحركات ولكن الممثل يؤدي في كل فيلم دوراً جديداً.. يتقمصه حتى النهاية.. لدرجة أنك تشعر فيها أنك أمام الشخصية وليس الممثل.. الحالة الأولى يمثلها عادل إمام فأدواره كلها تنويع على حالة واحدة.. والحالة الثانية يمثلها أحمد زكي فهو في كل فيلم شخصية مختلفة تماماً.. وهو ما حدث مع عبد الناصر والسادات.. عبد الناصر نجم.. قدم لنا دور الزعيم في كل أيام حياته لكن السادات كان ممثلاً يقدم لنا كل يوم دور مختلفاً ورغم أنه كان رئيساً يحكم دولة فإنه كان يؤدي أدواراً متناقضة ومتضاربة.. ما زلنا نعاني من آثارها حتى اليوم.
4
أمراض الرؤساء
لم يصدق أحد أن جمال عبد الناصر مات إلا بعد أن رأى الجميع جنازته المهيبة، وأعتقد البعض أن الرصاصات التي أخترقت جسد السادات لن تنال منه ومؤكد أنه سينجو، وعندما لمت وعكة صحية بالرئيس مبارك استغرق علاجها أكثر من 45 دقيقة أخذ الذهول الناس وكادوا يكذبون عيونهم.. حدث ذلك كله لأنه الناس لا يتصورون أن الرئيس يمكن أن يمرض.. فالحاكم أي حاكم يفرض على حالته الصحية أسواراً من العزلة يمنع بها تسريب أي أخبار عنها.. بل إن الأطباء الذي يعالجون الرؤساء يفرض عليهم الا يتحدثوا حتى مع أقرب الناس إليهم عما يعرفونه، فصحة الرئيس قدس أقداس ليس من السهل اقتحامه او الاقتراب منه!
ولذلك فإن أية أزمة صحية تلم بأي حاكم هي نزلة برد، وأي مرض يهاجمه ما هو إلا إرهاق عابر من كثرة العمل، وإذا حدث وسافر أي حاكم للاستشفاء في أحد مستشفيات أوربا وأمريكا فهو في رحلة عمل رسمية، هذا إذا تم الإعلان عنها من الأساس، فلا الناس تصدق أن الرئيس يمكن أن يمرض.. ولا الرئيس نفسه يحب أن تصبح حالته الصحية مكشوفة يردد الناس تفاصيلها في جلساتهم الخاصة أو العامة.
إن من الطبيعي أن يمرض الرئيس أي رئيس وليس ذلك لأنه في النهاية بشر مثلنا جميعاً ولكن لأنه يتعرض لضغوط نفسية وعصبية رهيبة.. وهذه الضغوط تقف وراء كل الأمراض التي تصيب الرؤساء ليس في مصر وحدها ولكن في دول العالم.. فلا يسلم الرؤساء من أمراض الشرايين التاجية وأمراض القلب والذبحة الصدرية والجلطات وكلها أمراض أمراض ترتبط بقوة بالحالة المزاجية لصاحبها.. فالتوتر الذي يعيش فيه الرؤساء والقلق الذي يحيط بهم وتداخل مواعيدهم وكثرة عملهم وقلة ما يحصلون عليه من راحة.. يؤدي بهم كل ذلك إلى حدوث ضيق وتصلب في الشرايين.. بما يؤدي إلى تعطيل الشبكة الثانوية لشرايين القلب عن القيام بدورها في تغذية عضلة القلب.. ويعطي هذا فرصة كبيرة لحدوث أزمات قلبية وذبحات صدرية متكررة.
توتر السلطة يقف كذلك وراء الإصابة بقرحة المعدة والاثنا عشر بالإضافة إلى اضطرابات القولون... فالتوتر يزيد من نشاط الأعصاب الخاصة بإفرازات المعدة فيضف الغشاء الواقي لجدارها فتحدث القرحة، وليس بعيدا عن ذلك أن يصاب الرؤساء بآلام في الأمعاء وعدم انتظام في الهضم.. وذلك بسبب عدم انتظام تناول الوجبات، فلديهم دائماً مأدبات طعام تقام لتكريمهم أو يقيمونها لضيوفهم.
السرطان من أهم الأمراض التي تصيب الرؤساء.. وهو مرض ينتج في النهاية بسبب خلل في جهاز المناعة.. ولما كان جهاز المناعة لدى الرؤساء يتأثر بحالتهم النفسية والعصبية التي تخضع لتوترهم وقلقهم.. فإنهم يصبحون معرضون بشدة للإصابة بالسرطان، ولا يسلم الرؤساء كذلك من مرض السكر، فهو الآخر يرتبط بالقلق والتوتر.. كما أنه ينتج من التعرض لصدمات عصبية شديدة.. وفي رأى بعض الأطباء أن الرئيس جمال عبد الناصر أصيب بالسكر بعد صدمة هزيمة 1967، وحدث له ذلك وكان وقتها لم يتجاوز الخمسين عاماً من عمره!
كل هذه أمراض يمكن التعامل معها وتفهمها.. لكن هناك أمراضاً تؤثر على قوى الرئيس العقلية.. وهذه لا يتم التسامح فيها. فالدستور في كثير من الدول ينص على ضرورة عزل الحاكم إذا ثبت بالفعل عجزه عن إدارة مقاليد الحكم في بلاده، وقد تم ذلك بالفعل.. ففي تونس تم تنحيه الحبيب بورقيبة بسبب حالته الصحية وتولى الحكم زين العابدين بن علي، وفي الأردن تمت تنحية الملك طلال بسبب إصابته بمرض عقلي في مايو 1953 وتم تعيين ابنه الأمير حسين ملكاً للأردن وكان عمره وقتها 18 عاماً فقط.
هناك عامل آخر قد لا يلتفت له الكثيرون.. وهو أن الحكام والرؤساء في العالم العربي يصلون إلى الحكم في المرحلة الأخيرة من حياتهم.. فمتوسط أعمارهم يكون بين 50و 60سنة.. وتمتد بهم السنوات في الحكم حتى يصلون إلى ما فوق الثمانين عاماً.. أي أن بعضهم يقضي في السلطة أكثر من ثلاثين عاماً.. فالملك حسين قضى في حكم الأردن 44 عاماً، والعقيد القذافي يمارس سلطاته في ليبيا منذ عام 1969 وحتى الآن أي منذ 34 عاماً، وفي فترة كفيلة بأن تورث للحاكم كل أمراض الدنيا.
الملك حسين مثلا تدهورت صحته في الثلاث سنوات الأخيرة من حياته.. فقد أصيب بسرطان الغدد الليمفاوية وبدأ يحصل على العلاج الكيمياوي بجرعات منتظمة، هذا غير العلاج بالإشعاع وهو ما تسبب في سقوط شعر رأسه وذقنه وشاربه، لم يكن الملك حسين يخفي أخبار مرضه، بل إنه وبنفسه أعلن تفاصيله عام 1992.. لكنه عندما أجرى عملية استئصال إحدى كليتيه التي أصيب بورم سرطاني تكتم ذلك.. فقد كانت ظروف الأردن الداخلية لا تسمح بالحديث المفصل عن أمراض الملك.. ولذلك وقبل الوفاة بأيام في فبراير 1999 عاد إلى الأردن متحاملاً على نفسه لينصب ابنه الأمير عبد الله كولي للعهد بدلاً من شقيقه الأمير الحسن.
اما عن القذافي فقد أدعى معارضوه أن هناك تقريراً موقعاً من عدد من الأطباء العرب يؤكد إصابته بمرض (الازما الوراثي العائلي) ومن أهم أعراضه الإصابة بنوبات حادة من ضيق التنفس مع ظهور أصوات ضيق كل مع شهيق.. وهو يتطلب العلاج بالإفيوفلين وهرمون الكريتزون.. وأسباب هذا المرض وراثية ولا علاقة لها بأي نوع من الحساسية، لم يترك القذافي الادعاء يمر عليه دون تعليق حيث أكد أنه لا يعاني من اي شيء غير عادي، لكن ما لم يستطيع القذافي أن يخفيه وهو ما أصيب به عام 1994. فقد تساقط شعر رأسه بشكل يثير القلق وهو ما اضطره إلى تغطية رأسه بالعباءة الليبية المعروفة.. ولم يجد القذافي أمامه سوى أن يخضع لأول عملية زرع شعر في صيف 1994.. وقام بها جراح برازيلي اسمه منير خوري.. وفي عام 1996 تعاون منير مع القذافي في قيادة حملة على مصانع الشامبو العالمية التي تستخدم بيض الدجاج وتحرمه على الفقراء المحتاجين وذلك لإنتاج شامبو ومساحيق تضر بالشعر ونموه الطبيعي.
في عام 1998 تعرض القذافي لمحاولة اغتيال في بنغازي قبل سفره إلى القاهرة وفي هذا الحادث أصيب قدمه ولزم الفراش لمدة طويلة داخل المستشفى، ووقتها قام الرئيس مبارك بزيارة سريعة إلى ليبيا للإطمئنان على صحة القذافي.
ليس معنى ذلك أن التقدم في العمر شرط لإصابة الرؤساء والحكام بالأمراض، فتوني بلير رئيس وزراء بريطانيا والذي يبلغ من العمر خمسين عاماً تحاصره الأمراض، وهذا ما كشفه متحدث باسمه.. حيث يعاني من الآم حادة في معدته.. وقد هاجمته هذه الآلام بعد أن تماثل للشفاء من اضطرابات في القلب.. وقد أجريت لبلير فحوصات عديدة للإطمئنان على صحته، ورغم أن بلير يمارس الحكم بطريقة تختلف عن الحكام العرب. فإنه تورطه في فضيحة العراق حاصره بضغوط عديدة أدخلته قائمة المرضى.
القائمة لا تزال طويلة ففي سوريا تعرض حافظ الأسد لعدة وعكات صحية.. لم يتم الإعلان عنها كالمعتاد.. وفي كل مرة كانت تكتفي الرئاسة السورية بأن الرئيس مصاب بالإرهاق.. كانت بعض وعكات حافظ الأسد تبعده عدة أيام عن وسائل الإعلام.. حدث هذا عام 1999. وكانت هناك فرصة لانتشار الشائعات حول حالته الصحية.. ووجدها التليفزيون الإسرائيلي فرصة ليذيع تقرير عن صحة الأسد ختمه بتأكيد دخول الرئيس السوري المستشفى للعلاج من أزمة قلبية حادة.
لم تستسلم وسائل الإعلام السوري لتقرير التليفزيون الإسرائيلي.. وبعيدا عن المعلومات نشرت الصحف السورية صورة لحافظ الأسد وهو يبتسم للأمير عبد الله ولي عهد السعودية، وقام حافظ بنفسه ولتكذيب الشائعات باستقبال الأمير عبد الله في المطار رغم أن البروتوكول السوري لا ينص على ذلك.. لكن صحة الرئيس السوري كانت أهم من البروتوكول وما ينصه عليه.
صورة الرئيس السوري فضحت المرض أكثر مما سترته.. فقد ظهر فيها حافظ الأسد شاحباً للغاية. ولذلك سارع جهاز الرئاسة السوري بإذاعة بيان يؤكد أن صحة الرئيس جيدة ولا أساس لما أذاعه التليفزيون الإسرائيلي.. وصرح وقتها محمد سلمان وزير الإعلان السوري أن كل الأنباء التي ترددت عن تدهور صحة الرئيس الأسد مجرد شائعات عارية من الصحة جملة وتفصيلاً.
كان التليفزيون الإسرائيلي قد أسند معلوماته عن صحة الرئيس الأسد إلى مصادر مصرية، وهو ما جعل عمروا موسى وزير الخارجية وقتها يصدر بياناً يؤكد خلاله أن تقرير التليفزيون الإسرائيلي جزء من حملة تضليل حيث لم يصدر أي تعليق من مسؤولين مصريين ولم يجر أي اتصال مع أي منهم حول صحة الرئيس الأسد، واعتبر عمرو موسي أن التليفزيون الإسرائيلي يستغل حالة الرئيس الاسد الصحية ليوقعوا بين مصر وسوريا، ووقتها استدعي عمرو موسى الملحق الإسرائيلي في القاهرة ليبلغه رسمياً بأن هذا الأسلوب غير مقبول في التعامل.
لا تخفي حالة عرفات الصحية على أحد.. فمظهره على شاشات التليفزيون يفضح كل شيء والغريب أن سها عرفات عندما سئلت عن صحة زوجها قالت: (الحمد لله، أبو عمار صحته جيدة وللدقة أقول إنها ممتازة) وعندما سئلت للمرة الثانية عن تفسير ما لارتجاف شفتيه فقالت: (أنها رجفة حميدة تبرز كلما اصيب أبو عمار بالإعياء والتعب.. ولكن عندما تتاح له فرصة الاستراحة من السفر بضعة أيام تختفي الرجفة).. هذه التصريحات التي تبدو غير دقيقة لا تمنع أن يكون عرفات من نجوم الرؤساء المرضى، تاريخه المرضى يعود إلى حادث سقوط طائرته في صحراء ليبيا وإصابته في رأسه وتمكن الأطباء بصعوبة من إنقاذ حياته، إلا أن الحادث ترك ذكرى أليمة تمثلت في إصابته بارتعاش خفيف في يده اليسرى وكذلك شفته السفلى.
وفي السعودية ظلت الحالة الصحية للملك فهد سر الأسرار، حتى فترة قريبة للغاية عندما تم الإعلان لأول مرة عن أن الملك فهد أجرى فحوصات طبية داخل إحدى المستشفيات السعودية بسبب ألم في المرارة.. كان الإعلان مفاجأة فهي المرة الأولى التي يصدر فيها بيان عن حالة ملك سعودي الصحية.. فرغم أن الملوك السابقين كانوا أصحاب تاريخ مرضي كبير.. لكن ظل هذا التاريخ في طي الكتمان.
الملك فهد تعرض لعدة وعكات صحية لم يعلن عنه بشكل تفصيلي.. ولم تحدد الأمراض التي أصيب بها.. رغم خطورة بعضها، ففي إحدى وعكاته الصحية فوض الأمير عبد الله رسمياً لإدارة شؤون البلاد، وفي عام 1995 زار وفد طبي أمريكي ضخم الرياض لعلاج الملك فهد داخل مستشفى الملك فيصل.. ليظهر بعد ذلك أن من بين ما يعانيه الملك فهد مرض السكر وآلالام الحادة في الساقين وبعد الاضطرابات في القلب.. هذا غير حاجته إلى تخفيض وزنه لأن السمنة التي يعاني منها تقلل من فرص نجاح علاجه.
أجرى الملك فهد عملية جراحية في المرارة وأخرى في الركبة.. ولم يعلن عنهما ولولا أن الفريق الطبي الأمريكي سرب ما لديه من معلومات عن صحة فهد إلى الصحف الغربية ما كنا عرفنا شيئا عما دار في غرف مستشفيات السعودية المغلقة.. ويبدو أن هذا قدر الشعوب العربية.. فشعوب العالم كلها تعرف أدق أسرارنا وأسرار حكامنا.. ونكون نحن مثل الزوجة التي دائماً تكون آخر من يعلم!
ومن السعودية إلى قطر فالشيخ حمد بن خليفة آل ثاني يعاني من متاعب مزمنة في الكلى اضطرته إلى الذهاب إلى أمريكا لزرع كلية.. وقد أجرى عملية جراحية لذلك وتم بنجاح عام 1997.. ورغم متاعب أمير قطر الصحية فإنه يواصل عمله بدأب.. فولي عهده ونجله الشيخ جاسم بن حمد يعاني من (اللوكيميا) سرطان الدم.. ولا يكف عن التردد على مستشفيات الولايات المتحدة الأمريكية من أجل العلاج.
في الكويت لايشك أحد في حالة أمير البلاد الصحية.. لكن الجديد أن ولي عهد الكويت الشيخ سعد الصباح يعاني هو الآخر من متاعب صحية عديدة، ومنذ عدة سنوات أصيب بغيبوبة وتم نقله إلى المستشفى الأميري ومنها إلى لندن إلى مكث فيها أكثر من أربعة شهور للعلاج والنقاهة ثم عاد بعدها إلى الكويت دون أن يعرف أحد.. تفاصيل مرضه الذي أصيب به.. وكانت المعلومة الوحيدة أنه أجرى جراحة في القولون بعد أن عاد الشيخ سعد إلى الكويت حدث صراع بينه وبين أعضاء البرلمان الكويتي انتهى بإعادة تشكيل الحكومة وتهديد الشيخ بحل البرلمان.. هذا الصراع أرهق الشيخ سعد بشدة .. وكان طبيعياً بعدها أن يتم الإعلان عن سفر الشيخ سعد إلى لندن لإجراء فحوصات طبية واستكمال العلاج.
المشهد السياسي الام يؤكد أن الرؤساء العرب في النهاية بشر يمرضون ويعانون ولا يريدون أن يكشفهم أحد.. لأن ثقافتنا الشرقية تقول إن المرض الحديث عنه عيب، وقد يصح هذا مع البشر العاديين.. لكن الحكام الذين ترتبط مصائرنا بحالتهم الصحية.. فلابد أن نعرفها وبالتفصيل.. فمن حقنا أن نعرف على الأقل نعرف!
5
ليالي فاروق في المنفى
في إحدى ليالي صيف 1946.. وكان الملك فاروق يقيم في الاسكندرية، وجد نفسه في حالة ملل، فأمر الحرس الملكي أن يبتعد عنه، وقرر أن يمشي بمفرده في المدينة، بعد قليل وجد نفسه على كورنيش البحر،فأوقف عربة حنطور وطلب من العربجي أن يتمهل..وفجأة فتح الملك حواراً مع العربجي، قال له: إيه رأيك في الملك فؤاد؟ فرد العربجي: الله يرحمه كان ابن كلب، فسأله الملك بلهفة: وابنه، فقال العربجي بثقة: ألعن منه.
لم يعرف فاروق ماذا يفعل بالعربجي.. هل يضربه؟ هل يجره إلى القصر ويذيقه ألواناً من العذاب، قرر الملك أن يترك صاحب الحنطور في حاله، لكنه لحظتها أدرك أنه يجب أن يترك مصر ويرحل، لقد سمع بأذنه كراهية البسطاء له وبغضهم لأبيه فقرر الفرار، وبدأ في تأمين نفسه، أخذ يحول أمواله وسبائك الذهب إلى سويسرا.. حتى يرحل وهو مطمئن البال مرتاح النفس.
تكررت محاولات فاروق للهرب، قيل إنه فكر في الفرار بطائرة هليكوبتر يوم حريق القاهرة، وقيل إنه فكر في تجهيز اليخت(فخر البحار) بكل ما هو ثمين، وياخذ أولاده، تحت زعم أنه طالع رحلة بحرية، ثم يذهب ولا يعود، كلها كانت محاولات لم تتم، سبقه إليها الضباط الأحرار بقرارهم بطرده من مصر بعد تنازله عن العرش لابنه أحمد فؤاد، لقد قال فاروق لمحمد نجيب وهو يودعه على يخب المحروسة: أنتم سبقتموني بما فعلتموه إلى ما كنت أريد أن أفعله.
كان كلام فاروق غريباً.. وقد حيرت عبارته الغامضة رجال الثورة والمؤرخين من بعدهم، فلا أحد يعرف ربما حتى الآن، هل كان الملك مثلاً سيتنازل عن العرش، أم أنه تأخر في القبض على الضباط الأحرار، فسبقوه في لعبة القط والفأر التي لعبوها معاً!
في 26يوليو 1952 وقع الملك فاروق على وثيقة تنازله عن العرش.. كان نص الوثيقة التي صاغها د. عبد الرزاق السنهوري رئيس مجلس الدولة ونائبه سليمان حافظ كالتالي: نحن فاروق الأول ملك مصر والسودان.. لما كنا نتطلب الخير دائماً لأمتنا ونبغي سعادتها ورقيها، ولما كنا نرغب رغبة أكيدة في تجنب البلاد المصاعب التي تواجهها في هذه الظروف الدقيقة ونزولاً على إرادة الشعب، قررنا النزول عن العرش لولي عهدنا الأمير أحمد فؤاد وأصدرنا أمرنا إلى حضرة المقام علي ماهر باشا رئيس مجلس الوزراء بمقتضاه.
وقع فاروق على وثيقة التنازل دون مقاومة تذكر، كانت له بعد الشروط الشكلية فقط، فقد اشترط أن يأخذ معه ابنه الملك الرضيع الذي كان عمره 6 أشهر وعشرة أيام و 4 ساعات فقط، وأن تسافر معه زوجته وبناته، وأن يكون السفر على يخت (المحروسة) الذي بني سنة 1870 وأعيد إصلاحه في سنة 1946 وتكلف مليون دولار وأصبح اسمه فيما بعد الحرية، وطلب فاروق أن يودعه محمد نجيب شخصياً، وأن يكون وداعه رسمياً، فتؤدي له التحية الملكية، وتطلق المدفعية 21 طلقة، كانت الشروط تافهة.. ولذلك استجاب لها مجلس قيادة الثورة جميعاً، رفض المجلس فقط شرط الملك أن تصحب يخت المحروسة حراسة من المدرعات حتى المياه الإقليمية.
كان هناك شرط واحد طريف أملاه فاروق، ونفذ له دون أن يلتفت له أحد، أصر الملك على أن تكون وثيقة التنازل عن العرش مكتوبة على ورق فاخر مناسب وبصيغة تحفظ كرامته، كتبت الوثيقة على الورق المطلوب، وعندما ذهب سليمان حافظ ليحصل على توقيع الملك، قال له فاروق: ألا يمكن إضافة كلمة (وإرادتنا) بعد عبارة ونزولاً على إرادة الشعب، فرد عليه سليمان قائلاً: يا مولاي لقد وضعنا نزولكم عن العرش في صورة أمر ملكي..
فهم فاروق ما وراء كلمات سليمان حافظ وأنه لا يريد أن يجرح شعوره، فوقع في ذيل الوثيقة كالمعتاد.. ولكن التوقيع جاء مضطرباً.. فوقع فاروق توقيعاً ثانياً.. وكأنه لا يريد أن يترك القلم، فقد كان يعرف أنه عندما يترك القلم سيكون قد فقد عرشه للأبد.
انتهت أيام فاروق في مصر.. ويأتي المشهد بسن قلم أحمد بهاء الدين.. قال: مضت ساعات عصر اليوم الأخير في حياة فاروق ثقيلة وبطيئة، لم يخل فيها الملك السابق إلى جناحه الخاص إلا قليلاً، أما أكثر الوقت فقضاه سائراً على قدميه في ردهات القصر، أو واقفاً عند النافذة أو تحت هذه الصورة، ورأي الحقائب الكثيرة تحمل إلى يخت (المحروسة) فقال إيه الشنط دي كلها؟ فقيل له: إنها طعام للرحلة.. فقرر بتأفف: أنا مش عاوز عفش كثير.. خذوا لي بدلتين خفاف بس!
كان عدد الحقائب التي خرجت من قصر فاروق 22 حقيبة فقط، وهو رقم على مسؤولية أحمد بهاء الدين الذي رفض ما نشرته الصحف عن أن عدد الحقائب هو 200 بالتمام والكمال، ولكن على ما يبدو أن أرقام بهاء والصحف لم تكن صحيحة، فقد سجل أمين فهيم سكرتير فاروق في المنفى في مذكراته أن الشنط التي جاءت مع فاروق كانت 217 شنطة وأنه أحصاها بنفسه.
نعود مرة ثانية وأخيرة إلى رواية أحمد بهاء الدين يقول: وصل اللواء محمد نجيب متأخراً، فقال له علي ماهر: ده مشي خلاص، ولكن نجيب أصر على أن يودعه، وأحضر له قارباً ركبه وصعد إلى المحروسة، وكان الملك السابق واقفاً عند رأس السلم، وتصافح الغريمان، وكان الواقع الماثل أمام الملك السابق أقسى من أن يتحمله، فأثارته عصا في يد ضابط يقف إلى جوار نجيب(الضابط هو جمال سالم)، فطلب فاروق من الضباط أن ينكسها، لم يجب الضابط ولم ينكس عصاه، ومر الملك السابق بهذا الواقع الجديد وكأنه لا يلاحظه، ثم نزل نجيب عائداً على الشاطئ، تحركت المحروسة يودعها غروب الشمس وغروب فاروق الطويل.. الذي كان غروباً بلا شروق.
ظل هذا المشهد هو آخر ما نعرفه عن فاروق في مصر، وتوقف الذين كتبوا عن سقوط فاروق والملكية من ورائه عند لحظة خروجه هو وزوجته وبناته وبعض أفراد حاشيته إلى منفاه في إيطاليا واعتبروا ذلك المشهد الأخير.. لم يرصد أحد الملك المطرود في منفاه.. ماذا فعل.. كيف كان يعيش أيامه ويقضي لياليه.. لم يهتم أحد بمتاعب فاروق وفضائحه.. هل كان يخطط للعودة مرة أخرى إلى مصر.. أم هده العجز وأضناه التعب.. فكف عن مجرد التفكير في العرش الذي انهار والملك الذي ولى..
نزل الملك فاروق من يخت المحروسة وهو يرتدي بدلة بنية اللون، والى جواره زوجته ناريمان ترتدي فستاناً لونه بني أيضاً، وكان أول ما قاله فاروق بعد أن صافح عبد العزيز بدر سفير مصر في أيطاليا، خرجنا من مصر بالهدوم اللي علينا، لحظات وجاء قارب بخاري صغير ليحمل فاروق وناريمان والأولاد والحاشية إلى جزيرة كابري، وقبل أن يصل فاروق إلى الشاطئ خلع حذاءه وصلى ركعتين شكراً على النجاة.. ولكنه سرعان ما وصل أشهر هواياته في مطاردة النساء بمجرد استقراره في فندق (باراديزو) بكابري.
الخطوة الأولى في عالم ملذات المنفى يصفها أمين فهيم.. كان فاروق يجلس في بهو الفندق، ولم تمض على جلسته لحظات حتى دخل بواب الفندق وتقدم إلى فاروق حاملاً على صينية من الفضة مظروفاً عليه اسم (اليخت ـ اليانورا) فض فاروق المظروف وقرأ الرسالة بسرعة ثم قال لسكريتيره: دي رسالة من أصدقاء أعرفهم من زمان، ويقولون إنهم جاءوا خصيصاً إلى كابري لتقديم احتراماتهم.
طلب فاروق من سكرتيره أمين أن يبعث لأصدقائه رسولاً يبلغهم بأنه سيزورهم على اليخت بعد ساعتين.. فسأله أمين: هل يأذن مولاي أن أبلغ الملكة ناريمان كي تستعد هي الأخرى للزيارة.. لم يجب فاروق.. لكنه تجهم وقال في عصبية: لا لا يا سيدي لازم تعرف من دلوقت إن الملكة مش مفروض تنط معانا في كل حتة!
وصل فاروق إلى اليخت، كان صاحبه ينتظره مع صديق له اسمه (الكونت بولاسكي) رحب الاثنان بفاروق، ثم اتجهوا إلى صالون صغير وجلسوا يدخنون السيجار، ولم تمض سوى دقائق حتى فتح باب الصالون، لتظهر فتاة عيونها سوداء وشعرها في لون الكستناء، كان اسمها (جابي نيج) من بلجيكا.. وما إن رآها فاروق حتى انصرف تماماً عن صاحبيه، التفت إليها بكل حواسه، وراح يسدد إليها نظراته التمثيلية المعروفة، التي كان يتظاهر بأنه رجل ذواقة خبير بجمال النساء.. غرق فاروق في غزل جابي ونسي خلال ساعات المنفى الأولى ما جرى له في مصر، فقد اندفع نحو النساء والطعام وكأنه لا يزال ملكاً.. أو كأنه لم يتعرض إلى أشد المواقف العصيبة في حياته قبل أيام تعد على أصابع اليد الواحدة.
اضاف فاروق إلى هوايته في مطاردة النساء.. هواية أخرى وهي تسجيل علاقاته النسائية في مفكرة خاصة وصفت بأنها مفكرة الغرام، سجل فيها المعلومات الأساسية عن تحريم المنفى، وعكست هذه الهواية إحساساً هائلاً بالملل والفراغ، ففي كل مساء كان يتوجه بسيارته إلى روما حيث يتناول عشاءه في كافيه(دي باري) وهي قهوة مفتوحة في الهواء الطلق بها مطعم داخلي مغلق، وبعد العشاء كان يتردد على النوادي الليلية بمختلف مستوياتها، فقد كان زبوناً شهيراً في (جيكي كلوب) وهو كباريه تحت الأرض في أحد سراديب روما القديمة، و(أوبن جيت) وهو من أرقى النوادي الليلية يتردد عليه صفوة القوم، و(البيجال) وهو ملهى ليلي متوسط المستوى، بالإضافة إلى علب الليل الرخيصة المنتشرة في شارع(فينيتو) أو شارع الدعارة الذي انتعش بدولارات جنود الجيش الخامس الأمريكي بعد الحرب العالمية الثانية.
كان لفاروق طقوس خاصة في التعامل مع النساء عندما يأتي بهن إلى البيت، كان يتصل بخادمه تليفونياً ليتخذ التدابير اللازمة لاستقبال الضيفة، وكانت هذه التدابير تختلف باختلاف المرأة، وتتغير حسب الوقت الذي قرر أن يقضيه مع الصيد الثمين، فإذا كانت المرأة ستقضي ليلة واحدة فإن التدابير تقضي إعداد مائدة صغيرة أمام حجرته عليها بعض الأطعمة، وكان فاروق يستعد استعداداً خاصاً لنسائه، كان يدلك وجهه ورأسه بعطره المفضل(ياردلي) ثم يرش العطر على مفرش السرير والسجادة ويقوم بعد ذلك إلى صيدليته في الحمام المجاور لغرفة النوم، حيث يحتفظ بعدد من المركبات الطبية والوصفات البلدية التي يدخل في تحضيرها العسل النحل. وإذا كانت المرأة ممن عرفهن عن طريق وسيط أو وسيطة، فإن فاروق كان يحرص على أن يدعو من باب المجاملة من كان له الفضل في عملية التعارف، ووقتها كان يوفد الطباخين والخدم في أي ساعة من ساعات الليل لإعداد مأدبة تليق بالمناسبة السعيدة، وإذا كانت الضيفة من ساحات الليل أمر في ساعة مبكرة من الصباح بتاكسي يحملها من بيته إلى المدينة، وكان يدفع لها أجراً يتراوح بين العشرين والخمسين جنيهاً، أما إذا كانت من النوع الممتاز فإنه يستقبلها لتتناول معه طعام الفطور والغداء ثم يأمر بسيارته الخاصة لتوصيلها، وكان يدفع للمرأة من هذا النوع مبلغاً يصل إلى مائة جنيه ويعطيها هدية تقليدية من التي يحتفظ بعدد كبير منها، كأن يعطيها فم سجائر من الذهب أو خاتماً أو بروشاً..
لم يكن فاروق يستقبل كل نسائه في بيته.. ومن بين ما يذكر عن أيامه في المنفى أنه استأجر شقة جرسونيرة في شارع برونوبوتس.. وكانت تقع في الدورالثالث وتتكون من حجرتي نوم وصالة وحمام وإيجارها الشهري 250 جنيهاً.
كانت أولى عشيقات فاروق في المنفى شقراء أمريكية اسمها(دوري) أخذها فاروق من صديقها عازف البيانو الذي كان يتكسب قوته من العزف أمام رواد الملاهي الليلية، احتقرته(دوري) في البداية، وصفته بالسمين السخيف، ولكن هداياه التي أغرقها بها جعلته في عينيها رشيقاً خفيف الظل، على أن ليالي الغرام لم تستمر طويلاً، فبعد أن حصلت من الملك الولهان على ثمن سيارة، حملت أكوام الهدايا وسافرت إلى باريس دون أن تودع فاروق بكلمة واحدة، كل ما تركته له كانت صورة كبيرة لها وهي نصف عارية.
راحت (دروي) وجاءت(إيرما) فتاة رشيقة حلوة جذابة عمرها 18 سنة رآها فاروق في مسابقة للجمال بعد دقائق من الفحص استقرت في مزاجه وقرر أن يحصل عليها.. خسرت إيرما المسابقة فاحتج فاروق.. وبعد تبادل جمل قصيرة أقنعته أنها من أسرة عريقة لا تقل عن عراقة أسرته، أحبها بجنون.. وقرر أن تقيم معه في بيته على بعد أمتار قليلة من بناته.. وقد ساعدته الظروف. فقد تركت له ناريمان البيت بعد أن طلبت الطلاق.
عاش فاروق مع إيرما حياته كما أراد حتى بعد أن اكتشف أنها بنت سائق فقير يعيش مع أمها في إحدى حواري نابولي، وكان أقصى ما يمكن أن تصل إليه أن تكون عاملة في محل بقالة أو في مطعم بيتزا أو في بار رخيص.. وفي يوم استضاف فاروق أخته فايزة على الغداء، جلست فايزة على يسار فاروق، وجلست إيرما على يمينه، وبعد الغداء قالت فايزة: أنا شايفة إنها مؤدبة وبنت ناس، فأخذتها ابنة فاروق الكبرى فريال من يدها لتطل من نافذة حجرتها التي تكشف شرفة فاروق، فرأت فايزة شقيقها وإيرما وهما عاريان تماماً فقالت فايزة: (دي مش مؤدبة دي سافلة وبنت ستين كلب.. ثم قالت في أسف.. هي مالهاش أهل يسألوا عليها...)
من رافقوا فاروق في منفاه أكدوا أن ذوقه في النساء تدهور كثيراً وهو نفس ما حدث في مستواه في القمار، فكثيرا ما كان الملك المعزول يتردد على كازينوهات القمار الصيفي، القريبة من ميدان (بابربرني).. تراجع مستوى فاروق في اللعب لأنه كان يقامر بأمواله فلا داعي للمجازفة، كذلك فهو كان يقامر كشخص عادي وليس كملك، ففي مصر كان الأثرياء يتعمدون أن يخسروا أمامه ليحققوا مطالبهم بعد ذلك، كانت الخسارة أمام فاروق رشوة سامية الأسلوب، لم يكن فاروق وهو في صالات إيطاليا يغش في اللعب كما كان يفعل في مصر عندما كان الغش أبرز صفاته في البوكر.. ولذلك كان يقامر بنقود قليلة، كما كان يراهن كل أسبوع في ملاعب كرة القدم الإيطالية، والكثير من وقته ـ خاصة في الصباح ـ كان يبدده في إحتساء عصير الفواكه من الماكينات التي تقدمه بمجرد أن تضع فيها الليرات المعدنية.
أصبحت حياة فاروق بلا طعم.. وكان من الطبيعي أن تصبح حياة زوجته ناريمان بلا طعم أيضا، فقد فضلت ناريمان الاتبعاد عن فاروق بعد أن عجزت عن احتمال تصرفاته الشائنة، لقد كانت تحتمل نزواته من أجل أن تظل ملكة على العرش، ولكن العرش لا وجود له الآن، فأصبحت نزواته بلا مقابل.. ولذلك انفجرت المشاحنات بينهما سريعاً وفور استقرارهما في روما، ووصلت إلى حد إهانتها أمام الخدم والمربيات.. كان يقول لها ( أنت جزمة في رجلي).. ثم زادت الإهانات حتى وصلت إلى مستوى الضرب ضربها مرة بقبضة يده، فسقطت على الأرض فاقدة الوعي، وكادت تموت من الصدمة بسكتة قلبية، لولا أن سارع طبيب الضاحية لإنقاذها، وقد ذهل الطبيب وسيطرت على ملامحه الدهشة، ثم حل محلها الاستنكار، ثم خرج وهو في حالة قرف، فقد كانت هذه المرة الأولى في حياته التي يسمع فيها أن ملكاً ضرب ملكة.. علقة..
اضطرب فاروق عندما فقدت ناريمان الوعي.. لكنه شعر بنشوة خاصة بعد أن أفاقت، ووجد سكرتيره أمين فهيم أن الملك سعيد بما حدث، بل سمع منه محاضرة طويلة عريضة عن ضرب الزوجات قال له( لعل ناريمان تستفيد من هذه العلقة.. إنني أردت أن أعطيها درساً، أظن أن هذه الضربة سوف تؤدبها، أحسن طريقة لمعاملة الزوجة أن تضربها علقة، ألا تعرف أن أولاد البلد يضربون عرائسهم علقة ليلة الدخلة بغير سبب، ذلك لإشعار العروس أنها خادمة الزوج، ويبدو أن جو الأستاذية أخذ فاروق فأضاف: أنا لو كنت ضربت فريدة علقة يوم الزفاف لما حدث الطلاق، ولكانت زوجتي حتى الآن، ولو أنني ضربت ناريمان ليلة الزفاف لمشت مثل الكلبة، ولكني غلطت أنني عاملت ناريمان وفريدة كملكات فشعرت كل منهما أنها مثلي تماماً.
بعد أن أفاقت ناريمان من الضربة الموجعة، تحدثت إلى أمين فهيم، كان وجهها متورماً وعليه آثار الضرب الشديد، وكانت في يدها مرآة تنظر إليها لترى آثار الرضوض في وجهها، قالت وهي تنتحب: يصح يا أمين إن الملك يضربني زي أي واحد في الشارع ما بيضرب مراته، يصح إنه كان ح يموتني، كنت ح اروح في شربة ميه، أنا مش ممكن أقعد معاه لازم أمشي لازم أسافر، ثم أفصحت ناريمان عما ستفعله قالت: أنا راح أوديه في داهية قبل ما يوديني في داهية، طلب سكرتير الملك من الملكة أن تهدأ.. فأجابته بأنها يمكن أن تهدأ بشرط أن يدفع لها الملك ثمن العلقة.. وبسرعة حددت الثمن وهو 100 ألف جنيه.
فوجئ فاروق بالمبلغ ورفض أن يدفعه، وتصور أن الاعتذار لناريمان يكفي، لكنها لم تقبل الاعتذار، وأصرت على المبلغ، وهددته بالفضيحة، فقبل أن يدفع ألف جنيه، ثم رفع المبلغ إلى 20 الف جنيه، فهزت ناريمان كتفيها وقالت: أنا ما ببعش ترمس.
وأضافت: مائة ألف جنيه يعني مائة ألف جنيه.. هذه فرصتي الوحيدة الآن، ولو لم أستغلها فسيجيء اليوم الذي يطردني فيه من البيت، يجب أن أفكر في مستقبلي من الآن، أنا أريد أن أخرج من هنا لأشحت في الشوارع، لابد أن يدفع المائة ألف جنيه.
استسلم فاروق، ووافق على دفع المبلغ المطلوب، وحول من حسابه إلى حساب ناريمان في أحد البنوك السويسرية 100 ألف جنيه، لكنه قال وهو يوقع بإمضائه على خطاب التحويل: هذه عقلية كباريهات لا عقلية قصور، يا سلام.. مائة ألف جنيه من أجل علقة؟ إن هذا تفكير راقصة لا تفكير ملكة..!
هدأت الأمور بين فاروق وناريمان بعض الوقت.. وفي ليلة أصر على اصطحابها للسهر في ملهى(أوبن جيت) أكثر الملاهي الليلية أرستقراطية في روما.. كان فاروق في أفضل حالاته يتعامل معها برقة وشياكة، لم يغازل راقصة، لم يحتك بامرأة، لم يعبث بما حوله، ودهشت ناريمان، وأحست بالثقة ورد الاعتبار.. فتعمدت استعراض نفسها وقامت لتمر بين الموائد، وفجأة ضج المكان بالضحك، ولم تعرف السبب إلا بعد أن أكتشفت في مرآة الحمام أن فاروق علق على ظرها ورقة مكتوب عليها باللغة الإيطالية (ناريمان جارية فاروق).
كان لابد أن يقع الطلاق.. قضت ناريمان فترة في سويسرا وعندما عادت إلى إيطاليا كانت معها أمها حماة فاروق، بدأت الحماة الكلام قالت لفاروق: لا تؤاخذني يا مولاي.. نفرض لا سمح الله جرى لك حاجة مفيش ضمان لبنتي في المستقبل، ثار فاروق ورد عليها بعنف قال لها: أنا لا أسمح بهذا الكلام.. كل كلامك أنت وبنتك فلوس، عاوزين بس فلوس، وفي هذه اللحظة استدعى فاروق سكرتيره أمين فهيم وقال له: يا أمين شوف الولية دي عايزه إيه.. أتكلم معاها!
انتهت المفاوضات بطلاق ناريمان وأصر فاروق على أن تسافر ناريمان وأمها بلا وداع، واستقلا سيارة تاكسي من القصر إلى المطار، وعندما ذهبت تودع ابنها، وجدت المربية والحارس الألباني في حجرته، وبقيا حسب تعليمات فاروق وهي تودعه، ولم يبد على الولد أنه يعرف أن أمه سوف تفارقه إلى الأبد.. فظل يلعب ويضحك.. ولم يكن في عيني ناريمان أية دموع.. لا على طلاقها ولا على فراق ابنها.
وكما اضطربت حياة فاروق العائلية.. اضطربت حياته السياسية، ففي خلال إقامته بكابري جاءت موافقة الحكومة الإيطالية على منحه حق اللجوء السياسي، وفي المقابل تعهد إليها بالأ يقوم بأي عمل يحمل معنى النشاط السياسي.. حاول فاروق أن يخرج عن هذا التعهد.. لكنه لم يحقق شيئاً يذكر، فعندما وصله نبأ إعلان الجمهورية فكر لأول مرة في العمل ضد الثورة، ولكنه لم يكن بارعاً بما فيه الكفاية، فوقع في شرك عدة نصابين من محترفي اصطياد الثروات، أوهموه أنهم سيعيدون الملكية إلى مصر والعرش إلى أسرته.
كانت المحاولة الأولى للعودة على يد شخص يدعى فيليب حنا، اتصل بالملك فاروق ليشرح له خطة إعادته إلى مصر، كانت الخطة تقوم على أن ينقل فيليب إلى الغرب صورة فوضى النظام الثوري في مصر، ثم يطلب من انجلترا التدخل لحماية الأقليات في مصر، وفي المقابل كان الثمن المطلوب لتنفيذ الخطوة هو عشرة ألاف جنيه.
وفي صيف 1954 اتصل صديق قديم لفاروق من جنيف، وطلب منه توحيد الجهود بينه وبين الصحفي المصري محمود أبو الفتح طريد الثورة والذي تفرغ في سويسرا للهجوم عليها، كان هذا الصديق يحمل الجنسية الهندية، وقد وافق فاروق على الفكرة وكان الطلب الأول لتنفيذ الخطوة أن يدفع فاروق 100 الف جنيه، وفي كل مرة كانت تعرض خطة من هذه العينة على فاروق كان يسرح بعيداً بخياله ويفرط في الحديث عما سيفعله لو استرد العرش، اصيب فاروق في هذه الفترة بانفصام في الشخصية، فهو يلعب القمار ثم يصلي، ويختفي مع عشيقته إيرما في مكان بعيد ثم يعود ليبدأ في الصوم، أصبح لا يعرف الصواب من الخطأ، وأصبح يندم على الخطيئة ثم يعود إليها.
وظل هكذا حتى جاء يوم النهاية، في 17 مارس 1965، ضرب النعاس عيني إيرما مينو تولو عشيقة الملك فاروق.. وملكة المنفى، في تلك الليلة مر عليها فاروق ثم تركها ليذهب مع صديقتها آنا ماريا جاتي إلى مطعم أيل دي فرانس الفاخر، وصلا قبل منتصف الليل بساعة، وفي قاعة (سانت تروبيز) أكل فاروق بمفرده دستة من المحار وجراد البحر، وشريحتين من لحم الحمل مع بطاطس محمرة وبقول فرنسية، ورفض أكل الفطائر المحلاة لأنهم كانوا قد وضعوا بها خموراً، لكنه أكل كمية كبيرة من الكعك المحشو بالمربى والفواكه، بعد هذه الوجبة الدسمة جلس فاروق مستلقياً على أحد المقاعد الوثيرة، وقد أشعل سيجاراً، وقبل أن يحرق نصف السيجارة أحس بشيء ثقيل يطبق على صدره، وضاق تنفسه وأحمر وجهه ورفع يده إلى حلقه وبصعوبة طلب النجدة.
أسرع البارمان إليه، حمل فاروق بسرعة وألقاه بهدوء على كنبة في القاعة وراح يرفع ساقيه إلى أعلى ثم يخفضها إلى أسفل، وخلال دقائق وصلت سيارة الإسعاف، حملته إلى مستشفى (سان كاميللو) وفي المستشفى وضعوه في خيمة أوكسجين واستمروا في عمليات إنعاش القلب إلا أن القلب فاروق لم يستجيب، وأخذ نبضه يتذبذب بصورة مستمرة، وفي الساعة الواحدة والنصف صباحاً توقف النبض نهائياً.. ومات فاروق، لحقت بموته شائعات عن قتله بالسم وتورط المخابرات المصرية في ذلك، لكن هذه قصة أخرى.
في سنة 1954 كان فاروق قد كتب وصيته.. وجعل الوصي فيها الملك سعود بن عبد العزيز حتى يضمن المزيد من المساعدة المالية له ولأولاده من بعده وكانت البنود الأساسية للوصية(أنا فاروق الأول أبن المرحوم أحمد فؤاد ملك مصر سابقاً، تلك هي وصيتي إذا هم القضاء فإني أعهد بأولادي من بعدي إلى أخي وصديقي الكريم حضرة صاحب الجلالة الملك سعود الأول ملك المملكة العربية السعودية، ليكونوا في كنفه وتحت رعايته وفي حراسته.
وأوصى بألا يكون لزوجتي السابقة ناريمان والدة ابني أحمد فؤاد ولا لفريدة والدة بناتي الحق في أي شيء من التركة، وأوصى بثروتي العقار والمنقول إلى ورثتي المذكورين من بعدي وهم ابني أحمد فؤاد وابنتي فريال وابنتي فوزية وابنتي فادية، وأعهد إلى سكرتيري الخاص أمين محمد فهيم والى مربية بناتي الآنسة(سيمون تابوريه) بتولي أمر أطفالي وتدبير شؤونهم والقيام على إتمام تعليمهم في الخارج، وهما على علم بشروطي فيما يتعلق بزواج البنات.
كانت هذه الشروط أن يكون الزوج مسلماً وغنياً وألا يكون من ضباط الثورة الذين عزلوه، فقد كان فاروق يردد وهو في منفاه: لو كنت تركت بناتي في مصر لكانت الثورة انتقمت منهن وزوجتهن من عساكر، وقد ختم فاروق الوصية بختم الملكية، وأودعها عند موثق العقود الإيطالي في روما، ولكنه سحب الوصية وغيرها أكثر من مرة ألغى وصاية الملك سعود بعد أن أصبح خارج السلطة وألغى اسم سكرتيره الخاص منها بعد أن تركه وأصبح سكرتيراً خاصاً لمطلقته ناريمان صادق، وأشيع أنه على علاقة بها، وألغى اسم مربية أولاده أيضاً بعد أن طردها على أثر اكتشاف تعاطفها مع الملكة السابقة، وأعاد فاروق كتابة الوصية، بعد أن نزع كل الأسماء، وجعل النصيب الأكبر من الثروة لأبنه أحمد فؤاد، بعد أن تصور أن النقود قد تسانده في استعادة العرش في الوقت المناسب.
لم يبق من حياة فاروق إلا وقائع دفنه في مصر، في أيامه الأخيرة عبر الملك المخلوع عن رغبته في أن يدفن إما في مصر بجوار والده ومعظم أسلافه في مسجد الرفاعي، وإما في المملكة العربية السعودية أو على الأقل في أية دولة عربية، وقد نجح إسماعيل شيرين وزير الحربية الأسبق وزوج شقيقة فاروق في إقناع السلطات المصرية بنقل جثمان الملك السابق من مقابر روما إلى مدافن أسرته في مسجد الرفاعي، وبعد عشرة أيام من المساعي وافق جمال عبد الناصر على ذلك ولكن بشرط السرية التامة.
وفي 27 مارس 1965 نقلت طائرة مدنية من طراز كوميت تابعة لشركة الطيران العربية المتحدة جثمان فاروق إلى القاهرة، وتحت حراسة أمنية مشددة نقل الجثمان إلى مكيروباس يقوده مخبر سري، أخترق طريق صلاح سالم حتى منطقة القلعة، ثم نقل الجثمان إلى قبر إبراهيم باشا أبن محمد علي الكبير حيث دفن الساعة الثانية بعد منتصف الليل، استغرقت عملية الدفن عشر دقائق، حضرها من أسرته الأميرة فوزية والأميرة فايقة مع زوجيهما، وبعد أن رحل الجميع بقي الجثمان في عهدة راعي القبور الملكية حافظ خطاب.
قد تشفق على فاروق بعد أن تتعرف على تفاصيل حياته في المنفى.. لكنك ستكون على قناعة في النهاية.. أن حياة فاروق كان ولابد أن تقوده إلى هذا المصير.. الذي سيق إليه كما تساق الشاه إلى ذبحها.. فقد ظل طوال حياته يعيش مثل الطفل الأبله.. الذي لا يدري ماذا يحدث حوله.. لم يسأل عندما وجد نفسه ملكاً ولم يسأل عندما خلعوه من على عرشه.. ولم يغضب عندما عاش مطروداً منفياً.. وحتى عندما مات.. جاءت لحظته بسرعة.. حتى لا يتعذب.. فهو حتى لا يستحق العذاب.
سهرات الصيف الأخيرة للملكية
في صيف 1952، كانت مصر كلها تغلي من الداخل، لكن السطح كان هادئاً، الناس يعيشون حياتهم اليومية بحلوها ومرها، ويبدو أن قدرة المصريين على امتصاص الصدمات والتعايش مع الفساد والقهر والظلم جعلتهم ينصرفون عن السياسة إلى قضاء أوقاتهم في الحديث عن المشاكل اليومية المعتادة.. كان الناس مشغولين في أيام الصيف التي سبقت الثورة بما حدث لمصيف رأس البر من تدهور، حيث شهد المصيف الذي كان يرتاده نجوم المجتمع تراجعاً في الإقبال عليه وشكا أصحاب المحلات عن الركود الذي سيخرب بيوتهم.
الاسكندرية لم تعان من الركود.. حيث شهد صيف الاسكندرية حفلات صاخبة وسهرات حتى ساعات الفجر الأولى.. وهذا بعض مما كان يحدث، في الأسبوع الأول من يوليو.. شهد سان ستيفانو سهرة بالمايوهات، ظهر فيها حرم إبراهيم بك ذو الفقار بثوب أسود، وحرم مؤيد بك العظم بثوب أسود مثله ومدام رينيه أجيون بشعر ذي لون جديد.
كانت السهرة أطول وأكثر صخباً، مما كان يظن رواد سان ستيفانو نفسه بسبب المباراة الساخنة التي خاضتها المايوهات والأجساد الجميلة أمام عيون المتفرجين تحت الأنوار الكاشفة، كانت المباراة جديدة في أسلوبها، فهي لم تكن بين السيقان فقط ولا بين الأجساد فقط.. ولكن بين ذلك كله دفعة واحدة، وكان واضحاً أثناء المسابقة أن المايوه البكيني لم يعد موضة الموسم، وأن الذي حل محله هو المايوه الجديد الذي يتألف من قطعة واحدة بلا أكتاف.
في هذه المسابقة أيضاً فازت مدام ايمي جنيد بمايوها المبتكر(روز ماري) أما الآنسة نازلي شاهين وثوبها الذي كان يكشف عن كتفيها فلم تفز بشيء لسبب بسيط هو أنها لم تدخل المباراة أصلا، وكان غريباً ألا تدخل نازلي شاهين المباراة لأن شفاه المتفرجين وألسنتهم الطويلة، كانت تتحدث عنها كما لو كانت هي الفائزة!
لم تشهد الاسكندرية في الصيف الأخير قبل الثورة سهرات الكبار فقط ولكنها شهدت أيضاً حفلات زفافهم التي لا تختلف عن حفلات زفاف اليوم، في الخميس الأول من يوليو 1952، شهدت حديقة آل البتانوني حفل زفاف كريمة عزمي النشاشيبي بك وكيل وزارة الخارجية الأردنية، تألقت العروسة الجميلة في ثوب من الدانتيلا والتافتاه رقيق مثلها، وتمكنت العروس أمام المدعوين المذهولين من إقناع رفعة حسين سري باشا أن يضحك كباقي خلق الله.
كان هاشم باشا وغزالي باشا ومحافظ الأسكندرية والسيدة زوجته من بين الذين رفضوا أن يصدقوا أعينهم وهم يرون سري باشا يضحك، اشتد الذهول بالموسيقار محمد عبد الوهاب فلم يحاول على الإطلاق أن يغني للمدعوين، وكانت كاريوكا وثريا حلمي هما الوحيدتين اللتان لم تزعجهما ضحكات رئيس الوزراء فرقصت الأولى وغنت الثانية، وعندما عادت التكشيرة الطبيعية إلى ملامح سري باشا، تمكن المدعوون من التوجه مطمئنين إلى البوفيه في الدور الأعلى حيث كانت تنتظرهم ألوان من أطعمة الشرق لا يقوى أحد على مقاومة إغرائها ولا على هضمها.
لم تكن الاسكندرية ليلاً فقط ـ ولكنها كانت للنهار أيضا، فعلى شاطئ سيدي بشر كانت تظهر كل يوم زينب الوكيل حرم النحاس باشا، لكنها كانت تكتفي بساعة واحدة تقضيها في الشمس أمام كابينتها ثم تنصرف بهدوء وحرص على ألا يضايقها أحد، وبعيداً عن وقار حرم النحاس باشا فإن بلاج الاسكندرية كان يشهد كل يوم شقاوة(شلة الصغار) التي كانت تتزعمها غادة توفيق صبري بشورتها الأبيض القصير الذي كله إثارة.
لم يختلف صيف القاهرة كثيراً عن صيف الاسكندرية،اللهم الا في حرها الشديد وجوها الخانق.. لكن سهرات الكبار وحفلاتهم لم تختلف فبسبب الحر الشديد والملل الخانق الذي يكتم الأنفاس في القاهرة لم يجد الدكتور يوسف رشاد وهو طبيب الملك فاروق ـ بداً من أن يؤلف اتحاداً للشطرنج، كان مجرد اعلان تشكيل الاتحاد كافيا لينضم إليه كل ضحايا الملل يتقدمهم النبيل عباس حليم ووزير كوبا المفوض في مصر، وعندما اجتمع اتحاد الشطرنج دارت مناقشات كثيرة حول أهمية اللعبة ومزاياها، وانتهت إلى قرار بإرسال فريق من الاتحاد إلى دورة هلسنكي للاشتراك في مبارياتها.
سهرات القاهرة لم تكن أقل صخباً من سهرات الاسكندرية، ففي النادي التونسي الذي افتتح في أوائل يوليو 1952 أقيمت عدة حفلات.. وفي إحداها تداعت أعصاب واحد من السادة المحتفلين وهو يرقص مع واحدة من الرشيقات فاستجابت له الرشيقة بصفعة، وأسرع سيد آخر من الحاضرين يؤيد الصفعة بصفعة مماثلة ونشبت معركة بين الرجلين.. انسحبت أثناءها الآنسة الرشيقة بعيداً إلى حيث يمكنها الاستمتاع بالمنظر!
وفي نادي الصيد لم تتغير الصورة كثيراً، فقد لمعت الأنوار الكاشفة في الأسبوع الثاني من يوليو.. الأضواء لم تكشف المايوهات الساخنة هذه المرة، ولكنها أظهرت الحمام الذي كان صيده قبل ذلك يتعب الضاربين في الضوء الهزيل، كانت الأضواء في نادي الصيد خافتة.. لكن بعد أن زودها النادي أصبحت سهراته تمتد إلى الواحدة صباحاً، واصبح لا يختلف عنها أبداً النبيل سليمان داود وحرمه، ولا الوجيه ابراهيم يكن ولا الوجيه صالح صادق، ولا حرم عمر فتحي ولا حتى (توتو) وهو الوجيه محمد سلطان.
لم يبتعد الفنانون عن جو الترفيه والحفلات عن المصيفين في الاسكندرية، فعندما حلت أيام المصيف، قررت فرقة (ملوك الفن) التي تضم بين أعضائها شادية وتحية كاريوكا وإسماعيل ياسين وعبد الغني السيد، أن تنتقل إلى الاسكندرية.. لكن الفرقة وقعت في مأزق فقد اعتذرت تحية كاريوكا عن السفر معهم إلى الاسنكدرية لأنها مرتبطة بعقد عمل في بيروت، المسؤلون عن الفرقة أنقذوا الموقف واتفقوا مع ثريا سالم راقصة مصر الرسمية(!!) على أن تحيى ليالي الفرقة إلى جوار أغاني شادية ومنولوجات اسماعيل ياسين الضاحكة وتمثيل شكري سرحان المسلي!
لم تكن كل السهرات في مصر في صيف 1952 صيداً ورقصا.. في النادي الأهلي كانت هناك سهرة رياضية خالصة شهدها شهر يونيو الذي توافق مع شهر رمضان في هذا العام، نظم النادي الأهلي مهرجاناً للسياحة تضمن سباقاً للقوارب والبراميل، وشهد الحفل جمهوراً كبيراً من أعضاء النادي الذين اعتادوا على طرافة حفلات ناديهم.. وظل الجمهور الكبير يتابع فقرات الحفل حتى آخر دقيقة فيه، بل إنهم كانوا عند انصرافهم ينهبون الأرض نهباً إلى بيوتهم حتى لا يفوتهم وقت السحور.
بعيداً عن جو الحفلات والسهرات كان الناس في مصر يتحدثون عن أشياء كثيرة تعبر عن همومهم واحتياجاتهم اليومية، نقلتها الصحافة وهي تغطي أحوال الناس وهذا بعض مما كتبته الصحافة:
في أهرام أول يوليو كتب د. إبراهيم ناجي بك ـ وأغلب الظن أنه هو إبراهيم ناجي مؤلف أغنية الأطلال الشهيرة لأم كلثوم ـ عن أمراض الكبد في مصر وقسمها إلى قسمين، أمراض خاصة بالمرارة وأمراض خاصة بالكبد ذاته.. وأمراض الكبد التي كتب عنها ناجي تعود في رأيه إلى أن خلايا الكبد قد تتلاشى تماماً وقد تضمر.. والنتيجة في النهاية واحدة، لم يتدحث ناجي عن نسبة اصابة المصريين بالكبد لأنه.. والعلم لله ـ لم يكن أحد يهتم بذلك.
امتحانات الطلبة كانت شغل الناس الشاغل، وما كتبته الأهرام تحت عنوان أعصاب محطمة وقرائح مكدودة وحقن مسكنة وزجاجات كولونيا ووسائل مبتكرة للغش في الامتحانات هذا العام، يؤكد أن امتحانات قبل الثورة هي امتحانات ما بعد الثورة بلا أدنى فرق.
قالت الأهرام ازدادت ظاهرة اعتماد الطلاب على الغش في الامتحانات هذا العام، ومرجع هذا بالطبع إلى ضعف مستوى الطلاب، وثقتهم في عجزهم عن استيعابهم دروسهم إلى جانب ازدياد هذه الظاهرة نجد أن الطلاب قد ازدادوا جرأة أيضاً في نوع الوسائل التي يلجأون إليها، وإذا كان الطلاب الضعفاء في الماضي يتحايلون على الغش فإن الطلاب في هذا العهد يمتازون بالجرأة بعدم المبالاة حتى ليقدم بعضهم على حمل كتبهم معهم أو صفحات منها أو صفحات كبيرة من قطع (الفولسكاب) محشوة بما لم تستطع عقولهم أن تعيه من المعلومات. ويؤكد كاتب التقرير في الأهرام فتحي محمد عبده أنه لا يمكن الآن بعد أن ضبطت كل حوادث الغش التي تواترت عنها الأنباء في لجان الامتحانات أن نعتبرها مجرد حوادث فردية، بل هي حوادث اجتماعية تنظمها عصابات منظمة بدليل أن كثيراً من أوراق البرشام وهي أوراق الغش كما يسميها الطلاب كانت مكتوبة بالكربون لاستخراج نسخ متعددة منها لتوزيعها على الطلاب بالطبع.
وبعيداً عن الامتحانات أعاد وزير المالية البحث في الميزانية الجديدة في ظل موازنة في حدود 200 مليون جنيه وعجز 43 مليوناً، وزير المالية وقتها محمد زكي عبد المتعال باشا وعد بعدم الالتجاء إلى الاحتياطي وضمان تنفيذ المشروعات الضرورية لكنه عكف في نفس الوقت على إعداد أربعة مشروعات قوانين لفرض ضرائب جديدة ورسوم اجتماعية، وبرر وزير المالية هذه الضرائب بأن الدولة تتحمل أعباء مالية فاحشة.
ولأن أعباء الحكومة كانت ثقيلة، فقد أستجابت للتدابير الدولية التي أقرتها هيئة الصحة العالمية لمكافحة الأمراض التناسلية في مصر، بدأ فريق العمل الذي تكون من أعضاء وزارة الصحة المصرية وهيئة الصحة العالمية مباشرة مهمته من إدفا بسوهاج.. رأس فريق العمل د. إبراهيم حنفي بك مدير قسم الأمراض التناسلية بالوزارة.. الغريب أن اختيار إدفا لم يكن لأن الأمراض التناسلية منتشرة فيها لا سمح الله، ولكن لأن أعيان هذه القرية ورجال الإدارة بها أبدوا ترحيباً بالفكرة وتفهما لرسالة وزارة الصحة على وجهها الصحيح. ليس أكثر ولا أقل!
الصحف في صيف 1952 كانت تعلن عن كل شيء.. فهذا إعلان عن مايوهات أمريكاني مشجرة للأولاد من 2 إلى 10 سنوات مع مجموعة فريدة من القمصان الأمريكاني، وهذا اعلان آخر عن بطولة الرقص لعام 1952 بكازينو صوفر .. ويشير الاعلان إلى أن جوائز المسابقة تصل إلى 200 جنيه للمشتركين، وتذكرة الدخول 5, 12 قرش بالضريبة.
إعلانات التهاني والتعازي كانت حاضرة بقوة قبل الثورة أيضاً، فهؤلاء هم سائقوا القاطرات يتقدمون بأرق عبارات التهاني وأجمل الأماني لحضرة صاحب المعالي الدكتور سيد عبد الواحد بك وزير المواصلات بمنصبه الوزاري، وبالثقة السامية، ويرجون لمعاليه من سويداء قلوبهم دوام التوفيق والنجاح، وهذه هي رابطة مديرية بني سويف بالقاهرة تهنيئ أبنها البار معالي حسين كامل الغمراوي بك بتولي الوزارة وتدعو الله لمعاليه بالتوفيق لخدمة الوطن في ظل الملك المفدى.
المضحك أن مجلة روز اليوسف في عدد 21 يوليو 1952 أعلنت عن رواية نجيب محفوظ(خان الخليلي) بهذه الصيغة (نجيب محفوظ الكاتب الذي يفوز بكل الجوائز يقدمه نادي القصة في القصة الخالدة.. (خان الخليلي).. الاعلانات كانت تخاطب جمال الرجل أيضا.. وهذا نص إعلان آخر( هل أنت جميل المنظر.. العالم بأجمعه يمجد المنظر الأنيق، وليس معنى هذا إلا شعراً مرتباً ومنسقاً تنسيقاً بديعاً، فلم لا تشتري اليوم برطمان من (بريانتين) روز ماري لتكسب شعرك رونقاً وجمالاً.
الغريب وأنت طالع الأهرام صباح 23 يوليو 1952 ستجد عجباً، خبراً تحت عنوان (اسرائيل لم تتلق ردود الدول الغربية على طلبها نقل وزارة خارجيتها إلى القدس.. كان نص الخبر.. صرحت المصادر العليمة أن وزارة الخارجية الإسرائيلية تجمع الآن معلومات عن استعداد البعثات الدبلوماسية لنقل مكاتبها من تل أبيب إلى القدس تمهيداً لنقل وزارة الخارجية الإسرائيلية إلى القدس، ويقال أنها لم تتلق ردوداً مباشراً، وأبرق مراسل الإهرام الخاص في لندن يقول: بينما لا ترحب دول الغرب بنقل وزارة الخارجية الإسرائيلية إلى القدس فإن هذا القرار قد يعرض على الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها القادمة لتنقض القرار الذي سبق واتخذته بخصوص تدويل القدس، ولكن إسرائيل ما زالت متمسكة برأيها رغم المذكرة التفسيرية التي أرسلتها إليها تؤكد فيها أن مستقبل القدس لا تقرره إسرائيل، وإنما تقرره الأمم المتحدة، والرأي السائد في لندن أنه كلما طال الوضع الراهن بين اليهود والعرب كان من الصعب ضمان هذا التدويل.. قد تكون الألفاظ تغيرت بعض الشيء.. وقد تكون الأسماء تغيرت بعض الشيء.. لكن إسرائيل ما زالت كما هي تكسب كل يوم جديداً.
حوادث صيف الثورة لا جديد فيها.. قتل وخطف وسرقة.. عناوين الحوادث تشي لنا بالكثير.. وهذه بعضها (طالب بالحقوق متهم بإتلاف ملهى، وموزع بالبريد يحرز بندقية فيعاقب بالحبس، يضرب ابنه حتى الموت بسبب المناقشة على البيع، ثلاثة قتلى وثمانية جرحى في معركة كبيرة بين أسرتين، مريض يحاول الانتحار بسبب اعتداء الموظفين عليه، جثة شاب في بئر.. خنقه الجناة ثم مثلوا بجثته، جندي مراسلة يخطف كريمة ضابط كبير.. يبيع مصوغاتها ويتزوجها ثم يقضيان شهر العسل في المصايف، مداعبة بين ثلاثة تؤدي قتل أحدهم، يهشمون رأسه بالبلط، يريد أن يعلم ولدي أخيه الشحاذة فتقرر المحكمة الشرعية رفض دعواه وتلقي عليه درساً في رعاية الكرامة القومية، تطالب بإلغاء حكم صادر بطلاقها وتلجأ إلى القضاء الوطني في هذا الطلب.
قد تلحظ اختفاء جرائم الاغتصاب والفساد التي ازدادت هذه الأيام.. ولا يعني هذا أنها لم تكن موجودة.. لكن الصحف لم تكن تقترب منها كثيراً.. كانت تهتم بجرائم الفقراء.. ربما لأنها كانت تعتقد أن الأغنياء لا يقترفون الجرائم.
لم تكن الصحف على حق بالطبع.. ففساد رجال الأعمال كان على أشده، يروي محمد حسنين هيكل في كتابه (ملفات حرب السويس) أنه في يوم 7 يوليو 1952 نشرت الصحف البريطانية تفاصيل غريبة، كانت الديلي اكسبريس إحدى هذه الصحف التي نشرت القصة نقلاً عن مراسل لها في جنيف وقد جاء فيها ما يلي بالنص(تآمر أغنى أغنياء مصر لطرد حكومة الهلالي وكلفته العملية مليون جنيه دفعها الممثلون عن الملك فاروق أثناء اجتماع جرى بينهم في جنيف).. والرجل الذي يعمل من وراء الستار هو أحمد عبود باشا الذي تقدر ثروته بمبلغ 20 مليون جنيه، فهو يملك شركات سفن ومصانع ومساحات كبيرة من الأراضي يزرع معظمها بقصب السكر، الذي يملك عبود باشا احتكار صناعته، والحقيقة أن احتكار عبود باشا للسكر هو مصدر كبير للمال، وعندما علم عبود أن حكومة الهلالي باشا تفكر في إرغامه على وضع ضرائب على أرباحه من السكر قرر طردها، وأدخل عبود في مؤامرته إلياس أندراوس باشا المستشار الاقتصادي للملك والذي يدير عدداً من الشركات الكبرى، كذلك أدخل عبود في المؤامرة أحد أصدقاء فاروق في لعب البوكر ـ وهو كريم ثابت الصحفي اللبناني السابق ووزير الدولة الجديد في الوزارة التي أعقبت وزارة الهلالي، وكذلك دخل معهم صاحب جريدة المصري المليونير محمود أبو الفتح الذي جمع ملاينه من تجارة الورق في السوق السوداء فترة الحرب والذي يؤيد حزب الوفد، وقد اتصل كريم ثابت والياس أندراوس بكافري سفير الولايات المتحدة في القاهرة، وأبلغاه أن فرص نجاح خطط تنظيم الدفاع عن الشرق الأوسط سوف تزداد إذا ما مارس الضغط على فاروق وأقنعه بطرد الهلالي وقد أستمع لهم جيفر سون كافري ولكنه لم يتحدث مع الملك وبدلاً من ذلك أبلغ حسونة باشا وزير خارجية الهلالي بالأمر وهكذا أخذ الهلالي علماً بالأمر وقدم استقالته فوراً.
انتهت رواية هيكل.. لكن لن تنتهي المقارنات بين رجال الاعمال الأمس ورجال أعمال اليوم.. صيف الثورة شهد رجل أعمال يسقط وزارة حتى لا يدفع خمسة ملايين جنيه ضرائب مستحقة عليه... والآن رجال أعمال يهربون إلى الخارج ومعهم الجمل بما حمل.
حياة الناس لم تكن كلها سهرات والآم فقط.. كان هناك أيضاً ما يفجر الضحك... فقد أصدرت محكمة القاهرة الابتدائية للضرائب برئاسة محمد السكري حكماً عاماً في قضية رفعتها إحدى الراقصات ضد مصلحة الضرائب، كانت المصلحة قد اعتبرت الرقص من المهن التجارية كالبقالة وتجارة المانيفاتورة، ومن ثم تسري عليها ضريبة الأرباح التجارية، على أساس أنها تستعين في عملها وهو الرقص بأربع بنات من جنسها يزاولن نفس المهنة، وأن هذا يبعد نشاطها عن أن يكون في نطاق المهن كالطب والمحاماة، كما اعتبرت المصلحة اتفاقها مع الجمهور على إقامة حفلات مقابل أجر معين متفق عليه مبدئياً عملاً تجارياً لأنه يشتمل على المضاربة التي تحتمل المكسب والخسارة.
دخلت المصلحة في مناقشة طويلة مع الراقصة عندما قالت أنها تستعين بمعاوناتها الأربع للعمل على الوجه الآتي: الأولى تحمل الرق والثانية لالقاء المونولوجات والأخيرتان للزفة، أنكرت المصلحة ذلك وأكدت أنه لم تجر العادة على استعمال رق ولا إلقاء مونولوجات مع وجود تخت، أصرت الراقصة على أنه ليس في امتهان الرقص أيه ناحية تجارية، إذ هو يتطلب دائماً ممن تزاوله جهوداً فنية خاصة تماماً كجهود الطبيبة والمحامية.
انتصرت المحكمة لوجهة نظر الراقصة فأصدرت حكمها باعتبار الرقص من المهن الحرة وقد جاء في حكم المحكمة أن مهنة الرقص تندرج مع مهنة العازف أو الممثل أو المغني التي جعلها القرار الوزاري رقم 25 لسنة 1945 منها غير تجارية وأما القول بأن طبيعة عمل الراقصة المقاولة على إقامة الحفلات راجع إلى شخصيتها بالذات فهي لا تتعاقد على حفلات لا تشترك فيها كراقصة، وأما استخدام الغير في هذه الحفلات بأي عدد مع تنويع عمل هذا الغير فليس معنى المضاربة التجارية وإنما تقتضيه مزاولة مهنتها كراقصة.
كانت هذه هي الحياة في مصر يوم قامت الثورة.. قوم لا هون.. وقوم يعانون.. والجميع يشكو.. ولا شيء يتغير!
6
الديكتاتور في المصيدة
اهتز الملايين في الشارع العربي لمشهد صدام حسين الأخير وهو تحت الفحص يقلبه طبيب أمريكي بين يديه دون أن يبدي الرئيس العراقي أي اعتراض أو امتعاض، بدأ كفأر مذعور فتعاطف الناس معه وحتى يخففوا من شعور الهزيمة الذي غمرهم حاولوا إنكار أن الصيد الذي وقع هو صدام حسين.. مواطن أردني أقسم برأس أبيه أن صدام لم يقع بعد.. وأن الله لابد وأن ينصره.. مواطن عراقي من تكريت مسقط رأس صدام حسين قال وهو يبكي: إن الأمريكان خدروا صدام حسين ولذلك لم يقاومهم.. ففي رأيه أنه أسد.. والأسد لا يقع ألا ميتا.
بعد ساعات من اختفاء الصورة المهينة التي ظهر بها صدام.. غابت السكرة وسيطرت الفكرة على الناس وأفسح المصريون لقريحتهم الساخرة ساحة التنكيت فقال أحدهم وهو جالس على مقهى في شارع فيصل إن أمريكا ما زالت تعتقد أن العراق بها أسلحة كيمياوية.. وعندما اعتقلت صدام حسين فتشت فمه اعتقادا منها أنه يخفي هذه الأسلحة بين أسنانه!
لن تبرح صورة الديكتاتور وقد زالت سطوته أذهان الناس، فقد أخذها البسطاء والمقهورين في أرجاء الوطن العربي وسيلة أراحوا بها أنفسهم، فمصير ظالميهم لن يختلف كثيراً عما لحق بصدام حسين، ونهاية جلاديهم لن تقل بشاعة عما رأوه بأعينهم بالصوت والصورة على الهواء مباشرة.
لقد انشغل الناس بسؤال وجدوا أنه منطقي للغاية وهو.. لماذا لم ينتحر صدام حسين مع أنه كان يستطيع أن يفعل ذلك وهو ما أكده أحمد الجلبي زعيم المؤتمر الوطني العراقي حيث قال: إن صدام لم يبد أي نوع من المقاومة لدى اعتقاله وكان أمامه متسع من الوقت للانتحار ولكنه لم يفعل.. لم يسأل الناس أنفسهم هذا السؤال وألحوا على عقولهم به خوفاً على صدام مما سيلاقيه على أيدي الأمريكان ولكنهم تمنوا ذلك حتى يريحهم من ساعات المهانة والمذلة التي شعروا بها وهم يشاهدون لحظاته الأولى بعد السقوط على شاشة الفضائيات.
البعض التمس لصدام العذر وأراحوا أنفسهم بأنه كان مخدراً لا يسيطر على ردود افعاله وقد قام الأمريكان بذلك حتى يصطادوه حيا.. لكن البعض الآخر وهم كثيرون أكدوا أن صدام حسين أجبن من أن يقتل نفسه.. وهذه هي شيمة الطغاة.. فهم يقتلون ويدمرون ويسفكون الدماء من وراء حجاب.. لكنهم في المواجهة جبناء غير قادرين على اتخاذ أصغر القرارات وأتفهها.
لا أحد يعرف الآن في أي شيء يفكر صدام حسين وهو في مجلسه الآمن في بغداد التي وعد أن ينتحر مغول العصر على أسوارها، فإذا به سجيناً في حجرة صغيرة من حجراتها.. بعد أن ظل سجيناً في قبو صغير في بلدته تكريت.. ولا أعتقد أن أحداً يهتم بمشاعر الرئيس السابق الذي خلع عن عرشه رغماً عنه، مصيره الآن أصبح في يد أعدائه الذين لن يرحموه ولن يراعوا في محاكمته عدلا ولا ضميراً رغم أنهم أعلنوا عكس ذلك عن نفسي لست متعاطفا مع صدام حسين .. رغم اسفي على حالة الانكسار التي نعيشها جميعاً الآن.. وكل ما أملكه أن أقدم لكم قصة حياة صدام حسين كاملة.. لعل وعسى أن ينتبه السائرون على خطاه فينقذوا أنفسهم قبل أن يصافحهم مصيره.
بائع البطيخ.. الذي سقط أخيراً
في ملفات صدام حسين الشخصية والتي أصبحت بعد اعتقاله ملقاة على قارعة الطريق مباحة مستباحة لكل عابر طريق قرأت هذه العبارة: (ولصدام حسين دراسات وأعمال فكرية عديدة في السياسة والاقتصاد والاجتماع والعلوم العسكرية والجوانب التربوية ترجمت إلى لغات العالم الحية).. وهي عبارة غريبة للغاية.. فما أعرفه أن صدام عندما أنهى دراسته الثانوية التي كان منتظماً بها في مدرسة قصر النيل الثانوية بحي الدقى بالقاهرة.. أنتسب إلى كلية الحقوق بجامعة القاهرة.. لكن ولانغماسه المتزايد في أنشطة حزب البعث لم يتمكن من إكمال دراسته الجامعية.. فمن أين لصدام بكل هذه المعرفة التي استطاع من خلالها أن يضع مؤلفات في كل شيء.
لم تكن هذه العبارة التي ربما ألقيت ضمن محاولات تجميل صدام حسين.. إلا وجهاً واحداً من وجوه صناعة الرؤساء في عالمنا العربي.. فرغم أنهم يكونون على باب الله.. بلا علم ولا أدب.. لكنهم في غمضة عين.. أو في غفلة من الزمن يصبحون أرباب العلم والأدب.. وآلهة المعرفة.. رغم أن تاريخهم ليس فيه شيء يدل على أحقيتهم لما وصلوا إليه، وصدام ليس إلا مثالاً صغيراً على ذلك..
كل من عرفوه أكدوا أنه لم يكن يصلح إلا ليكون رجل مخابرات من الطراز الأول.. وأنه لا يستحق أن يكون بمنصب أكبر من هذا.. ربما يصلح أيضاً أن يكون وزيراً للداخلية في أحسن الأحوال.. لكن الأقدار صنعت منه رئيساً للجمهورية.. لم يجعل الفرصة تفلت من بين أصابعه.. وكان طبيعياً أن تكون النتيجة دماراً شاملاً واستسلاماً تاماً.. فقد قضى على دولة حكمها كان أكبر من قدراته وإمكاناته.
هذه رؤية مهذبة للغاية.. لتحديد مصير صدام حسين فبعض تفاصيل حياته وخاصة في نشأته كانت تؤهله ليكون زعيم عصابة من الطراز الأول.. ولد في 28 أبريل عام 1937.. وهو تاريخ ميلاده الرسمي.. فكل زملائه لم يكونوا يعرفون تاريخ ميلاده.. لكنه ومنذ عام 1980 أصبح الاحتفال بعيد ميلاد الرئيس الرسمي يتم في 28 أبريل.. وكان طبيعياً وصدام بشخصيته الطاغية تلك أن يتحول يوم مولده إلى عيد رسمي تحتفل به العراق كلها..
استقبل صدام الحياة بين يدي أسرة فقيرة للغاية تعيش في قرية (العوجة).. التي تتبع مدينة تكريت التي تقع في وسط العراق.. عاش طفولة بائسة. ويبدو أن عائلته تنبأت له بما سوف يفعله فمنحته اسماً يحمل إحساساً بالعنف والقسوة والحزم، مات أبوه حسين المجيد قبل ولادته بشهور.. وعندما بدأ يدرك الحياة من حوله.. وجد نفسه في بيت زوج أمه إبراهيم الحسن.. لم تكن أمه تحبه... فعندما كانت حاملاً فيه مات أبوه متأثراً بإصابته بالسرطان وعندما كانت في شهرها الثامن مات أبنها البالغ 12 عاماً بسبب السرطان أيضاً، أصيبت الأم بكآبة شديدة إلى الدرجة التي دفعتها لمحاولة التخلص من الجنين المشؤوم المزعج، لكن صدام تشبث بأحشاء أمه إلى أن نزل سالماً  للحياة.
كان زوج الأم يذل صدام ويضربه ويهينه باستمرار، ويرى د. (جيرولد بوست) الخبير في السمات النفسية أن معاملة الأم وزوجها لصدام كانت مفتاحاً لشخصية صدام العنيفة فقد كانت أمه وراء عدم استقراره في فترة الصبا والمراهقة وشعوره بالدونية والهشاشة، ولذلك فإن الصور والنصب التذكارية والبوسترات العملاقة التي كانت لا تحصى في شوارع بغداد أو في مباني الدوائر الحكومية كل ذلك كان دليلاً على الذات الهشة لرئيس كان يداري ضعفه بقتل الأبرياء وسحقهم بلا رحمة.
بل ان استخدام صدام حسين أسلحة الدمار الشامل في بعض معاركه ضد معارضيه والتلويح باستخدامها ضد الأمريكان في السنوات الأخيرة، لم يكن ذلك دليل بطولة ولكنه كان يفعل ذلك في رأي د.(بوست) ليظهر جيشه تميزه المتواصل بالهيبة والسلطة فهو يتحدى المجتمع الدولي ويذكر جيشه باستمرار بأنه لم يذعن ولم يخضع، لأنه يعتقد أن ذلك سيجعله أكثر أهمية واحتراماً في نظر شعبه وجيشه.
قسوة أمه لم تجعله يهينها في النهاية بل أكرمها.. ربما ليحافظ على صورته التي رسمها، كان اسمها (صبحة طلفاح) .. كانت تتمتع بشخصية قوية وقد عاشت في تكريت حتى وفاتها عام 1982.. ,قد بنى لها صدام مقبرة فاخرة ولقبها (بأم المناضلين).
من عاش في تكريت أكد أنها مدينة تتميز بالكرم والتمسك بالدين، كما يشتهر أهلها بالهدوء والمسالمة.. وقد دفعهم هذا إلى مقاطعة ليست معلنة لكل الأغراب النازحين من المدن والقرى الأخرى إلى تكريت لأن الكثيرين منهم كانوا يتجولون بسلاحهم في حالة غريبة من العنجهية والغطرسة، وقد يكونون كذلك هاربين من قرى أو مدن أخرى بسبب ثأر أو مشاكل عائلية أو نزاع حاد وهؤلاء يكونون على عكس أهالي تكريت بعيدين تماماً عن الدين.. ولذلك رفض أهالي تكريت استقبال جد صدام حسين (عمر بيك) الذي كان قد نزح إليها من مكان غير معلوم فلم يعرف أحد من أين جاء؟.. ولا لماذا كان يلقب بـ(بيك) وإن كان خال صدام حسين خير الله طلفاح يزعم أن نسبهم يتصل بآل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم، قال ذلك دون أن يكون معه دليل قاطع على كلامه سوى روايات أو شهادات رجال دين من النجف وكربلاء.. من المحتمل أنهم أجبروا على قولها خوفاً من بطش وجبروت عائلة صدام.
خرج عمر بيك من تكريت إلى قرية ( العوجة) جنوب تكريت.. بنى بها داراً صغيرة من الطين على ضفة النهر وبدأ يعيش حياة الفلاحين التي تعتمد على زراعة المحاصيل الزراعية وخصوصاً الخضروات وتربية الأغنام والدجاج.. والغريب أن اسم (العوجة) جاء ليتناسب مع طبائع أهلها.. فطبائعهم عوجاء وأفعالهم غير مستقيمة!
في طفولته التي شهدتها (العوجة) كان صدام حسين حزيناً وانطوائياً.. وكان طبيعياً بعد ذلك أن يقول هو نفسه عن نفسه: لم أشعر أنني طفل ابداً. كنت أميل إلى الانزواء وغالباً ما أتجنب مرافقة الآخرين.. وفي الوقت الذي يمكن أن تعتقد فيه أن نشأة صدام خلقت منه شخصاً معقداً فإنه كان يرى أن الظروف التي نشأ فيها منحته الصبر والتحمل والاعتماد على الذات.
كان صدام حسين فقيراً للغاية.. عاش حياة يسيطر عليها الشقاء.. بدأ منذ صغره يعمل حتى ينفق على نفسه وعلى أمه.. فقد كان يبيع البطيخ لركاب القطار الذي كانت تكريت إحدى محطاته في طريقه من الموصل إلى بغداد وعندما كان يفرغ من بيع البطيخ.. كان يمسك بعصا حديدية يطرد بها الكلاب الضالة عن بيوت الأغنياء بمقابل ثمن زهيد للغاية..
قبل أن يكمل صدام حسين عامه العاشر انتقل إلى بيت خاله خير الله طلفاح.. ويبدو أنه لم يكن رجلاً عادياً.. وإذا كنا نريد أن نعيد الحق لأهله.. فإن خير الله طلفاح هذا كانت له بصمات ضخمة للغاية على شخصية صدام حسين الدموية.. كما أنه فتح له الطريق واسعاً في اتجاه السلطة، كانت فلسفة خير الله تقوم على الله خلق ثلاثة أشياء لا يمكن التعامل معها اليهود والفرس والذباب.. زرع خير الله الكراهية في نفس صدام فاستجاب لكل متطلباتها.. تأثر صدام بشدة بأفكار خاله خير الله السياسية وبمفرداته المبسطة المبنية على إطلاق شعارات براقة مثل معاداة الاستعمار وتبني روح قومية عربية تدعو إلى التجدد والتغيير.
كان خير الله يتمتع بعلاقات ضخمة وضعت قدمي صدام حسين على باب حزب البعث، كان الحزب وقتها وتحديداً في عام 1956 يدعو إلى القومية العربية ومعاداة الاستعمار.. توحدت الأهواء وفي يوم وليلة أصبح صدام حسين أحد أبناء الحزب الأقوياء.. كان الحزب يخطط لاغتيال عبد الكريم قاسم ووضعت المهمة على كتف مجموعة من الحزب على رأسها صدام حسين.. لم يكن وقتها قد تعدى الثانية والعشرين من عمره.. لكنه كان الأكثر جرأة وصلابة وشجاعة واقتحاماً.
في شارع الرشيد ببغداد كان يمر موكب قاسم فاعترضه القتلة وأمطروا سيارته بوابل من الرصاص، ورغم أن المحاولة فشلت فإن صدام حسين بعد ذلك أصر على أن يصورها كاملة تصويراً سينمائياً ليحتفظ بها في أرشيفه.. لم تفشل عملية الاغتيال فقط ولكنها تركت علامة على ساق صدام حيث أصيب خلالها بطلق ناري كان يفتخر به ويعتبره علامة على نضاله.. وعندما أخرج توفيق صالح فيلماً صور فيه السيرة الذاتية لصدام حسين وكان اسمه (الليالي الطويلة) وضع مشهداً طويلاً في الفيلم يصور من خلاله عملية إخراج الرصاصة من قدمه.. ولأن توفيق صالح رغم تورطه في إخراج الفيلم.. فإنه أصر أن عمله متكاملاً.. فجعل الممثل الذي يقوم بأداء دور صدام حسين يصرخ من شدة الألم، اعترض بعض منافقي صدام على هذا المشهد.. فالقائد لا يتألم.. ولا يصرخ.. ولا يليق أن يراه شعبه في موقف ضعف.. وأصروا على أن يبدو صدام حسين طبيعياً هادئاً أثناء إخراج الرصاصة من قدمه.. استولى الخوف على توفيق صالح فهو يعرف ماذا يمكن أن يحدث له إذا خالف أعضاء حزب البعث.. لكن صدام حسين نفسه أنقذه من هذه الورطة عندما أقر المشهد كاملاً وكما تم تصويره بالضبط.
كانت مشاركة صدام حسين في اغتيال عبد الكريم قاسم نقطة فاصلة في تاريخه.. فقد وضعته ضمن قائمة المناضلين.. وأصبحت حياته كلها فصلاً طويلاً من الصراع على السلطة، فر صدام حسين إلى بلدته تكريت ليختفي فيها عن الأنظار.. ويبدو أن مسقط رأسه كان دائماً هو الملجأ الآمن له.. فقد هرب إليها أيضاً بعد أن سقطت بغداد في 9 أبريل.. ظل بها لعدة شهور.. لم تكن مشاركة صدام حسين في اغتيال عبد الكريم قاسم هي المرة الأولى التي يقدم فيها صدام حسين على القتل.. فقد أتهم بقتل زوج أمه الذي كان يهينه ويعذبه ويذله.. وقد اعتقل وقضى في السجن ستة أشهر بين عامي 1958 و1959 بسبب اغتياله لأحد رجال السلطة في تكريت.. لكن في النهاية أفرج عنه ليجد نفسه وجهاً لوجه أمام عبد الكريم قاسم.
ففي عام 1958 حدث تغيير سياسي مهم في العراق تمثل في نجاح مجموعة من ضباط الجيش غير البعثيين بقيادة عبد الكريم قاسم في الإطاحة بالملك فيصل الثاني وتولى الحكم، فشل صدام البعثي في الإطاحة بعبد الكريم قاسم الذي كان يضطهد رجال البعث.. فهرب صدام إلى سوريا ومنها إلى مصر.. وقضى بها عدة سنوات حتى عام 1963.. عندما خرج منها مطروداً بعد تخطيطه لاغتيال جمال عبد الناصر.. في هذا العام نجح حزب البعث في السيطرة على الحكم والإطاحة بعبد الكريم قاسم وأصبح عبد السلام عارف رئيساً للعراق.. لكن سرعان ما دب الخلاف بين الحزب وبين عارف.. ويبدو أنه كان الأقوى..فقد اعتقل معظم قادة حزب البعث ورمى بهم في السجن وكان من بينهم صدام حسين.. الذي نجح في الهرب من السجن.. ولما كان العراق لم يسعه في هذا الوقت فقد سافر إلى سوريا.
في دمشق وكان ذلك عام 1959 التقى صدام حسين بميشيل عفلق مؤسس حزب البعث، دارت بينهما حوارات طويلة.. ووضعا أمامهما الاضطرابات والانشقاقات التي تحدث في الحزب بالعراق، ولم يعد إلى بلده إلا بعد أن حقق عدة مكاسب سياسية كان منها تعيينه عضواً في القيادة القومية لحزب البعث وتوثيق صلته بقيادة الحزب في سوريا، قبل أن يرحل صدام من دمشق رفض نصيحة قيادات الحزب السوري للبقاء في دمشق هرباً من بطش عبد السلام عارف.. الذي اكتشف محاولة للإطاحة به كان يدبرها الحزب.. وعندما عاد إلى العراق تم إلقاء القبض عليه ودخل السجن ليبقى فترة طويلة في زنزانة منفردة في مديرية الأمن ببغداد وقد تعرض فيها لتعذيب رهيب.
كان لابد أن يلقى مكافأة من الحزب على صموده الرائع.. ولذلك قررت قيادة الحزب عام 1966 انتخابه ليكون أمين سر القيادة القطرية لحزب البعث وهو لا يزال في سجنه، استطاع صدام بعد هذا التقدير بمساعدة بعض رفاقه أن يضع خطة للهروب من السجن أثناء خروجه لإحدى جلسات محاكمته، نجحت الخطة بالفعل واستطاع الفرار من قيود اعتقاله، وبعد أن صافح حريته بدأ في ممارسة نشاطه حيث أنشأ نظاماً أمنياً داخل الحزب عرف باسم (جهاز حنين).. كان ينفذ العمليات الخاصة التي كان يخطط لها الحزب.. كما تولى صدام حسين كذلك الإشراف على التنظيم الفلاحي والنسائي.
في هذا الوقت كان عبد السلام عارف قد لقى مصرعه في حادث سقوط طائرته العمودية.. وكان لصدام حسين دور بارز ومهم في التخطيط والإشراف على هذه العملية.. وبدلاً من أن يستولي حزب البعث على السلطة.. أصبح عبد الرحمن عارف شقيق عبد السلام رئيساً للعراق، فلم يضيع الحزب وقته حيث خطط للإطاحة بعبد الرحمن الذي كان أضعف كثيراً من أخيه.. وبالفعل نفذ الحزب خطته لإبعاد عبد الرحمن عن السلطة.. وكان صدام حسين بنفسه على رأس المجموعة المسلحة التي اقتحمت القصر الجمهوري.
لم يكن الوقت قد حان بعد ليتولى صدام حسين الحكم في العراق.. فقد كان هناك أحمد حسن البكر الذي أصبح رئيساً للعراق.. ومكافأة لجهود صدام حسين تم تعيينه نائباً لرئيس قيادة الثورة بداية من نوفمبر 1969 وكان يبلغ من العمر وقتها اثنين وثلاثين عاماً.. هذا غير مسؤوليته عن الأمن الداخلي في العراق، ظل صدام حسين لمدة عشر سنوات في هذا المنصب لعب خلالها عدة أدوار وضعته وحده في دائرة الضوء منها..
قام بتعيين عدداً كبيراً من أقاربه وأفراد عشيرته في مناصب مهمة في الحكومة العراقية وبصفته نائباً ومسؤولاً عن الأمن الداخلي بنى جهازاً أمنياً ضخماً وكانت له عيون في كل مكان بدوائر السلطة في العراق.
لعب دوراً مهماً في تأميم صناعة النفط العراقي عام 1972 وفي الوقت نفسه بدأ مشروعاً ضخماً على مستوى العراق كلها لتعليم القراءة والكتابة.. ولإنجاح المشروع مارس سطوته وقسوته حيث فرض عقوبة تصل إلى ثلاث سنوات سجناً لمن لا يحضر دروس محو الأمية. وكان آثار هذا المشروع أن تعلم آلاف الرجال والنساء والأطفال القراءة والكتابة.
في عام 1975 وقع صدام حسين بصفته نائباً لرئيس الجمهورية وشاه إيران اتفاقية لإعادة ترسيم الحدود في منطقة شط العرب وقسمت بالفعل مناصفة بين ايران والعراق مقابل أن توقف إيران دعمها للمعارضة الكردية في الشمال.
بعد هذا التاريخ السياسي المحمل بالاغتيالات وصل صدام حسين إلى رئاسة العراق في 16 يوليو 1979 ... كان أحمد حسن البكر قد قدم استقالته وقيل وقتها إنها بسبب كبر سنه وضعفه وتردي حالته الصحية.. ولذلك كان طبيعياً أان تنتقل السلطة بهدوء شديد منه إلى نائبه.. فانتخب صدام رئيساً للجمهورية وأميناً عاماً لحزب البعث العراقي وقائداً لمجلس قيادة الثورة.. وظل قابضاً ومسيطراً على كل شيء في العراق حتى اختفى من على وجه الأرض في 9 أبريل 2003.. ما يقرب من خمسة وعشرين عاماً.. ظل فيها صدام حسين هو الرئيس الأوحد.. لا يعرف العراقيون غيره.. ولم يسمح هو لهم أن يعرفوا غيره.
بعد أن تولى الحكم توالت الزوابع على العراق خارجياً وداخلياً.. بعد أيام قليلة من توليه السلطة وفي ظل حاجته الماسة لتعزيز سلطاته وتقوية أركان حكمه الجديد وللقضاء على الأصوات التي حاولت أن تظهر وكأنها معارضة له.. أعلن صدام عن اكتشاف محاولة انقلاب عليه يدبرها بعض قادة حزب البعث في العراق بدعم من سوريا.. ألقى القبض على المتآمرين عليه.. وحاكمهم محاكمة عسكرية ولم يكتف بسجنهم .. بل أمر بإعدام 17 من قادة وكوادر الحزب.. وكأنه كان يسير على المثل الشعبي (بذبح القطة ليلة الدخلة).. لم يذبح صدام قطة لشعبه ولكنه ذبح لهم 17 من قادة حزبه.. وأطاح بـ 450 من قادة الجيش حتى تكون الحركة ضخمة وعنيفة وتؤتى ثمارها.
بعد ذلك لم يهدأ مطلقاً.. دخل بالعراق في حروب متتالية.. وبعد أقل من عام من جلوسه على عرش العراق.. شن حرباً على إيران استمرت ثمانية أعوام.. كان الإمام الخميني قد قاد ثورة شعبية نجحت في الإطاحة بحكم الشاه في إيران وإعلان الجمهورية الإسلامية، ووضع الغرب وخاصة أمريكا أيديهم على قلوبهم.. فما فعله الخميني في إيران يمكن أن يمتد إلى دول أخرى مجاورة.. وساعتها ستجد أمامها وحشاً كاسراً لا يهدد مصالحها فقط ولكن يقضي عليها.. لم يجدوا أمامهم سوى صدام حسين فدفعوا به في ساحة المعركة.. واستغلوا أن صدام نفسه كان قد أبدى انزعاجه الشديد من احتمال امتداد تأثير ثورة الخميني إلى داخل الأراضي العراقية خاصة وسط الشيعة والأكراد.
أخذ صدام حسين القرار.. دخل الحرب ضد إيران.. ألغى الاتفاقية الخاصة بشط العرب، وبعد ثماني سنوات من الدعم والإمداد بالسلاح والتأييد لصدام حسين كانت النتيجة هي خسارة أكثر من مليون شخص من الجانبين.. ووصلت الخسائر المباشرة وغير المباشرة لحرب تافهة إلى عدة مليارات من الدولارات.. بلغت في بعض التقديرات غير الرسمية إلى 800 مليار دولار، هذا غير ما خلفته وراءها من مئات الآلاف من الأسر التي فقدت رجالها.. ومئات الآلاف من الأسرى والجرحى والمعاقين إضافة إلى اقتصاد منهك ودمار شامل غطى كل مكان في البلدين.
عامان فقط قضاهما صدام حسين دون حرب.. لكنه وجد أمامه مليون جندي عراقي مدربين ومستعدين لخوض أعتى الحروب.. فكان أن دفعهم إلى حرب جديدة.. بعد أن هدأت عاصفته مع إيران، بدأت خلافاته تتصاعد مع الكويت على خلفية ديون مالية كانت العراق قد حصلت عليها من الجارة الصغيرة، ثم وهذا هو الأهم كانت هناك خلافات حول استغلال حقول البترول المشتركة التي تقع على حدود البلدين.. اتهمت العراق الكويت بتعويم سوق النفط.. وتدني اسعاره، حاولت الكثير من الدول العربية ألا يصل الخلاف إلى حرب خاصة وهم يعرفون صدام وطموحه.. لكن كل المحاولات فشلت.. أغراه جيشه وإشارة كانت خفية من الولايات المتحدة الأمريكية بأنه يمكن أن يعبر لأنها لن تتدخل مهما حدث.
ابتلع صدام حسين الطعم كاملاً.. وفي صباح 2 اغسطس 1990 اعلن العراق أنه عين حاكماً عسكرياً على الكويت باعتباره المحافظة التاسعة عشرة من محافظات العراق.. تحركت أمريكا.. فقد أوقعت الديكتاتور في الفخ.. أقنعته أن الكويت تسطو على بتروله قدمت له الوثائق الكاملة التي تؤكد ذلك، وقالت له أذهب.. ولما ذهب تحالفت أمريكا ضده.. فقد كان هدفها تكسيره ثم السيطرة على المنطقة بكاملها.. رفض النصيحة بأن ينسحب وصمم على أن يواصل حماقاته.. لم تستغرق عاصفة الصحراء التي أعلنتها أمريكا على العراق طويلاً.. فقد أجبر الجيش العراقي على الانسحاب تاركاً وراءه دماراً شاملاً في الكويت.. كانوا قد دمروا محطات الكهرباء والمياه وأشعلوا النيران في آبار النفط ونقلوا الأرشيف الوطني الكويتي إلى العراق.. وهو الأرشيف الذي لابد أنه احترق عندما احترقت دار الوثائق العراقية بعد أن سقطت بغداد.
كان لابد أن يعاقب صدام حسين ليس على غزوه للكويت فقط.. ولكن على تحديه لأمريكا وتعديه الخطوط الحمراء التي وضعتها له.. كان مجلس الأمن عقب اجتياح الكويت قد فرض على صدام عدداً من القرارات منها انسحابه الفوري دون قيد أو شرط وإعادة الممتلكات الكويتية وفي النهاية.. تم فرض حصار اقتصادي كامل على العراق.. مع تدمير ترسانة العراق من أسلحة الدمار الشامل وضمان عدم تطويرها في المستقبل.. وقبل أن تنتهي قائمة القرارات أضافت الولايات المتحدة إلى هذه الإجراءات جعل منطقتين في الشمال ذات الأغلبية الكردية والجنوب ذات الكثافة الشيعية منطقتي حظر جوي.
عاد صدام حسين إلى العراق ورغم هزيمته الساحقة ووصول القوات الأمريكية إلى عمق العراق.. ليهيء للعراقيين أنه انتصر.. فقد خاض (أم المعارك) التي في رأيه أذلت رقاب الأمريكان.. وقد ظل يحتفل بذكرى أم المعارك كل عام حتى تحولت إلى أم المخابئ، وبدلاً من أن يعيد صدام حساباته شن حرباً عامة على معارضيه.. ففي مارس 1991 عمت مناطق كثيرة من العراق انتفاضات شعبية تعترض على ما يحدث.. تعامل معها بمنتهى القسوة.. وفتحت المقابر الجماعية لتستقبل أعداداً ضخمة من العراقيين المعارضين.. ولم يتورع صدام حسين عن استخدام الأسلحة الكيماوية ضد خصومه.. هذه الأسلحة التي لم تظهر في حروبه مع الأمريكان مطلقاً.. لكنها ظهرت فقط على شعبه..
لم يخضع صدام للأمريكان.. عاندهم.. فقرر مجلس الأمن الدولي تشكيل لجان للتفيش عن أسلحة العراق، كلف( ريتشارد بتلر) برئاسة اللجنة الأولى و(هانز بليكس) بالثانية، بدأ بتلر عمله عام 1994 وانتهى من مهمته عام 1998.. واستطاعت فرق التفتيش التابعة له تدمير العديد من أسلحة العراق وتفتيش العديد من الأماكن الخاصة جداً.. والتي كان صدام يصمم على عدم إتاحتها لهم. لكنه كان يتراجع في النهاية ويفتح الأبواب على مصراعيها.. ورغم التعاون الكبير الذي أبداه العراقيون مع لجنة التفتيش إلا أن بتلر اتهم العراق بعدم التعاون مع المفتيش فقامت الطائرات الأمريكية والبريطانية بقصف مراكز الاتصال العراقية والأهداف الحكومية والعسكرية لمدة أربعة أيام متواصلة وأعلنت الدولتان وقتها أن الهدف النهائي لهما من الآن فصاعداً هو الإطاحة الكاملة بصدام حسين من رئاسة العراق.
لم تهدأ المناوشات بين أمريكا والعراق.. حتى جاءت الفرصة كاملة لبوش الأبن. أهينت أمريكا إهانة كاملة في هجمات 11 سبتمبر.. ورغم أن أمريكا اتهمت أسامة بن لادن وتنظيم القاعدة بارتكاب الكارثة.. إلا أن بوش قرر أن يغتنم الفرصة كاملة ليصفي من خلالها كل خصومه.. وفي واشنطن أعلن أن العراق هو أحد دول محور الشر الداعمة للجماعات الإرهابية ولابد من مقاومته ضمن ما يعرف بالحرب على الإرهاب.. وقال بوش بعد استشارة رجال إدارته.. لابد من توجيه ضربات استباقية للعراق تغير نظامه.. لم يضع بوش وقتاً وبعد أقل من عام من هجمات سبتمبر وبعد أن انتهى من افغانستان أعلن أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة أن نظام صدام حسين يشكل تهديداً مباشراً لأمريكا وذلك بسبب تاريخه الحافل في مهاجمة جيرانه واستخدامه للأسلحة الكيميائية ومساندته للجماعات الإرهابية وتحديه السافر والمستمر لقرارات مجلس الأمن.
وفي 20 مارس 2003 كانت الأقدار قد قالت كلمتها.. غزت أمريكا وبريطانيا العراق.. ولم تتراجعا الا بعد ان سقطت بغداد في أيديهم في 9 أبريل، اختفى النظام العراقي كله.. وكأن الأرض انشقت وابتلعتهم جميعاً.. حتى ظهر أن الجميع فروا كالفئران المذعورة.. ليختفوا في مخابئ ومنازل مهدمة.. وقد تركوا العراق غنيمة مستباحة للصوص الأوطان الجدد.
هذا التحطيم الخارجي للعراق كان على طرفه الثاني تحطيم داخلي ضخم لكل من كان يرفع صوته بالمعارضة للنظام العراقي.. ولشخص صدام حسين والشهادات على ذلك كثيرة وفوق أن تحصى فمنذ وصل للحكم لم يكف نظامه عن الإعدام والتعذيب والسجن والاغتصاب والإرهاب والقمع.. أسكت أصوات الجميع.. ولم يكن هناك إلا صوته.. وحتى يضفي على نظامه شيئاً من المهابة والأهمية.. فقد استضاف طوال سنوات حكمه عدداً من العلماء والمثقفين.. ليعودوا وقد امتلأت جيوبهم بالمال وعقولهم بأوهام رددوها طويلاً عن صدام حسين وديمقراطيته وثقافته ونهضته بالعراق.. وهؤلاء يشكلون الآن حزباً من الأرامل.. خلا بهم صدام وتركهم بلا سند.. لا يصدقهم أحد.. ولا يريد أحد أن يسمع كلامهم من الأساس.
لقد ابتكر صدام حسين نظاماً للانتقام من معارضيه كان يقوم على العقاب الجماعي.. حيث كاني يعذب عائلات أو جماعات كاملة بسبب أعمال يمكن أن يكون قام بها أحد المعارضين من بينها.. وإمعاناً في الإذلال كان النظام يغتصب النساء ويلتقط لهن أفلاماً عارية تصور عمليات الاغتصاب لابتزاز عائلاتهن، كانت تقطع رءوس مواطنين على مرأى شهود ويفرض على عائلاتهم عرض رؤوس المقتولين كتحذير لغيرهم من الذين قد يحاولون الخروج على النظام.. لقد ابتكر صدام حسين خلال فترة حكمه طريقة جديدة لتعبير الشعب عن رأيه.. وهي تخييره بين البقاء صامتاً أو تحمل نتائج عدم السكوت.
كان صدام حسين نفذ الاعدام في خصومه على طريقته الخاصة... ابتكر لذلك أشكالاً عديدة تفوق الخيال، كما يرغم جميع الذكور من سكان قرية ما على الوقوف صفاً واحداً ثم يطلق عليهم النار بصورة منتظمة واحداً تلو الآخر إلى أن يتم القضاء عليهم جميعاً.. ورغم هذه الطريقة إلا أن نظام صدام كان يفضل أكثر أساليب القتل التي تستغرق وقتاً أطول وتنزل عذاباً شديداً بالضحايا وبأفراد عائلاتهم، فقد قام نظام صدام بتسميم عدد كبير من السجناء السياسيين من خلال اعطائهم سم (الثاليوم) بطيء المفعول، وهو سم ينتشر في الجسم ببطء ويحتاج إلى بعضة أيام ليؤدي إلى الموت.. وكان لابد أن يصل الإبداع إلى مداه الأخير.. فعزز صدام حسين أساليب القتل لتصل إلى درجة الكمال.. وقد ظهر ذلك في استخدامه إياها في إبادته للأكراد في شمال العراق والقيادات الدينية الشيعية بحجة أنهم ليسوا مخلصين للحكومة.. وامعاناً في الانتقام كان صدام حسين يدفن جثث معارضيه في قبور دون أسماء كي لا يتمكن أفراد عائلاتهم من زيارتها.
القتل لم يكن وحده سيد الموقف في التعامل مع معارضي النظام العراقي.. كان التعذيب أيضاً لا ينتهي وخلال عامي 1994و 1995 فقط قطعت أجزاء من آذان أعداد كبيرة من الجنود بسبب الفرار من الجندية وقامت الحكومة بوشم اشارة(×) بالحديد على جبين هؤلاء الجنود كي لا يعتقد المواطنون العراقيون أنهم ضحايا للحرب، وقد تم تهديد الأطباء الذين رفضوا تنفيذ هذه العمليات بالانتقام وجرى بالفعل إيقاف وسجن العديدين منهم، كما أصدرت السلطات العراقية قانوناً عام 1994 جعلت بموجبه قيام الأطباء الجراحين بعمليات تجميل أو تصحيح لضحايا الوشم والبتر أمراً مخالفاً للقانون وفي عام 2000 صدر قانون عراقي أجاز للحكومة قطع ألسنة المواطنين الذين ينتقدون صدام حسين وحكومته.. أي أن التعذيب كان بالقانون.. ولذلك تعددت صوره التي كان منها: إجراء تجارب طبية، الضرب المبرح، الصلب، طرق الأظافر لإدخالها في الأصابع والأيدي، بتر القضيب أو الثديين بواسطة سكين كهربائية، رش مبيدات الحشرات على عين الضحية، الوشم بواسطة مكواة ساخنة، اغتصاب النساء مع إجبار أزواجهن على مشاهدة عملية الاغتصاب كاملة، تسمير اللسان على لوح خشبي، قلع الأسنان بكماشة.. ثم استعمال النحل والعقارب للدغ أطفال عراة أمام أنظار أهاليهم.
ولم ينكر صدام حسين أن نظامه كان يعذب النساء بوحشية شديدة، وليس أدل على ذلك مما نشرته جريدة بابل التي كان يملكها عدي صدام حسين.. ففي عددها الصادر في 13 فبراير 2001 جاء هذا الخبر: بحجة مكافحة البغاء قامت وحدات من فدائي صدام وهي المنظمة شبه العسكرية التي يقودها عدي صدام حسين بقطع رؤوس 200 امرأة في كافة أنحاء البلاد، وقذفوا بالرؤوس المقطوعة أمام أبواب منازل عائلاتهن، كانت العديدات من الضحايا نساء مهنيات بريئات ومن ضمنهن بعض النساء المشتبه بمعارضتهن للنظام، وقد نفذت هذه الأعمال البربرية في غياب كامل لأي إجراءات قضائية صحيحة حتى استناداً إلى أحكام القانون الجنائي العراقي.
كل أمرأة في العراق كان يمكن أن تواجه قطع الرأس إذا وجهت اليها تهمة ممارسة البغاء، والاغتصاب إذا كانت قريبة لشخص يعتقد النظام أنه غير مخلص له، والتعذيب إذا كانت قريبة لأحد المناهضين لنظام الحكم.. وتوضح التقارير التي خرجت من العراق عن حالة حقوق الإنسان بها أنه طلب من عائلات عديدة أن تعرض رأس الضحية المقطوع على السياج الخارجي لمنزلها لعدة أيام، وقد استخدمت هذه الممارسات الهمجية ضد نساء من جميع المهن، من ذلك أنه تم إلقاء القبض على طبيبة توليد لانتقادها الفساد السائد في دوائر الخدمات الصحية، وقطعت رأسها بتهمة ممارسة البغاء، كما قطعت رأس امرأة أخرى كانت متزوجة ولها ثلاثة أولاد دون توجيه تهمة إليها أو محاكمتها، وكل ذلك لأن زوجها كان مطلوباً من سلطات الأمن العراقية بسبب الاشتباه في اشتراكه في نشاطات مسلحة ضد النظام، تمكن الزوج من الفرار من البلاد ولكن بعض فدائي صدام ذهبوا إلى منزله فوجدوا زوجته وأولاده وحماته، اقتادوا الزوجة إلى الشارع وأمسك رجلان بذراعيها في حين شد رجل ثالث رأسها من الخلف وقطعها أمام سكان المنطقة التي تعيش فيها.. وبعد أن تمت الجريمة نقل رجال الأمن الجثة والرأس في كيس من البلاستيك وأخذوا الأولاد والحماة معهم!
لقد حاول صدام حسين أن يتاجر بصور الأطفال الضحايا.. لكنه نسى أنه هو قاتلهم.. فبعد حرب الخليج الثانية ورغم الحصار الذي فرض على العراق بنى صدام 48 قصراً لنفسه، وفي الوقت نفسه كانت الأدوية التي تصل إلى أطفال العراق يعاد تصديرها إلى خارج البلاد مرة أخرى.. بل إن الأدوية والتجهيزات الطبية التي كان الأطفال يحتاجونها كانت تتأخر بشدة بسبب الرشاوى التي كان يطلبها أفراد النظام العراقي من مورديها، وقد أدى غياب الرعاية الصحية في العراق إلى عودة ظهور أمراض كان قد تم القضاء عليها بالكامل قبل عدة سنوات ومن بينها الكوليرا وشلل الاطفال.
لم يكن النظام العراقي يتورع كذلك عن أخذ الأطفال كرهائن لإجبار عائلاتهم على الانتقال للعيش في مناطق أخرى بهدف زيادة الغالبية العربية السنية في مناطق معينة، كما كان نظام صدام يرغم الأولاد بين سن العاشرة والخامسة عشر على الالتحاق بدورات تدريبية لمدة ثلاثة أسابيع للتدريب على استعمال السلاح القتال بالسلاح الأبيض والهبوط من الطائرات وأساليب قتال المشاة مما كان يعرضهم إلى ضغوط جسدية ونفسية هائلة.. وكانت العائلات التي ترفض إرسال أبنائها إلى مثل هذه الدورات تلقي تهديدات قاسية تصل إلى حد حرمانها من الإعاشة، وفي ظل نظام صدام حسين أصبح كل طفل يتعرض لتغذية غير كافية أو نقص في الأدوية لأن صدام حسين يحدد المستوردات ويوزع الكثير من هذه المواد على أصدقائه وحلفائه، ويتعرض للاختطاف اذا كان غير عربي ويعيش في منطقة منتجة للنفط، ومطلوب منه أن يبلغ ما يقوله والده حول نظام صدام حسين.
الجميع كانوا يعيشون حالة من الخوف إذن.. كان الجميع يعرفون من هو صدام حسين.. لكن الشعوب العربية تعرضت إلى عملية تزييف وعي كاملة.. إن المعلومات التي تؤكد ديكتاتورية وظلم وقسوة ولصوصية صدام حسين لم تخرج للنور الآن.. لكنها موجودة منذ البداية.. حجبت لمصالح أصحابها.. الذين حصلوا على كل ما أرادوا من خزينة حاكم العراق.
لقد كان صدام طوال الوقت خارج العراق وداخلها قاتلاً.. كان نذلاً في معاركه يضربهم في نقاط ضعفهم مباشرة... وقد ترسخ مبدأ الإمساك بنقاط ضعف الخصم في عقل صدام حسين مبكراً للغاية، سرى هذا المبدأ في سلوكه مع كافة أعوانه ثم عممه ليصبح سلاحاً يفتك بكل العراقيين، ثم سلوكاً لقادة البعث.. ومن بين ما اشتهر عن صدام قوله: إنني أعرف كل شيء عن كل واحد فيكم وعندي براهين ووثائق عنكم ونضعكم دائماً تحت رقابة دقيقة، كان يقول ذلك لأعوانه.. فما بالك بما كان يفعله مع خصومه.
لقد طور صدام هذا السلاح ليتحول من مجرد معرفة نقاط الضعف عند الخصم إلى تلفيق الأدلة ضد خصومه ثم عرض تلك الأدلة على حاشيته أو أعضاء الحزب قبل الانقضاض على الخصم الذي يريد الإطاحة به، والغريب أن صدام حسين شرب من نفس الكأس، فقد استخدم كولين باول نفس المبدأ في حصار صدام.. عندما عرض أدلة مهلهلة عن مخاطر الأسلحة العراقية أثناء جلسة مجلس الأمن قبل الحرب في حين عجز عن عرض الأدلة الدامغة او الإمساك ببعضها.
كل ذلك انتهى الآن في العراق.. لكن رعونة صدام وحماقاته جعلت العراقيين يستبدلون ديكتاتوراً بدائياً بديكتاتور على الطريقة التكنولوجية اشد بطشاً وفتكاً وتدميراً.. لقد حزنت الناس في الشارع على اصطياد صدام حسين بهذه الطريقة.. ليس لأنهم يحبون صدام حسين أو كانوا ينتظرون منه شيئاً بعد أن فر هارباً.. ولكن لأن القبض عليه كان انتصاراً هائلاً لأمريكا.. عبر عنه الحاكم الأمريكي للعراق بريمر بجملة مقتضبة هي (سيداتي وسادتي.. اصطدناه).. بمنتهى الاستهانة والاستخفاف انتهى تاريخ صدام حسين بعد أن عاد بنا مائة عام إلى الوراء.
وكما بدأ انتهى.. بدأ فقيراً معدماً لا يجد قوته يومه.. وانتهى بعد أن صودرت كل أمواله وجرد من كل ممتلكاته.. بدأ في بيت حقير في قرية العوجة يتكون من غرفة واحدة ذات أرضية طينية لا توجد بها المستلزمات الأساسية مثل الماء والكهرباء.. وانتهى هارباً في بيت بسيط للغاية.. وحجرة ضيقة عليه كان يهرب منها إلى حفرة كلما جاء الأمريكان إلى تكريت.. كل من حوله باعوه.. وخذلوه.. حتى طارق عزيز نائبه وصديقه بعد أن اعتقلوا زعيمه أرسل من محبسه ليغير اسم ابنه الأصغر من صدام إلى زهير.. الكل باعه.. لكنه هو نفسه قد باع الجميع ليشتري نفسه.. لكن حتى هذه لم يربحها صدام حسين.. ومشهد النهاية يفضح ذلك كله..
نزوات صدام العاطفية في القاهرة!
في عام 1959 قرر حزب البعث اغتيال عبد الكريم قاسم.. وأوكل الحزب هذه المهمة إلى مجموعة من كوادر الحزب كان من بينهم صدام حسين، وبالفعل أطلقوا النار على موكبه في شارع الرشيد ببغداد في 7 أكتوبر، باءت المحاولة بالفشل وأصيب خلالها صدام بعيار ناري في ساقه، فر بعدها إلى بلدته تكريت خوفاً من بطش الأجهزة الأمنية التابعة لعبد الكريم قاسم، ومنذ هذه اللحظة بدأ نجم صدام يلمع ومكانته تزداد لدى قادة حزب البعث.
لم يكن صدام حسين طريق سوى الهرب خارج العراق، فقد أصبحت حياته مهددة. لجأ في البداية إلى سوريا في رحلة شاقة اكتتفتها المخاطر من كل جانب وأقام بها ثلاثة أشهر.. توجه بعدها إلى مصر في 21 فبراير 1960، وفي القاهرة التحق بالصف الخامس الإعدادي بمدرسة قصير النيل لإكمال دراسته والحصول على شهادة التوجيهية وسكن مع عدد من رفاقه في حي الدقى وارتقى في صفوف القيادة الطلابية لحزب البعث حتى أصبح مسوؤلاً عن الطلاب المنتمين للحزب فرع مصر.
أثناء وجوده في القاهرة أصدرت المحكمة العسكرية العليا الخاصة في بغداد حكماً بالإعدام ليس على صدام حسين نفسه ولكن على مجموعة من أعضاء الحزب الهاربين خارج البلاد لمشاركتهم في محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم.
في القاهرة قضى فترة طويلة من شبابه.. جلس على مقاهي القاهرة، تعرف على أصحابها وروادها.. ومن نوادر ما يحكى أن صدام كان صديقاً لصاحب مقهى في الجيزة.. وكان يستلف منه كلما مر بضائقة مالية.. ولما عاد صدام إلى العراق كان مديوناً لصاحب المقهى.. وبعد أن أصبح رئيساً أرسل لصاحب المقهى مبلغاً كبيراً من المال.. فلم يكن من صاحب المقهى إلا أن قال ساخراً لمن حمل الرسالة: هو الواد صدام لقي شغل.
القصة قد تكون مجرد مزحة.. لكن الذي لم يكن مزاحاً.. هو ما سجله فتحي الديب عن حياة صدام حسين في القاهرة.. وعن محاولته لاغتيال عبد الناصر والسيطرة على الحكم في مصر، وقبل أن ندخل لمعترك حياة صدام في القاهرة. لابد أن يستوقفنا فتحي الديب.. رجل عبد الناصر القوي وبوابته السرية للدخول إلى علاقة عبد الناصر بالثورات العربية، فبعد أقل من شهرين على نجاح ثورة يوليو 1952، كلف (ناصر) فتحي الديب بحماية الثورات وحركات التحرر العربية.. كان هذا هو الهدف.. أما التنفيذ فجاء من خلال تكوين شبكة متماسكة تضم عدداً كبيراً من الطلبة العرب.. وقد تدرب بعضهم سياسياً وعسكرياً في معسكرات خاصة في صحراء مصر الجديدة، في المكان الذي يقع فيه نادي الشمس الآن، على أن يتولى أفراد هذا التنظيم مسؤوليات سياسية ودبلوماسية ووزارية في بلادهم.
كان صدام حسين واحداً من هؤلاء الطلبة.. كان في الثانوية العامة عندما تعرف عليه فتحي الديب، وكما حكي فتحي، فإن صدام كان يعيش في حي العجوزة.. وكان يشتهر بالعنف والقسوة حتى في علاقاته الغرامية العابر، التي كانت نوعية النساء فيها نوعية فقيرة متواضعة لاتزيد في بعض الأحيان على بائعة فجل أو خادمة أو فتاة من الشارع.
علاقات صدام الغرامية في شوارع القاهرة كانت تنتهي دائماً بمشاجرات عنيفة.. حتى أنه نال مزاجه من بائعة فجل.. ورفض أن يعطيها حقها.. ووصل الخلاف إلى الشرطة.. لكن ـ وكما كان يحدث كل مرة ـ وجد صدام من يخرجه من مأزقه الذي وضع نفسه فيه بطمعه في عرق فتاة فقيرة، كان ذلك يتم لأنه (بعثي).. والبعثيون.. كانوا يعتبرون أنفسهم.. فوق الجميع.. حتى لو كانوا لا يقدمون شيئاً للآخرين.
كان صدام حسين مزعجاً بدرجة كبيرة.. فلا يذكر له أحد حسنة واحدة فعلها وهو في القاهرة، حتى فتحي الديب عندما قابلته في لقاء عابر في بيته قبل وفاته بشهور.. قال لي إنه لو كان هناك شيء إيجابي واحد في صدام كنت قلته لك.. لكن حقيقي لا يوجد.. إزعاج صدام ومتاعبه زادت على الحد لدرجة جعلته يغادر القاهرة دون أن يأسف عليه أحد.. ودون أن يسمع كلمة وداع واحدة تعزيه على أيامه التي قضاها بين ناس وشوارع مصر.
مشاغبات صدام كان يمكن أن تمر لو توقفت عند غراميات عابرة... أو مشاجرات تصل إلى أقسام الشرطة، لكن ما يجعلنا نتوقف عند أيام صدام في القاهرة أنه عمل جاهداً على اغتيال عبد الناصر وإزاحته.. ليتولى هو ومن وراءه حزب البعث حكم مصر.
الحكاية تكشفها التفاصيل وتعمقها النمنمات، ففي فبراير 1970 كون صدام خلايا في القاهرة وصل عددها إلى 700 شاب من البعث العراقي يدرسون في الجامعات المصرية، وكان سينضم إليهم 70 قيادة بعثية يأتون من بغداد، كانت كل خلية لا تزيد على 10 أفراد، وكانت خطتهم هي الاستيلاء على المرافق الحيوية وخلق حالة بلبلة.. يتم في نهايتها التخلص من جمال عبد الناصر ومحاكمته وإعدامه.
استطاع فتحي الديب أن يخترق التنظيم من خلال بعض أعضائه، طلب منهم أسماء كل المشتركين في المؤامرة وأماكنهم وتحركاتهم، كان الديب وقتها في ليبيا وعندما عاد ذهب إلى عبد الناصر ليخبره بكل ما لديه من معلومات، لم يصدق ناصر ما سمع وتشكك فيه.. لكن ثقته في فتحي الديب الذي كان وقتها مسؤولاً عن شبكة المخابرات العربية.. جعلته يقتنع بما سمع بل ويتحرك.
عاد فتحي إلى ليبيا فقد كان مكلفاً بحماية الثورة الليبية.. لكنه كان يتابع تحركات تنظيم صدام حسين، بعد أربعة شهور كاملة تلقى الديب مكالمة تليفونية بالشفرة تقول: الأخ ممدوح منتشي ويظهر أنه سيتعشى بعد يومين أو ثلاثة، قفز فتحي الديب من مكانه وهو يصرخ، يا خبر أسود، عاد إلى القاهرة بعد ساعات قليلة، فكلمة العشاء هي كلمة السر التي تعني ساعة الصفر وكان ذلك في شهر يوليو عام 1970.
جلس فتحي الديب مع عبد الناصر ساعتين ونصف الساعة، يشرح له أبعاد المؤامرة، وكيف جند بعض العناصر لمتابعة ما يجري في الخفاء لمدة تقترب من 6 اشهر أمكن خلالها الإلمام بكل أسرار الشبكة والتعرف على قادتها حتى مستوى الخلية وتمويلها وأنواع تسليحها.
أراد فتحي الديب أن ينصرف لكن عبد الناصر استبقاه حتى يلتقي مدير المخابرات العامة حافظ إسماعيل ووزير الداخلية شعراوي جمعة ووزير الإرشاد القومي محمد حسنين هيكل، سأل جمال وزير الداخلية عن معلوماته عن هذا التنظيم فقال له إنه على علم به، فقال له جمال ومتى ستتحركون؟ لم يرد شعراوي، وكانت المفاجأة أن حافظ إسماعيل مدير المخابرات لم يكن يعرف شيئاً عن هذا التنظيم.. ثم تحدث الجميع عن الأمن المستتب في مصر.
شعر جمال بصدمة المسؤولون يحدثونه عن الأمن وهناك مؤامرة لاغتياله والتخلص منه ومن نظامه.. أبدى حافظ إسماعيل وشعراوي جمعة أن يقدما استقالتهما.. لكن جمال قال لهما متجاوزاً كلامهما: إن أخطر ما في أجهزة الأمن أنها لا تتصرف إلا على طريقة رغاوي المياه الغازية.. فهي لا تتحرك إلا متأخرة بعد أن تفور المياه الغازية وتخرج عن السيطرة.
طلب عبد الناصر من أحد مساعديه طبع ثلاث نسخ من تقرير فتحي الديب وأعطاه لحافظ وشعراوي وهيكل وقال لهم: لقد تركنا الحبل على الغارب حتى نجح حزب البعث العراقي في تسريب هذه الأعداد الكبيرة داخل البلاد في غفلة من أجهزة الأمن.. وقبل أن يجيبوه بشيء عاجلهم بقوله: أريد أن أعرف ساعة الصفر بدقة فلست الوحيد الذي سيدفع حياته ثمناً للمؤامرة.. سيذبحونكم قبلي!
تم القبض على قيادات شبكة صدام البعثية بعد أن أخذ شعراوي جميع الأسماء والعناوين من فتحي الديب، وباشرت نيابة أمن الدولة التحقيق مع أعضاء الشبكة.. وعندما أعلن الخبر سارع أهالي الطلبة المقبوض عليهم بالإتصال بالسفير المصري في العراق لطفي متولي.. مستنكرين ما حدث من أبنائهم، طالبين نقل رسالة إلى الرئيس جمال عبد الناصر ليعفو عن أبنائهم.
في يوم 10 سبتمبر من العام نفسه جاءت رسالة السفير المصري في بغداد.. وبعد أن قرأها عبد الناصر أشر عليها قائلاً: أرى الإفراج عنهم بكفالة وترحيلهم إلى العراق دون محاكمة مع الاعلان عن ذلك.. تنتهي بذلك قصة صدام حسين في القاهرة أيام شبابه.
زوجات وعشيقات في حياة صدام
كما كانت حياته العامة المعلنة صاخبة.. كانت حياة صدام حسين الخاصة صاخبة كذلك.. تزوج مرتين الأولى عام 1962 من ابنة خاله ساجدة خير الله طلفاح.. والثانية من سميرة شاهبندر صافي التي لمع اسمها بقوة بعد ساعات من القبض على صدام، وما بين المرأتين كانت لصدام حياة سرية لا يعرف تفاصيلها الا المقربون منه.. لدينا إذن ثلاث حكايات.
الأولى بطلتها ساجدة خير الله ابنة الخال التي عاشت معه أخطر أيام حياته.. تزوجها في ظروف صعبة ومعقدة.. كان وقتها مطاردا من النظام العراقي عقب استيلاء عبد الكريم قاسم على الحكم عام 1958.. ترك صدام العراق إلى القاهرة ومنها أرسل إلى خاله خير الله رسالة يطلب فيها منه الزواج من ابنته ساجدة.
لم تدخل ساجدة بيت صدام حسين لتكون مجرد زوجة.. فبعد سنوات الضيق بدأ نفوذها يتصاعد في بلاط سلطة زوجها.. احتلت موقعاً مما في حزب البعث حافظت عليه من خلال شخصيتها القوية. قبل أن تتزوج صدام حسين كان لها تاريخ طويل في النضال الحزبي وفي دعم الثورة في العراق.. ومما يذكر عنها أنها ضحت بحياتها أكثر من مرة وتحملت المخاطر.. فعندما دخل صدام السجن عام 1964 بعد اتهامه بمحاولة قلب نظام حكم عبد السلام عارف كانت ساجدة تزوره بشكل منتظم وتحمل معها طفلها عدي.. وبعض المنشورات التي كان حزب البعث يصدرها ليطلع عليها.. فعلت ذلك لفترة طويلة دون أن تخاف من افتضاح أمرها.. ودون أن يكشفها أحد..
أنجبت ساجدة لصدام حسين خمسة أبناء هم قصي وعدي وحلا ورنا ورغد التي قالت بعد أن تم القبض على والدها (ليتني ما عشت حتى أرى هذا اليوم)، ومن طرائف ما يذكر عن علاقة صدام حسين وساجدة الخاصة.. أن صدام منذ بدأ العمل السياسي وهو يستخدم البديل.. أو الشبيه ليحل محله في كل شيء.. ففي أوائل السبعينيات اختارت المخابرات العراقية عدداً من الشباب العراقي استقر من بينهم على اثنين كي يكونا صدام حسين إذا اقتضت الضرورة ذلك.
سافر الشابان إلى ألمانيا الشرقية، مكثا هناك قرابة ثلاثة أعوام حيث خضعا للعديد من عمليات التجميل على أيدي اخصائيين من رجال المخابرات في سرية تامة كما تم تدريبهما على استخدام صوت الرئيس العراقي والعناية بأوزانهما وطريقة مشي الرئيس وردود فعله أثناء المفاوضات وطريقة ضحكته وسلامه على الضيوف وتمرير يده على وجهه من آن لآخر.. وهي حركة معروفة عن صدام، هذا غير اتقان لهجته والعبارات التي يستخدمها عادة في أحاديثه حتى أصبحا نسختين طبق الأصل من صدام حسين.
دعيت ساجدة صدام لمقابلة زوجها ذات مرة.. فلما بدأت في الحديث معه شكت فيه وأمرته أن يعري إحدى ساقيه التي كانت قد أصيبت بطلق ناري أثناء محاولة الانقلاب التي تمت ضد حكم عبد الكريم قاسم للتأكد من أنه هو صدام وليس البديل. كان لساجدة تأثير كبير على صدام .. كما كان لها دور مهم في كل ما يحدث داخل إطار الأسرة فعندما هربت ابنتاها وزوجاهما إلى الأردن كثفت اتصالاتها بهما.. وأعدت عدة زيارات سرية قام بها بعض أفراد الأسرة إلى الأردن لإقناعهم بالعودة.. وكانت أبرز هذه الزيارات لشقيقة صدام حسين.. ومنال يونس رئيس الاتحاد النسائي العراقي والصديقة الشخصية لساجدة.
استطاعت ساجدة رغم عناد صدام أن تستدر عطف زوجها للعفو عن ابنتيه.. وأتت بهم إلى بغداد مرة ثانية ولم تكن تدري ما يدور في رأس زوجها وابنها عدي الذي كان قد أقسم أنه سيقتل شقيقته وزوجيهما وأبناءهما.. ولم يتراجع عدي عما في رأسه إلا بعد أن هددت ساجدة بأنها ستقتل نفسها إذا حدث لبنتيها شيء.. لكن ما حدث أن الزوجين أرغما على تطليق بنتي صدام.. وبعد الطلاق بأيام تم قتلهما في مذبحة هائلة.
الحكاية الثانية بطلتها زوجة صدام الثانية سميرة شاهبندر التي يتردد أنها ربما كانت السر في تسليمه للقوات الأمريكية أو على الأقل فهي تمسك في يدها طرف الخيط الذي يمكن أن يقود إلى الحقيقة.
كانت سميرة تنتمي إلى عائلة ارستقراطية، وهذا ما كان يجعلها تنظر بازدراء شديد لأبناء الريف من أمثال صدام حسين.. عندما التقت بصدام في المرة الأولى وقتها كانت متزوجة من طيار عراقي وله منها ولد وبنت، كانت تعاني من مشاكل مع زوجها.. في هذا اليوم كان صدام يقضي نزهة مدرسية مع ابنته الصغرى حلا. وقعت عيناه على سميرة فأحبها من أول نظرة.
بعد أسبوعين من اللقاء الأول ذهب صدام حسين إلى منزل سميرة.. وكان زوجها قد سافر إلى الخارج.. حمل معه باقة ورد وعلبة حلويات.. وعندما سألته سميرة عما يريد.. لم يستطع أن ينطق بشيء فأيقنت وقتها كما قالت في حوارها مع صحيفة (صنداي تايمز) الذي نقلته عنها الشرق الأوسط ـ أن صدام يحبها.
استولى صدام على سميرة إذن وعين زوجها بعد ذلك مديراً للخطوط الجوية العراقية، ولكن الزواج ظل سراً.. كان صدام يحب ساجدة كأم لأبنائه وزوجة.. لكنه أحب سميرة حب العشاق.. تحولت معه إلى غجرية تنتقل معه من مكان إلى مكان.. سميرة كانت تراه ـ وربما لا تزال. أنه كان زوجاً صالحاً، عندما سقطت بغداد في 9 إبريل الماضي زارها وأعطاها 5 ملايين دولار.. بكى أمامها وشكا من الخيانة.. وبعد ذلك ظل يتصل بها هاتفياً ويرسل لها رسائل.. لقد ظهر حوار سميرة شاهبندر في الصنداي تايمز في نفس اليوم الذي أعلن فيه عن اعتقال صدام حسين فهل كان ذلك مصادفة؟!.. الله أعلم.
الحكاية الثالثة.. عن حياة صدام حسين السرية التي كشفت كاملة.. فبعد سقوط بغداد.. اقتحم الجنود الأمريكان قصوره ومخابئه.. فلم يفضحوا فساده السياسي فقط لكنهم فضحوا فساده الجنسي أيضاً.. ليتأكد لنا أن الديكتاتور لا يكتفي بمصادرة القوة والنفوذ والثروات فقط ولكنه يصادر النساء أيضاً يجعلهن في بلاطه جواري.. تصبح المرأة عنده مجرد فتحة يصب فيها رغبته في الاستحواذ واستعراض القوة.
تحت أقدام الأمريكان سقط مخبأ جنسي لصدام حسين في حي المنصور ببغداد، مراسل إذاعة الجيش الأمريكي السير جنت سبينسر كشف تفاصيل ما رآه ووصفه بأنه مذهل للغاية.. المخبأ مكون من مبنيين كل منهما من طابقين، اهتم جنت بالحجرة الرئيسية في المخبأ التي يبدو أنها ألهبت خياله حتى وصل بها إلى حكايات ألف ليلة وليلة، الحجرة الواسعة بها مرايا في السقف وعلى جميع الجدران مع مصابيح بألوان متنوعة.. وأشكال مختلفة، أحد المصابيح على شكل حسناء عارية، اللوحات المعلقة على الحوائط كلها نساء عاريات، لم تنفرد صور النساء بجدران المخبأ.. فهناك في إحدى الطرقات تمثال لرجل ذي عضلات وبشارب كثيف يقاوم تمساحاً ضخماً.. وأغلب الظن أن هذا التمثال يرمز إلى صدام حسين شخصياً.
صور صدام حسين وتماثيله التي انتشرت في كل بيوت وشوارع وميادين العراق لم تمنعه من أن يضع لنفسه صورة في مخبئه الجنسي، ولأن المكان يفرض طبيعة خاصة وساخنة فإن الصورة لابد أن تكون مناسبة، ولذلك علق صدام عدة صور لنفسه في الردهات والغرف والممرات، إحداها مع امرأة عارية ذات ملامح عربية وهو يحتضنها من الخلف، هذه الصورة تأتي متسقة للغاية مع منطق صدام في الصور التي كان العراقيون. قبل أن يضربوها بالحذاء. يعلقونها في المحلات العامة، في السنترالات كانت صورة صدام وهو يتحدث في التليفون، وفي المقاهي صورته وهو يشرب الشاي، وفي الجامعات صورته وهو يقرأ.. فقد كان صدام الرئيس الأوحد والعالم الأوحد والصانع الأوحد والزارع الأوحد.. فلم يكن في العراق غيره!
الجنود الأمريكان وجدوا في أحد المبنيين كمية كبيرة من الأسلحة.. ولا أعرف ما الذي يفعله صدام حسين بالأسلحة في مخبأ جنسي فهل كان يمارس الجنس مع النساء تحت تهديد السلاح مثلاً، الاسلحة كانت عبارة عن بنادق من طراز(سيج ساور) ومسدسات بلجيكية عيار 6, 65 مم، غير صندوق ذخيرة متنوعة.
تفصل بين المبنيين اللذين يتكون منهما المخبأ حديقة كبيرة فيها مشاو للحم من الرخام وبار أرففه مملوءة بزجاجات النبيذ الإيطالي والفرنسي بعضها من مواسم 1984، 1986، 1989 مع زجاجات ويسكي اسكتلندي وشمبانيا وعلب سيجار كوبي، المفاجأة والتي ربما أراد الأمريكان من خلالها تشويه سمعة صدام حسين المشوهة أصلاً، أنه كان يتناول طعامه في مخبئه الجنسي في صحون من بورسلان سرقها جنوده من الكويت أثناء غزوهم لها عام 1990.
كل طابق من طوابق المخبأ يوجد بها عدد من الأسرة المختلفة الاحجام وفي الخزائن الكثيرة المنتشرة في الغرف مجموعة كبيرة من أفلام الفيديو المتنوعة التي تحتوي معظمها على أفلام بورنو، يبدو أن صدام كان يتقوى بها على ممارساته المتعددة مع عشيقاته وبنات الليل اللاتي كان يجلبهن إلى مخبئه.
مخبأ حي المنصور لم يكن وحده الذي كان يستقبل نساء صدام حسين، ففي منطقة أخرى في بغداد يسكنها الكثير من الجنرالات وكبار المسؤولين في حزب البعث، عثر على بيت آخر خصصه صدام لإحدى عشيقاته، البيت مكون من طابقين أحدهما مفتوح على الآخر.. مقاعده عبارة عن أكياس مملوءة بحبات شبيهة بالبازلاء وكانت تستخدم في فترة الستينيات، ويضم هذا المبنى أيضاً حديقة صغيرة ذات ورد بلاستيكي، هناك كذلك مطبخ في الطابق الأرضي وغرفة للخدم.
الطابق الثاني من المبنى له طابع خاص فغرفة التليفزيون مطلية باللون الأزرق الساطع، الوسائد اختلفت ألوانها بين الأصفر والزهري، والحمام به بانيو به دوامات، أما السرير فكان من الحجم الذي يطلق عليه كينج سايز، أي أعرض من السرير المزدوج، كان السرير مثبتاً في الحائط وعلى جانبيه مرايا عديدة وفي ظهره لوحة لأمرأة عارية، لم يعثر الجنود الأمريكان على شيء له قيمة في هذا المبنى، لكنهم وجدوا بيجامات رجالية وزوجين من الملابس الداخلية وقميصين وروب استحمام وكلها كانت ملفوفة بالبلاستيك.
كريس كارتر التي صاحبت فريق البحث العسكري عن قصور صدام حسين ـ وكما نقلت جريدة الشرق الأوسط ـ تعتقد أن هذا البيت خصصه صدام حسين لعشيقته اليونانية الشهيرة (باريسولا لامبوس) وأرجعت ذلك إلى أنها عثرت على صورة تضم صدام حسين وباريسولا في وضع غرامي ساخن على إحدى الكنبات في إحدى حجرات هذا البيت.
اسم باريسولا لم يكن غريباً فهي ـ على حد كلامها ـ كانت عشيقة لصدام حسين فترة طويلة وقد هربت العام الماضي فقط من العراق واستقرت في بيروت وربما تكون مختبئة الآن، فقد فضحت صدام حسين، استضافتها إحدى الشبكات التليفزيونية الأمريكية لتتحدث عن علاقتها بصدام فكانت كريمة زيادة عن اللازم فلم تتحدث عن معرفتها بصدام حسين فقط لكنها تطرقت إلى مزاجه الجنسي وأي نوع من النساء كان يفضل.. وكيف كان يتعامل معهن في الفراش.
لم تشر باريسولا الى استخدام صدام حسين للفايجرا.. لكن محاولة اغتيال فاشلة لصدام هي التي كشفت ذلك ـ والكلام على مسؤولية مجلة (نيوزويك الأمريكية) التي تقول إن المخابرات الأمريكية علمت إن عملاء صدام حسين يقومون بشراء كميات كبيرة للغاية من عقار الفياجرا المنشط جنسياً من عمان لحساب صدام، وقد فكر عملاء cia  في تلغيم المنشط الجنسي الذي كان يشترى لصدام.. لكن الفكرة رفضت من الأساس. ورغم أن المجلة الأمريكية لم تقل لنا كيف يتم تلغيم قرص الفياجرا ولا ما هي اللحظة الحاسمة التي سيتم تفجيره فيها.. لكن ما نعرفه أن صدام حسين كان مقبلاً على عقار الفياجرا.. لعله كان يريد أن يصلح به ما أفسده الدهر.
من المنطقي أن نقول مثلا إن رجلا مثل صدام حسين قضى حياته في الحروب والمؤامرات لم يكن ليجد وقتاً كافيا يتفرج فيه لنزواته الجنسية ونزواته مع عشيقا، وقد يكون هذا صحيحا عندما يكون صدام حسين رجلاً طبيعيا، ففي ملامح شخصيته ترى انكساراً عابرا في علاقته بالنساء تحديداً أمه وزوجته.
نبدأ بالأم.. التي أسهمت في أن يعيش الطفل صدام حياة رهيبة من آلالام والمتاعب.. فقد كانت أمه قاسية للغاية وربما أسهم هو شخصياً في ذلك ربما دون أن يقصد فعندما كانت أمه حاملاً فيه في شهرها الثاني مات أبوه متأثراً بالسرطان وعندما وصلت بالحمل إلى الشهر الثامن مات أبنها البالغ من العمر 12 عاماً متأثراً بالسرطان أيضاً أصبح الطفل القادم بالنسبة للأم طفلا شؤما.. لم تكن تريده حاولت جاهدة أن تجهضه وعندما فشلت في ذلك حاولت الانتحار لكنها فشلت أكثر من مرة، كان طبيعياً ألا تهتم به ولا ترعاه وعندما ولد اعتبرته طفلاً منبوذاً.. تركته لخاله يرعاه ويربيه خلال السنوات الثلاث الأولى من حياته.. تزوجت رجلاً آخر غير أبيه.. سبع سنوات كاملة قضاها صدام مع أمه وزوجها الذي لم يكن بينهما ود متبادل.. ولم يكن زوج الأم يتردد في أن يضرب صدام ويهينه ويرهبه ويطرده من البيت في ظل صمت تام من الأم التي كانت ترى أبنها يهان دون أن تدافع عنه أو حتى تطيب خاطره بعد ذلك.
ترك صدام بيت أمه وهو في العاشرة من عمره وفي نفسه جرح غائر، وتقدير منخفض للغاية لذاته.. كان يحمل أمه السبب في ذلك، فقد ساعدت في سحقه وإهانته، رباه خاله وربما لذلك السبب وحده تزوج من ابنته ساجدة.. وهذه هي المرأة الثانية التي تركت في نفس صدام جرحاً غائراً ليس بقسوتها هذه المرة لكن بقوتها وتسلطها وتدخلها في كل صغيرة وكبيرة في شؤون الحكم.
هذا الانكسار النفسي ظهر بوضوح في علاقات صدام حسين الجنسية العديدة.. فقد أحب أن يرى نساء ذليلات بعد أن عجز عن التعامل مع أمه والسيطرة على زوجته أو الحد من طموحها الجامح.. وكانت الوسيلة سهلة للغاية فالوصفة معلومة للرجل الشرقي العادي فما بالك وهو حاكم ديكتاتور يملك كل شيء في العراق حتى البشر.. لقد قاد النساء إلى فراشه بعد اغرائهن بسطوته ونفوذه وقوته ليشعر فيهن بالضعف الذي لم يره في عيني أمه أو زوجته.. أضف إلى ذلك أيضا أنه وبتركيبة الديكتاتور لم يكن ليحرم نفسه من متعة النساء اللواتي يراهن على اطراف أصابعه ولن يبذل مجهوداً كي يفوز بهن.
لم تكن مخابئ صدام حسين التي أنفق عليها الملايين من أموال الشعب العراقي لحمايته من الأمريكان فقط لكنها كانت لأشباع رغباته ونزواته، كذلك لم يشعر صدام حسين ولو للحظة واحدة بمأساة شعبه.. فقد مارس حياته كاملة.. وزيارة واحدة لأحد قصوره التي ضربت بقنابل الامريكان تكشف جانباً من المتع التي كان يعيش فيها صدام بينما العراقيون جوعى، في القصر الشهير الذي كان يرقد على ضفاف نهر دجلة والذي قصف بقنبلة وزنها 2000رطل كانت تجد حمام سباحة وكراجاً خاصاً يسع أربع سيارات وحدائق واسعة.. القصر نفسه مكون من خمس عمارات فخمة للغاية تزينها صور الرئيس العراقي في أوضاع مختلفة وهو يمتطي حصاناً مرة ويحمل سيفاً مرة أخرى وبتمثال نصفي مرة ثالثة وفي إحدى العمارات هناك بروفيل لصدام على الواجهة الصخرية لها وبالقرب من السلم الرخامي توجد صورة لعائلة صدام حسين في ملابس رسمية.. الحديقة تنتشر فيها تماثيل لأشكال عارية وأسود من السيراميك مطلية بماء الذهب.
الجنود الأمريكان أذهلهم القصر فأصروا على إحصاء ما فيه، وامسك اعصابك فالقصر به 142 مكتباً و 64 حماما و 19 قاعة اجتماعات و 22 مطبخاً وغرف نوم لا حصر لها ولا عدد وبه دار سينما وخمس قاعات كبرى للرقص إحداها في مساحة ملعب كرة كبيرة.
ما يدهشك أن عدي ابن صدام كان له ايضا مخبأه الجنسي ففي أحد قصوره عثر الجنود الامريكان على زجاجات شبمانيا وصور لنساء عاريات وصورة كبيرة لابنتي الرئيس الامريكي جورج بوش جينا وبربارا وهما ترتديان فساتين نسائية تكشف عن أجزاء كبيرة من جسديهما.. ويبدوا أن عدي كان يريد أن ينتقم من بوش على طريقته الخاصة.
صدام في جيب الأمريكان
أنهت أمريكا علاقتها بصدام حسين بصورة درامية لم يكن لأكثر من كتاب السيناريو في العالم موهبة أن يصنعوا تفاصيلها.. الثابت عن الجميع الآن أن صدام كان عدوا ضخماً أرق منام الأمريكان جميعاً.. لكن ما لم تعرف تفاصيله حتى الآن.. هو أن العلاقة بين صدام حسين وأمريكا قصة طويلة للغاية بدأت بقوة للغاية مع الأيام الأولى لحرب صدام على إيران.. ووصلت إلى أفضل صورها أيام رئاسة رونالد ريجان.
وقتها كانت الولايات المتحدة الأمريكية تعتقد أن العراق يمكن أن يلعب دوراً محورياً في تقييد النفوذ الصاعد بقوة لإيران وثورتها الإسلامية.. وهي الثورة التي قضت على حكم شاه إيران الذي كان أقرب الحلفاء لأمريكا في المنطقة.. كما أن أمريكا كانت تخاف بشدة على مصادر النفط، خاصة في السعودية والكويت.. وقد خشيت أن تقود إيران ثورات مشابهة لزعزعة أنظمة الحكم في هذه البلاد فتفقد السيطرة على البترول في هذه الدول.
صدام نفسه كانت له مصالحه الخاصة جداً في مد جسور التعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية.. فقد أخذ منها حائط صد لحمايته من إيران وأفكارها.. فقد كان يخشى على سلطته من امتداد أفكار الثورة الإيرانية في أوساط الأكراد والشيعة.
وتأكيداً لذلك يرى بعض المسؤولين الأمريكيين أن هناك علاقة وثيقة ربطت صدام حسين و الـ cia  بدأت عام 1959 عندما كان صدام في العشرينيات من عمره وتم تجنيده ضمن ستة من زملائه البعثيين وحصل على شقة في شارع الرشيد بالعاصمة العراقية مواجهة لمكتب عبد الكريم قاسم في وزارة الدفاع لرصد تحركاته تمهيداً لاغتياله. وهي العملية الفاشلة التي نفذت في 7 أكتوبر 1959 فر على إثرها صدام إلى القاهرة.
وفي فبراير 1963 تم اغتيال عبد الكريم قاسم صاحب التوجه السوفييتي في انقلاب لحزب البعث. ووفقاً لما يؤكده روجر موريس الذي كان موظفاً بالخارجية الأمريكية وعضوا بفريق مجلس الأمن القومي، فإن المخابرات المركزية كان لها دور كبير في وضع صدام على طريق السلطة بتدبيرها لهذا الانقلاب الدموي. ووفقاً لموريس كان صدام وهو يدرس بالقاهرة يتردد على السفارة الأمريكية بالقاهرة، ويتلقى راتباً منتظماً من الـ cia في إطار تشجيعها لعناصر من حزب البعث شاركوا بعد ذلك بخمس سنوات من انقلاب بقيادة أحمد حسن البكر الذي كان يرعى صدام منذ فترة وسلمه السلطة في عام 1979.
بعد انقلاب 1968 قامت الـ cia  بتزويد الحرس الوطين العراقي بمدافع رشاشة وبقوائم تضم اسماء الشيوعيين الذين ألقي القبض عليهم وإعدامهم تحت إشراف صدام حسين وبعلم الـ cia بل إن جيم كيتشفيلد مسؤول وكالة المخابرات الأمريكية وقتها أكد أن اغتيال قاسم والشيوعيين كان ينظر له على أنه انتصار كبير.
وعندما استولى آية الله الخميني على السلطة في إيران عام 1979، عملت أمريكا على تحويل صدام إلى رجل أمريكا في منطقة الخليج. وأيدته طوال الحرب العراقية ـ الإيرانية التي استمرت في الفترة بين عامي 1980و 1988. فقد قامت الولايات المتحدة بتوفير معلومات سرية لصدام عن مواقع القوات الإيراينة في حرب الخليج الأولى كما شجعت الولايات المتحدة دول الخليج على تقديم الدعم المالي للعراق في هذه الحرب. وأرسل الرئيس الأسبق رونالد ريجان مبعوثاً رئاسياً خاصاً للتحدث إلى صدام حسين. واسم هذا المبعوث هو دونالد رامسفيلد. واستمر هذا التأييد حتى بعد أن استخدمت حكومة بغداد أسلحة كيمياوية لقتل الجنود الإيرانيين وآلاف الأكراد في حلبجة. وقتها اتجه الزعماء الأكراد إلى أمريكا طلباً للمساعدة. وكان السياسي العراقي الكردي محمود عثمان بين هؤلاء، إلا أن أصدقاءه في وزارة الخارجية الأمريكية لم يردوا على مكالمته الهاتفية.
والمفارقة أن الجراثيم التي استخدمها العراق في برنامجه للأسلحة البيولوجية ـ التي كانت المبرر في شن الحرب الأمريكية ضده ـ جاءت من مراكز أمريكية للرقابة والوقاية من الأمراض، وكذلك من مستودع عينات بيولوجية خاص مقره في منساس بولاية فرجينيا الأمريكية. وأكد مسؤولون في المؤسستين أن شحنات الجمرة الخبيثة وفيروس غرب النيل وغيرهما من الجراثيم أرسلت إلى العراق في الثمانينيات، بموافقة وزارة التجارة الأمريكية. ووفقا لجماعة (مبادرة الحظر النووي) ومقرها واشنطن، حتى البرنامج النووي العراقي انشيء بمساعدة من برنامج لإدارة الرئيس ايزنهاور في الخمسينيات عرف باسم (الذرة من أجل السلام).
فعلت أمريكا لصدام حسين ما هو أكثر من ذلك.. ففي عام 1982 رفعت وزارة الخارجية الأمريكية اسم العراق من قائمة الدول الراعية للإرهاب كي تتمكن واشنطن قانوناً من تزويد بغداد بالسلاح والاعتمادات الزراعية ووسائل الدعم الأخرى في حربه على إيران وقد قبلت إدارة الرئيس ريجان اصرار العراق على أن الغارة الجوية العراقية في عام 1987 والتي تسببت في قتل 37 بحاراً أمريكياً على متن السفينة (يو اس اس ستارك) كانت حادثاً عرضياً وتغافلت عن استخدام صدام للأسلحة الكيمياوية ضد القوات الإيرانية وضد الأكراد العراقيين خلال حملة (الانفال) المشهورة.
وفي منتصف 2003 نشرت صحيفة الواشنطن بوست أنه أثناء مراجعة كم كبير من وثائق الحكومة الأمريكية التي أطلق سراحها مؤخراً كشفت عن قيام إدارتي الرئيس ريجان وبوش الأب بموافقتهما على تزويد العراق بدعم معلوماتي دعمته الـ cia واصدر الرئيسان الأوامر ببيع مواد للعراق ذات استخدام مزدوج عسكري ومدني.. وقد شملت هذه الصفقة بيع مواد كيميائية وجرثومية.. والجمرة الخبيثة والطاعون.
يوضح ذلك كله.. لماذا أخطأ صدام كلياً عام 1991 في تقديراته لأهميته الاستراتيجية بالنسبة للولايات المتحدة فقد غضت أمريكا والعالم العربي النظر عن كل ما فعله خلال أكثر من عقد من الزمان.. فلماذا يتغير الأمر؟ ولماذا لا يمكنه الاستيلاء على الكويت؟.. كان طبيعياً أن يتوقع أن يأتي رد الفعل الأمريكي بطيئاً، ويصبح الأمر الواقع غير قابل للتغيير. لم يتوقع صدام أبداً تذبذب السياسة الأمريكية تجاهه إلى حد استخدام القوة العسكرية لطرده من الكويت. وحتى بعد أن خابت توقعاته لم يتصور أن من وضعوه على طريق السلطة هم أنفسهم من سيسقطونه عن مقعده ولو بعد أربعين عاماً.
ذنوب الرئيس المؤمن
عندما كان الصوت الأعلى في بغداد للقنابل والأسلحة.. وعندما كانت العيون تتعلق بها دون غيرها.. حاول صدام حسين أن يخدع الناس بروحانيته وقواه الإيمانية.. أوحى لمتابعيه أنه لا يستسلم للنوم كل ليلة إلا بعد أن يقرأ بعض آيات من القرآن الكريم..
اعتقد صدام أن تاريخه الدموي يمكن أن ينسى بسهولة وهو التاريخ المليء بالمؤامرات ومحاولات الاغتيال والسلب والنهب حتى قبل أن يصل إلى السلطة.. وبعد أن وصل إليها منذ أكثر من ربع قرن ظل رمزاً للديكتاتور الذي يضحي براحة شعبه وسلامته من أجل أن يحقق أهدافه.. ضرب معارضيه بشدة، استخدم ضدهم جميع أنواع الأسلحة المحرمة دولياً، لمجرد أنه لم يكن يحب سماع كلمة لا.. شن حروباً ظالمة على جيرانه ولم يراع فيهم ديناً ولا رحماً.
بعد كل ذلك حاول صدام حسين أن يخلع رداء الطاغية الذي لا يعرف الله ويصبح ولياً من أولياء الله الصالحين، فعل ذلك كثيراً ومنذ حرب الخليج الثانية فقد أقدم على خداع المسلمين بأنه الحاكم المسلم الذي يحمي الإسلام ويقف ضد حلف الكفار الذي جاء ليدنس الأرض المقدسة، وقد ساعدت الإذاعة العراقية وقتها على إذاعة أغنية كان مطلعها يقول: إنقذونا يا مسلمين مكة في أيدي المشركين.
لم يكتف صدام بذلك لكنه ومنذ سنوات ليست بعيدة أعلن عن الحملة الوطنية الإيمانية الكبرى، منع بمقتضاها تناول الخمور في أي مكان بالعراق بل أصدر صدام كتيباً صغيراً يحمل اسم الحملة، احتوى الكتاب على كم هائل من الأرقام والإحصائيات بالإضافة إلى شرح مفصل لتوجهات الحملة الإيمانية، في صدر الكتاب صورة ملونة للرئيس صدام حسين وهو يصلي ويدعو الله مكتوب تحتها: قائد الجمع المؤمن قائد الحملة الإيمانية الوطنية الكبرى السيد الرئيس القائد المجاهد صدام حسين حفظه الله ورعاه.
أنفقت الحكومة العراقية ما يزيد على المليار ونصف المليار دينار عراقي على الحملة الإيمانية، أنفق معظمها على طباعة كتب القرآن الكريم والتربية الإسلامية في جميع مراحل التعليم، وأنشأ صدام كذلك إذاعة للقرآن الكريم تبث لمدة 16 ساعة يومياً وأمر بزيادة الجرعة الدينية في برامج الإذاعة والتليفزيون وزيادة الأبواب الدينية في الصحف، وفاز رجال الدين بمساحة أكبر في وسائل الإعلام تحت شعار الحملة الإيمانية الوطنية، وأطلق لهم العنان في المساجد ودور العبادة، بل إن صدام حسين حرص في كل عام ـ وتحديداً يوم  28 أبريل ـ وهو يوم عيد ميلاده على فتح مسجد ضخم في إحدى محافظات العراق الثماني عشرة وفي الوقت نفسه يضع حجر الأساس لمسجد جديد.
ومن أهم ملامح حملة صدام حسين الإيمانية التي كانت، أنه حرص على أن يفهم الطالب العراقي القرآن الكريم تماما عندما ينهي دراسته الثانوية لأن ذلك يحقق أهدافاً مهمة من بينها رفع مستوى الإيمان بالمقدسات وترصين السلوك المعزز بالقيم والعادات الحسنة وقد نفذ المسؤولون عن التربية والتعليم في العراق هذه التوجيهات على التلاميذ بداية من الصف الأول الابتدائي وحتى الصف السادس ومن جميع مراحل التعليم العام والمهني.
لقد حرصت الصحف العراقية أن تنشر كل ما يشير إلى أن الله يؤيد صدام حسين ويبارك خطاه.. أحد الكتاب العراقيين كتب في صحيفة القادسية: قبل أيام حدثني رجل تقي عن حلم راوده في منامه قال: رأيت الرئيس العراقي صدام حسين وسط بحر هائج كان يرتدي جلباباً أبيض وفي لجة الموج جاء طائر عملاق وحمله إلى الأفق وتفسير الحلم أن هناك قوة ربانية تنقذ قائدنا من خطوب الدهر، ثم حكى الكاتب نفسه قصة أخرى عن سيدة عراقية معروفة بالزهد والتقوى رأت في منامها أن إماماً يرتدي جلباباً أبيض، أطل عليها بوجه رباني وخاطبها قائلاً: قولي لأعداء صدام حسين أن يكفوا عن عدوانهم، إن الله يريد هذا الرئيس ويحرسه من كل مكروه.
وهذه قصة ثالثة حيث أكدت سيدة طاعنة في السن أنها رأت الرئيس القائد في منامها بهيئة عملاق مبتسم يترفع عن الرد على أقزام يحاولون مس أذيال جلباب أبيض يرتديه، لم يكتف صدام بنبؤات المسلمين، ولذا استعانوا بالسيدة العذراء.. شابة مسيحية اسمها فداء حكت لصحيفة بابل أنها شاهدت امرأة تشبه السيدة مريم العذراء وبقربها كان يجلس السيد المسيح وذلك بعد أن كانت تصلي وتطلب من الله أن يمن على بلدها بالسلام والخير.. شمت الشابة المسيحية رائحة زيت طيبة انتشرت في بيت فداء، ولم تجد ما تقوله إلا أن هذه الرؤيا هي رسالة حب للعراق العظيم الذي يعيش حالة ضيق وأنه سيخرج منها سالماً بفضل إيمان الرئيس صدام حسين.
هذه الحالة من الأحلام والرؤى كان صدام يساعد ويدعم نشرها وانتشارها بين الناس معتقداً أنها تدل على إيمانه واعتقاد الناس فيه، رغم أنها كانت تعكس حالة عجز عام، فقد فشلوا في التغيير وصودرت منهم القدرة على التعبير وتدهورت أموالهم حتى إنهم أصبحوا غير قادرين على ممارسة العيش بكرامة، ولذلك راحوا يلتمسون العون من الأحلام وأولياء الله الصالحين والسيدة العذراء وسيدنا المسيح.
لقد تاجر صدام حسين بالإسلام.. وبالله.. وبالمسلمين مرة واحدة.. حرص وبأداء تمثيلي أن تظهر صوره في جميع أوضاع الصلاة والعبادة.. وهو يصلي راكعاً وساجداً وواقفاً.. وهو بملابس الإحرام.. وهو يقرأ في المصحف.. وعندما كان يخطب في جنوده كان يقول لهم دائماً (اطمئنوا فأن قتلاهم في النار وقتلانا في الجنة).. ما يحز في النفس الآن أن آلاف الأبرياء من العراقيين وعلى مدى ما يزيد على ربع قرن من الزمان هي عمر حكم صدام.. سفكت دماؤهم باسم الله رغم أن الله برئ من سفك الدماء.. دماء هؤلاء في رقبة الطغاة الذين لا تشغلهم الرقاب المتطايرة ولا الأجساد التي تتحول إلى أشلاء.. ما داموا يحققون أهدافهم وتملأ خزائنهم بالأموال.. حتى لو صادروا من البسطاء حلاوة إيمانهم بالله... وجعلوا منه سلعة يبتاعونها في سوق النخاسة.
بعد أن سقط صدام حسين في يد أعدائه سقوطاً مهيناً... وضح لملايين البسطاء في أرجاء العالم الإسلامي الذين رفعوا أكف الضراعة كي ينصر الله صدام.. أنهم كانوا يدعون من أجل جبان متخاذل لم يحافظ على بلده.. لم يقاتل قتال الشرفاء.. نزل قبوه خائفاً مذعوراً مخلفاً وراءه ملايين الآهات والأحزان التي اعتصرت العالم العربي والإسلامي.. وهي الأحزان التي أفقدت الناس الثقة في دينها.. شعروا أن الله الذي صدره صدام حسين لهم في مقدمة الصورة تخلى عنهم، رفع يده من صفوفهم وتركهم يواجهون بشراسة جنوداً لا يرحمون.. يسحقون كل ما يقابلهم.. حتى لو كان كتاباً مقدساً نزل من السماء.
مصير العائلة المنكوبة!
في صوره العائلية كان صدام حسين يبدو للحظة أبا يعشق أبناءه يقف بين ولديه عدي وقصي وكأنه ـ ورغم كل كوارثهما من وجهة نظر الناس طبعاً ـ يفتخر بهما.. وكان له الحق فقصي كان يده التي يبطش بها وعدي رغم المتاعب التي سببها لعائلته ولوالده شخصياً فقد وصل به الأمر إلى أنه حرمه من بعض عشيقاته.. الا أنه كان سيفاً في يد صدام يضرب به من يشاء وقتما شاء.
صورة أخرى ربما صنعها صدام حسين بعناية لمغازلة الأعلام ليس في العراق فقط ولكن في الغرب أيضاً.. يستلقي على ظهره ضاحكاً وإحدى بناته تجلس على بطنه والسعادة تغمر وجهها.. صورة ثالثة تجلس فيها إحدى بناته أيضاً في اجتماع لمجلس قيادة الثورة.. ورغم أنها تعكس حنان صدام الذي لا نستطيع أن نشكك في صدقه على أبنائه.. إلا أنه يعكس حالة استخفاف عامة بالحكم والشعب والدولة.
صورة خامسة يجلس فيها صدام حسين بين أفراد عائلته الكبيرة الأبناء والبنات وأزواجهن والأحفاد وهو بنفسه يعد لهم الطعام الذي هو عبارة عن أسياخ الكفتة.. وكأنه يريد أن يؤكد للعالم أنه يطعم أسرته بنفسه.
في كل الصور تشعر بقدرات الممثل عند صدام حسين.. فالصور كانت للإعلام ليس إلا.. ولم يكن صدام وحده هو الذي يفعل ذلك.. فالقذافي فعل ذلك أيضاً فبعد أن أغار الرئيس الأمريكي رونالد ريجان عليه في مقر إقامته في طرابلس عام 1986.. حرص القذافي أن يبث صورة عائلية له بين زوجته وأبنائه وكانت هذه هي المرة الأولى التي تظهر فيها زوجة القذافي.. وقتها قال القذافي: لقد أردت أن أقول للأمريكان إنني رب أسرة ولست إرهابياً كما يزعمون.
نعود إلى صدام حسين وعائلته.. التي تشردت ولقيت مصيراً قاسياً.. فعدي وقصي لقيا مصرعهما على يد القوات الأمريكية في يوليو الماضي في مدينة الموصل وعرضت صورة جثتهما في جميع وسائل الإعلام بلا رحمة.. وكما لقي النشر استياء شديداً لدى البعض... فإن الملايين من أبناء الشعب العراقي أعلنوا عن فرحتهم.. فلم يكن صدام وحده هو مصدر الرعب للعراقيين.. لكن نجليه أيضاً كانا اشد منه قسوة.. يد القتل لم تمتد إلى النجلين فقط.. فقد قتل معهما حفيد صدام (مصطفى).
وبينما استطاعت ابنتاه رغد ورنا من الهروب إلى سوريا ومنها بعد ذلك إلى الأردن حيث تقيمان هناك ويتعلم أبناؤهما في مدارس الأردن.. فإن ابنته الصغرى (حلا) مازالت مختفية لا يعرف أحد عنها شيئاً.. وقد تفضح الأيام مكانها، ولا أحد يستطيع الآن أن يقدر شعور بنات صدام بعد أن رأين أباهن وهو مثل الفأر المذعور بين يد الأمريكان بعد أن عشن معه أيام المجد والعزة والسيطرة والقوة.
مصير بنات صدام حسين المجهول أهون كثيراً من مصير صهريه زوجي رغد ورنا وهما صدام كامل وحسين كامل ابنا عمومته فقد قتلا في هجوم مسلح على منزليهما في بغداد نفذه بعض أفراد من عائلة صدام عام 1996.. قادهم إليهما الابن الأكبر عدي.. وقد تم الهجوم بعد أيام من عودتهما من الأردن بعد أن فرا إليها مع زوجتيهما عندما شقا عصا الطاعة على صدام حسين.. وقد قتل معهما أبوهما الذي كان ابن عم صدام حسين وقد نجت الابنتان من نفس المصير بعد أن هددت ساجدة والدتهن بأنها ستنتحر إذا تعرضت البنتان لسوء.. وهذا عندما علمت أن القرار صدر بقتل الجميع.
لا يعرف أحد مصير ساجدة صدام الزوجة الأولى للرئيس العراقي الأسير لكن زوجته الثانية سميرة شهبندر تشير الأخبار أنها تعيش في لبنان مع ابنها (علي) الذي تطلق عليه (حسن).. وقد أدلت سميرة بحوار طويل إلى جريدة (الصنداي تايمز) البريطانية.. وأكدت الجريدة أنها قابلتها في احد مطاعم بعلبك شرقي لبنان.. لكن عادت السلطات اللبنانية وأكدت في بيان رسمي أن سميرة لا تعيش في لبنان، ولا ندري من نصدق الجريدة البريطانية أم السلطات اللبنانية؟!
وفي تقرير نشرته الشرق الأوسط عن مصير عائلة صدام المأساوي قالت: ولصدام ثلاثة أخوة غير أشقاء من والدته هم: برزان ووطبان ابراهيم الحسن وقد اعتقلا في أبريل الماضي، وسبعاوي إبراهيم الحسن الذي لا يزال مختفياً عن الأنظار، كما أن صهر صدام الثالث زوج ابنته (حلا) جمال مصطفى عبد الله اعتقل في أبريل الماضي، هذا إضافة إلى عدد آخر من أبناء أعمام صدام وأبناء أخواله قد أعتقلوا وأشهرهم علي حسن المجيد المعروف باسم (علي كيمياوي) ويبدو أنه كان الكيمياوي الوحيد في العراق وكان مسؤولا عن تنظيمات حزب البعث في كردستان العراق أثناء ضرب مدينة حلبجة وغيرها من المناطق الكردية بالأسلحة الكيمياوية عام 1988.
هذا مصير العائلة كامل.. وقد صنعه صدام بيديه.. وها هو يجنيه الآن.. وهو سجين في غرفة منعزلة بين يدي أعدائه الأمريكان الذين وعد أن يبيدهم فأبادوه.
7
بوش مجرم حرب
كادت الفرحة تقفز من عيني بوش الصغير وهو يتحدث عن اعتقال صدام حسين، كانت ملامح وجهه التي لم تعرف الراحة منذ شهور مسترخية للغاية، ليس لأنه أمسك بالثعلب الكبير الذي أوهم الأمريكان أنه يريد إبادتهم، ولكن لأنه يعتقد أن صورة صدام وهومثل الفأر المذعور بين أيدي الضابط الأمريكي يمكن أن تمنحه فترة رئاسة ثانية.. وتقوم بعملية غسيل سياسي لكل ما فعله ليس في شعب العراق فقط ولكن في شعبه أيضاً.. فعلى يديه فقدت أمريكا جانباً كبيراً من الأساس الذي قامت عليه.. كان بلداً للحرية.. فإذا به يتحول إلى سجن.. يعتقل فيه المواطنون لأنهم يرفضون ما يقوله الرئيس.. ويعذب فيه المعارضون لأنهم فكروا ولو للحظة واحدة أن يخرجوا عن النظام!
عندما سقط صدام.. خرجت مرة أخرى كل ملفات ديكتاتوريته وبطشه واعتدائه السافر على حياة شعبه.. اصبحت الكلمة الأولى لأمريكا.. صدرته للعالم كمجرب حرب.. ومشى الجميع خلفها.. لا نستطيع لأسباب عاطفية هزلية أن ننكر أن صدام حسين من عتاة مجرمي الحروب، لكن جروج بوش أيضاً مجرم حرب.. والمستفز فعلا أنه ورغم انتهاكه كل القوانين والمواثيق الدولية.. وسرقته للأوطان ومباركته للصوصية إسرائيل.. يحاول أن يرتدي ثوب البراءة والطهارة والنقاء.. ويدعى أنه نبي الديمقراطية والحرية الجديد الذي أرسله الله لهداية شعوب الشرق الأوسط.. ليس هذا ادعاء فقد قالها نصاً: أنا رسول الله لهداية المسلمين.. لم يوضح بوش إلى أي شيء سيهدي المسلمين.. لكنه أعطى نفسه الحق كاملاً أن يقتل وينهب ويدمر ويرهب.. ثم يطالب الآخرين أن يعترفوا له بالحكمة ومن يرفض فليس له عنده إلا الإبادة.. فمن ليس مع بوش فهو عليه!
انفرد جورج بوش بالساحة وحده.. خلا المسرح من كل خصومه. صدام حسين محجوز في غرفة ضيقة في مطار بغداد.. وأسامة بن لادن مطارد في جبال أفغانستان.. والحكام العرب جميعاً أعلنوا خضوعهم وإذعانهم التام.. فلم يعترض أحدهم على الطريقة المهينة التي تم التعامل بها مع صدام حسين.. وكل ما فعلوه ـ لا أكثر الله من أمثالهم ـ أنهم طالبوا أن تكون محاكمة رئيس العراق المخلوع عادلة، يطلبون في ضعف وتخاذل أن يرحم الجلاد ضحيته.. ألا يقتل القناص النذل فريسته بعد أن وقعت في يده بطريقة أذهلت حتى الذين مازالوا يعتقد أن صدام حسين ولي من أولياء الله الصالحين.
انفراد بوش بالمسرح قد يكمم أفواه الآخرين.. يجعلهم يتقدمون له بالقرابين كي يرضى عنهم ويقربهم إلى جنته التي وعد بها من يؤيده ويناصره ويقف إلى جواره، لكن ذلك كله لن يمحو تاريخه الدموي.. وتفاصيل حياته التي تجلب على صاحبها العار.. لن تكسبه احتراماً يفتقده منذ دخل البيت الأبيض.. ولن تجعل فقراء العالم ينظرون إليه على أنه مخلصهم ومنقذهم.. سيظل شبح ضحاياه من أطفال العراق وشبابها يطارده ويؤرق نومه ويقلق منامه!
لم يكتشف الناس فجأة بعد اعتقال صدام حسين أن جورج بوش مجرم حرب.. سفاح قاتل.. ديكتاتور.. ولكنهم عرفوا ذلك منذ أن ذهب منفرداً ليشن حرباً ضد العراق ضارباً بالأمم المتحدة ومجلس الأمن عرض الحائط.. في المظاهرات التي خرجت في كل دول العالم ترفض ضرب العراق رفع الجميع لافتات تقول: بوش قاتل جماعي وبوش مجرم حرب ومحور الشر هو البنتاجون.. وقبل أن يقدم المتظاهرون دليلاً على جرائم بوش.. أعطاهم بنفسه ما يحتاجون.. وأكدت صور الضحايا في شوارع وميادين العراق أن جورج بوش رجلاً بلا قلب.. ودعمت مشاهد ضحاياه في أفغانستان صورته الدموية.
فعلى شاشات التليفزيون رأينا الجثث ملقاة على الأرض وفي الصحارى وعلى سفوح الجبال وفي الخيام والوديان.. ورأينا أطفالاً لا حول لهم ولا قوة وهم يبكون بعد أن فقدوا عائلهم.. وقد أصابتهم النيران الأمريكية التي هي ليست صديقة.. يحتاجون إلى من يعالجهم ويداوي جراحهم. لكن لا أحد ينقذهم فالسيد الأمريكي قد قدر.. ولا راد لقضائه وقدره.
لقد رأينا في أفغانستان والعراق وفلسطين بيوتاً وقد تحولت إلى كومة من التراب، وقد دفن تحتها ساكنوها دون أن يهتم بهم أحد ودون أن يطالب بحقوقهم أحد، رأينا الآلاف من الرجال والنساء وقد تشوهت أجسادهم.. بترت أعضاؤهم وشوهت وجوههم وضاع مستقبلهم.. لا لشيء إلا لأن السفاح الأمريكي يريد أن ينتقم ممن مرغوا أنفه في التراب وجعلوه يركع في 11 سبتمبر.
أن جروج بوش لا يختلف في كثير أو قليل عن صدام حسين.. فإذا كان صدام حسين قد حكم شعبه بالحديد والنار فإن جورج بوش يريد أن يحكم العالم كله بالحديد والنار، وإذا كان صدام حسين قد ابتكر وسائل متعددة للتعذيب والانتقام من معارضيه فإن جورج بوش لم يتورع في اتباع أعنف وسائل وطرق التعذيب للحصول على اعترافات من أسرى جوانتانامو، وإذا كان صدام حسين قد تنكر لكل قرارات المجتمع الدولي.. ورفض كل المواثيق الدولية واتفاقيات جنيف التي حرمت الاعتداء على المدنيين وضرب المنشآت المدنية وإتلاف الحقول والمزارع والمساس بالمؤسسات العلاجية والإنسانية واعتبرت كل خروج على هذه القواعد جرائم حرب، داس بوش على كل هذه القواعد بقدميه وهو في طريقه إلى بغداد.. ذبح أطفالها وضرب مدنييها في الأسواق وهدم المستشفيات على رؤوس المرضى، وإذا كان صدام حسين قد اغتصب نساء معارضيه أمام أعين أزواجهم، فإن جنود جورج بوش اغتصبوا نساء العراق ولم يتحرجوا من فعلتهم.. بل نشروا الصور زيادة في الإذلال وإمعاناً في إهانة شعب العراق الذي قال لا.. وكان يعتقد أنه يؤيد قائداً وزعيماً فإذا به يجده هزيلاً.. ضعيفاً متخاذلاً.
لقد خدعنا بوش جميعاً.. حاول أن يبدو أخلاقياً وحاول أن يبدو متديناً.. وقامت آلته الإعلامية الشرهة بتصويره رجلا تقياً فهو لا يبدأ يومه إلا بعد أن يقرأ بعض مواعظ الكتاب المقدس القصرة التي صاغها (أزوالد تشمبرز) المبشر الاسكتلندي الجوال الذي كان ينشر تعاليم الانجيل في صفوف الجنود البريطانيين في مصر خلال الحرب العالمية الاولى.. وهو لا يتحرك إلا بتعاليم المسيحية ولذلك قال الصدق في البداية عندما أعلن أن الحرب التي سوف يشنها على الإرهاب هي حرب صليبية فعاد واعتذر بعد ذلك.. لكنه كان قد فعل المصيبة وانتهى الأمر.
حياة جورج بوش ليس فيها ما يشرف.. وحتى لواعتقد الأمريكان أن اعتقاله لصدام حسين وانقاذهم من خطره يشفع له.. لقد ولد جورج بوش عام 1946، نشأ في أسرة تهتم بالدولار أكثر من اهتمامها بالكنسية، وكان (بريسكون بوش) مؤسس العائلة واضحاً للغاية عندما أعلن لأبنائه وأحفاده عقيدته الوحيدة وهي (أصنع الثروة أولا وبعدها انغمس في السياسة.. أنا تركت لكم الأسم والصفوة ولكن بأصوات المرشحين اثبتوا أنكم تستطيعون الفوز).
كان بوش الصغير نموذجاً مثالياً لما أراده جده.. لكنه تميز عنه بالوصولية واستغلال نفوذ والده فبعد أن أخذ منه ثلاثة ملايين دولار لينهض بشركة البترول التي كان شريكاً فيها، عاد في عام 1990 وباع كل أسمهه فيها، فعل ذلك بأعلى سعر مستغلاً وجود أبيه في السلطة، ولم يشغل باله ما إذا كانت الشركة ستنهار من بعده أم لا، وبعد أن كون الثروة اتجه إلى السلطة، كون فريقاً لكرة القدم الأمريكية في ولاية تكساس حقق من خلاله شهرة كبيرة مكنته بعد ذلك لأن يصبح حاكماً لها عام 1994.
وفي عام 1998 مارس هوايته فباع أسهمه في فريق تكساس محققاً 15 مليون دولار من الأرباح أضيفت إليها 10 % من رأسمال الفريق تركها له المساهمون تقديراً له منهم على وجودهم كمستثمرين في الفريق، ولم تكن الـ10% هبة لوجه الله ولكنها كانت صفقة فقد استغل بوش الصغير نفوذه أثناء توليه حكم ولاية تكساس واستولى على قطعة أرض كبيرة بنى عليها استاداً ضخماً للفريق وقام برفع الفائدة على مباني الولاية، فكانت الـ 10% من رأسمال الفريق هدية على خدماته التي قدمها لمستثمري الفريق، أي أن بوش كان يعمل على طريقة (شيلني وأشيلك) كما يقول أولاد البلد في مصر.
 لم تخل شخصية بوش الصغير من ملامح الشخصية الانتهازية، فرغم أنه وعد ناخبيه بأنه لن يعتمد على الطاقة الآتية من احتياطي بترول ألاسكا وأنه سيساهم في إنشاء مصادر طبيعية للطاقة، لكن وعوده ذهبت كلها أدراج الرياح، لأن بوش حافظ أكثر على علاقته باللوبي المسيطر على البترول في أمريكا لأنه وصل إلى كرسي الرئاسة بأموال هذا اللوبي.
الانتهازية في شخصية بوش لم تبتعد كثيراً عن النفاق والادعاء في تاريخه وشخصيته، كان ولا يزال يدمج نفاقه بالدين.. وفي ملفاته التي صنعها الإعلام بعناية أنه يستيقظ كل يوم في الساعة الخامسة والنصف صباحاً وينام في الساعة العاشرة مساء، وأنه يرفض نظرية دارون تماماً.. إذ كيف يأتي الإنسان من سلالة قرود وقد خلقه الله في أحسن صورة، ليس هذا فقط بل أن بوش إنحاز كلية إلى العلاقات الشرعية واعتبرها الوسيلة الأفضل لمحاربة الإيدز، ولم يكن غريبا بعد ذلك أن يقوم بحملة شرسة وقف وراءها بكل قوته من أجل مواجهة العادة السرية لدى الشباب والبنات في أمريكا.
حاول بوش أن يمرر ومنذ 11 سبتمبر أن الله اختاره لحرب ضد الارهاب وضد محور الشر ولم يتردد في أن يقول لنواب الكونجرس أكثر من مرة إن دورهم الأساسي الذي ليس لهم دور غيره هو أن ينفذوا مشيئة الرب على الأرض، ولن تتعجب بعد ذلك عندما تعرف أن بوش حرص وبشدة على أن يقول لوسائل اعلامه أنه يحرص على بدء يومه بصلاة صغيرة، كما أنه لابد له من قراءة جزء من الكتاب المقدس كل يوم، كما أنه في كل اجتماع له مع أعضاء إدارته لابد أن يبدأه بتلاوة صلاة.
وفي سلسلة خداعه حرص بوش على أن يبدو رجلاً متديناً قحاً.. بل إن طالب إدارته أن يكونوا مثله، والموقف يبدو جلياً مما حدث مع (ديفيد فروم) مؤلف كتاب (بوش الرجل المناسب لتيار اليمين) وهو الكتاب الذي صدر مع الأيام الأولى لعام 2003، المؤلف كان واحداً من كتاب خطابات الرئيس بوش، التحق ديفيد بالعمل في البيت الأبيض، كان ينتظر أن يستمع تعليقاً سياسياً ساخراً أو نكتة لاذعة تنتقد سياسة أمريكا التي بدت متأرجحة مع قدوم بوش، لكنه سمع تعليقاً مختلفاً تماماً، فقد كان أول ما تردد أمامه من كلام في كواليس إدارة بوش التي تحكم أمريكا وتريد أن تتحكم في مقاليد العالم (افتقدناك عندما تغيبت عن درس الإنجيل).
كان المعنى واضحاً للغاية.. فبوش لم يتغير هو فقط ولكنه قرر أن يغير العالم كله ويجعله خاضعاً باسم الله، حتى لو كان ما فعله في أفغانستان والعراق، وما سيفعله بعد ذلك في دول كثيرة قادمة يخالف أبسط قواعد الأديان التي تكره الحروب وتعتبرها انتهاكاً لكرامة البشر واعتداء على آدميتهم.
في أي شيء يختلف بوش عن صدام حسين إذن.. لقد حاول صدام أن يصور نفسه على أنه خليفة للمسلمين يمكن أن ينقذهم مما يريده بهم الغرب، وها هو بوش يرتدي ثوب مسيح جديد ليخدع به الغرب ويقول لهم إنه سيخصلهم من شرور المسلمين الذين يريدون أن يشنوا عليهم حرباً عامة بأسلحة الدمار الشامل.
بوش في النهاية ليس إلا مجرم حرب.. وكما تجب محاكمة صدام حسين على جرائمه تجب محاكمة بوش على جرائمه أيضاً.. لكن من يبعث الروح في ضمير المجتمع الدولي الذي نام واستراح على الكتف الأمريكي.
8
تركة القذافي
لا أحد يعرف الآن ما هي مشاعر الرئيس الليبي معمر القذافي؟! هل هو سعيداً بتصريحاته الأخيرة التي ألقى بها كل تاريخه ونضاله وكلامه عن الثورة والمقاومة في سلة مهملات أمريكية؟ أم هو حزين لأن الساحة لم تعد ساحته.. والمشهد لم يعد مشهده.. وأن الستار نزل عليه وهو واقف على المسرح.. فكان لابد له أن ينزل بدلاً من أن يجد نفسه بين يدي جندي أمريكي يعبث بشعره ولحيته ويفتش في فمه وبين أسنانه!
الصورة من بعيد تشير إلى أن المناضل القديم تعب.. والأسد العجوز تساقطت أسنانه وقد يعترض البعض فالصورة لم يكن فيها أي نضال ولا حتى ظل لأي أسد.. لكننا مضطرون للتعامل مع ظاهر الصورة... رغم قناعتنا ان المناضلين لا يركعون بسهولة.
اهتم الجميع بما صرح به القذافي.. وما رماه تحت أقدام أمريكا وإسرائيل من استعداده للتخلي عن كل أسلحة الدمار الشامل التي يملكها، ثم حاول التأكيد أنه أصبح رسولاً للسلام فدعا كلا من سوريا وإيران أن تحذو حذوه.. وفوق ذلك ولأول مرة تنازل عن عنفه في الحديث عن إسرائيل.. وهو العنف الذي كان يميزه ويبعث بالحرارة في الأحاديث التي كان يدلي بها.. لكن لم يفكر أحد لماذا فعل القذافي ما فعل؟! لماذا قضى على كل أساطيره بجرة قلم؟!.. تعاملوا معه على أن القرار الأخير كان قراره وحده.. وهو ما لم يكن صحيحاً بالمرة!
فمنذ سنوات ظهر أبناء القذافي على الساحة السياسية في ليبيا.. وقد مثل ظهورهم تحولاً سياسياً في بناء السلطة وما يمكن أن يكون عليه مستقبل الجماهيرية.. أعتقد البعض وقتها أن تقارب أعمار أبناء القذافي قد يسهم بشكل كبير في زيادة الاحتكاكات والنزاعات بينهم. لكن هذا لم يحدث حتى الآن على الأقل.. وخاصة بعد أن تم تقسيم المهام على الأبناء وأصبح كل واحدة منهم يعرف دوره.. (فمحمد) يشرف على قطاع الاتصالات و(سيف) صرف اهتمامه كله للشؤون الخارجية والعلاقات الدولية، (الساعدي) اهتم بالرياضة هذا غير نشاطه الاقتصادي الهائل داخل ليبيا. و(المعتصم) اتجه إلى القوات المسلحة بينما اهتمت (عائشة) بالجوانب الثقافية والاجتماعية!
هذا التقسيم جعل أبناء القذافي يغرسون أقدامهم في بحر السياسة.. وجعلهم يعلمون أن الأيام مهما طالت فإن السلطة جميعها ستكون في النهاية لهم... وهو ما كانت له آثاره.. فمنذ شهور أعلنت بعض الجبهات المعارضة أن القذافي يتجه إلى تعيين ابنته عائشة نائبة له تمهيداً لتولي الحكم في الجماهيرية من بعده.. ولاقت هذه الشائعة قبولاً لدى قطاعات كبيرة من المتابعين للشأن الليبي.. ولم يكن لديهم ما يمنع من تصديقها، خاصة أن القذافي كان قد استعان بحراسة خاصة له من النساء وقال وقتها أنه استعان بالنساء لحراسته لأنه لم يعد في العرب رجل واحد يمكن أن يعتمد عليه.
عائشة من ناحيتها حاولت أن تنكر أية نية لديها للعمل بالسياسة.. بل أنها أكدت أكثر من مرة أنها لا تهتم بالسياسة من قريب أو بعيد، عائشة تبلغ من العمر 25 عاماً وحاصلة على الدكتوراه من جامعة السوربون.. ,لها حضور ضخم بلباقتها ورشاقتها ونشاطها البارز في مجال الخدمات الإنسانية وحتى عندما زارت عائشة العراق بقافلة ضخمة لتقديم المساعدات الإنسانية لشعبها أكدت أنها لم تفعل ذلك لأي غرض سياسية.. بل أقدمت على الزيارة وفي ذهنها المساهمة في تخفيف الحصار الظالم على الشعب العراقي.. ولم يفت عائشة أن تؤكد أن جمعيتها الخيرية لا تهتم إلا بتقديم المساعدات الإنسانية وبخاصة للدول الأفريقية الفقيرة.. كما أنها تهتم من خلال فروعها التي تمتد إلى دول عديدة بمكافحة المخدرات..
صفحة عائشة في المشاركة في الحكم تكاد تكون طويت تماماً... لكن تبقى صفحة الساعدي وهو الابن الذي زادت سلطاته وسطوته في ليبيا من خلال سيطرته وثروته التي كونها من خلال استثماراته الداخلية في الجماهيرية.. حاول الساعدي أن يصل إلى الحكم.. وبالفعل كانت هناك محاولة للانقلاب على والده.. لكنها وقبل أن تكتمل تمت السيطرة عليها.. ولأن الساعدي ابن قوي للعقيد فتم الاكتفاء بإبعاده لفترة عن المملكة.. وجاء به أحمد قذاف الدم ـ الذي قام بعدة أدوار مهمة في تنسيق العلاقات المصرية الليبية ـ إلى مصر!
بعض المراقبين للشأن الداخلي الليبي اعتقدوا للوهلة الأولى أن وجود الساعدي في مصر كان بقصد إفساده.. فهو كان يهتم بأمور والبيزنس أكثر من أي شيء آخر.. وانغمس الساعدي حتى أذنيه في مصر للدرجة التي أشيع أنه دخل على نساء أحد فنادق القاهرة في حمامهن الخاص.. وكانت فضيحة لم ينجه منها إلا تدخل بعض المسؤولين.. كان علاج الموقف مع الساعدي بدائياً للغاية.. فقد تطلع لأن يخلف ابيه.. فما كان منهم إلا إبعاده التام عن الأدوات التي يمكن أن تؤهله لذلك.. قد يكون ما قيل عن الساعدي مجرد شائعات مثل الشائعة التي التصقت بعائشة.. لكنها في النهاية تدل على أن أوضاع السلطة في ليبيا كانت متأرجحة لدرجة كبيرة.. وأن القذافي الذي كان يقبض على جميع الأمور بيد من حديد بدأت قبضته ترتخي بشدة.
بعد عائشة والساعدي احتل سيف الصورة كاملة.. فقد ظهر في مقدمة المشهد الذي استسلم فيه القذافي كلية للأمريكان.. وظهر أنه كان وراء المحادثات والمفاوضات التي أنهاها القذافي بإعلانه تخليه عن أي أسلحة دمار شامل يمتلكها، ولم يكف سيف عن التصريحات.. قال لجريدة الشرق الأوسط السعودية إن ليبيا سوف تدخل في اتفاقية عسكرية وأمنية مع الولايات المتحدة أملاً في أن تصبح ليبيا في حماية أمريكا.. وبرر سيف ما حدث بأن ليبيا تعهد بتوفير كل المطلوب منها للمؤسسات الدولية التابعة للأمم المتحدة.. ولذلك فلابد أن يقوم المجتمع الدولي بحمايتها لذلك ستكون هناك اتفاقيات تعاون مشترك عسكري وأمني مع أمريكا.. بل إن هناك عسكريين أمريكيين سيزورون ليبيا قريباً للإطلاع على احتياجاتها من الحماية العسكرية المتنوعة.. ليس هذا فقط بل إن هناك مشاورات سابقة لعقد اتفاقات أمنية وعسكرية متنوعة مع الأمريكان ينتج عنها إجراء مناورات عسكرية مشتركة في المستقبل.
سيف الإسلام ملأ الدنيا حديثاً حاول من خلاله أن يؤكد سلامة نية بلده.. فهي تملك فقط مصانع لإنتاج الصواريخ معظمها من طراز(سكود ـ بي) قصيرة المدى أي 300 كليومتر تقريبا، وستبقى هذه على حالها دون أي تفكيك.. أما ورش إنتاج الصواريخ البالستية طويلة المدى فلم تصل بعد إلى مرحلة الإنتاج.. وهذه المشروعات ستتوقف الآن كما ستتوقف مشروعات إنتاج الأسلحة الكيمياوية والجرثومية والنووية.
معنى ذلك أن ليبيا لم تكن تملك شيئاً ذا بال.. لكنها بالغت في كرمها وصرح العقيد أنه سيتخلى عن أسلحة لا يملكها من الأساس.. ليس هذا مهماً الآن.. فقد حاول سيف أن يؤكد إنسانية الرئيس القذافي فذكر أن ليبيا كانت قد قررت قصف قاعدة عسكرية أمريكية بجزيرة كريت اليونانية عام 1986 كرد على القصف الأمريكي الذي حدث ذلك العام لبنغازي وطرابلس وراح ضحية له 201 قتيل ليبي من بينهم ابنة كان القذافي قد تبناها، لكن القذافي ألغى الهجوم في اللحظة الأخيرة خشية سقوط الصواريخ على أهداف مدنية في كريت.. وقرر بدلا من ذلك إطلاق 3 صواريخ سكود على قاعدة بحرية أمريكية بجزيرة لامبيدوسا في جنوب إيطاليا.. وقد أطلقت هذه الصواريخ بالفعل لكنها لم تصب أهدافها وسقطت على الشاطئ دون أن تحدث أي ضرر.
وحتى المفاعل النووي الذي تملكه ليبيا أكد سيف أنه سيستمر لكن للأغراض السلمية فقط وسيتم ذلك بإشراف دولي.. كان طبيعياً بعد ذلك أن يقوم رئيس الوزراء البريطاني توني بلير بالاتصال تليفونيا بالقذافي وأن يتحدث معه طويلاً بل ويعده بأن يزور ليبيا خلال العام الحالي.. وهي الزيارة التي ستعقبها زيارة الرئيس بوش للجماهيرية.. وهي زيارة لن تمر هباء.. فمن المتوقع أن يتم رفع الحظر الاقتصادي عن ليبيا بعدها.
كان طبيعياً أن يقوم سيف بالتحديد بهذا الدور.. تقريب وجهات النظر ونزع فتيل القنبلة التي كان يمكن أن تنسف ليبيا من الأساس.. فقد رأى سيف بعينه مصير ابني صدام حسين عدي وقصي.. ومؤكد أنه لم يكن يتمنى أن ينتهي مثلهما.. سيف هو الأذكى بالطبع.. يختلف تماما عن ابني صدام اللذين قبعا إلى جوار أبيهما يمارسان إلى جواره الظلم والديكتاتورية.. سيف تعلم واختلط بمجتمع آخر غير المجتمعات العربية وكان له دور بارز سواء داخل ليبيا أو خارجها.. بل أنه كان أحد المشاركين الأساسيين في المفاوضات مع أمريكا وبريطانيا خلال الشهور العشرة الأخيرة والتي انتهت بمحاولة حماية ليبيا من مصير العراق.
سيف تخرج في جامعة الفاتح في طرابلس ويرأس هيئة مسؤولة عن تخطيط المشروعات الحكومية الليبية والأهم من ذلك أنه يرأس مؤسسة القذافي للجمعيات الخيرية.. وهي مؤسسة تتكون من مجلس تنفيذي يضم عشرة أشخاص يمثلون الجمعية العمومية للمؤسسة، ورغم الكلام الكثير عن هذه المؤسسة إلا أنها ومنذ خرجت للنور لم يتم الإعلان عن أي اجتماعات لجمعيتها العمومية ولا كيف يتم اختيار رئيسها أو مجلسها التنفيذي بما يوحي بأن سيف القذافي هو المتحكم الأول والرئيسي فيها.
لقد خفت قبضة القذافي للدرجة التي سمحت لسيف أن يقود الجماهيرية إلى مصير جديد لم يكن أحد ينتظره أو يتوقعه.. فقد ربى القذافي أبناءه على كراهية أمريكا وبغضها وتمنى الخلاص منها، ففي عام 1986.
عقدت صفية القذافي زوجة العقيد مؤتمراً صحفياً في طرابلس توعدت فيه الرئيس ريجان والطيارين الذين أغاروا على طرابلس وبنغازي وقالت: سيأتي اليوم الذي نقتل فيه ريجان نفسه وطياريه الذين قتلوا أطفالنا ونساءنا.. ظهرت صفية القذافي خلال المؤتمر وهي تستند على عكاز.. ويبدو أنها كانت تطعم أولادها كراهية أمريكا مع طعامهم اليومي.. ولذلك وبعد ثلاث سنوات من مؤتمرها صرحت بتصريحات مرة عن حالة أبنائها النفسية قالت: (إن أبنائي مازالوا يعانون من الكوابيس التي سببها القصف الجوي الأمريكي لمقر إقامة القذافي)!
كان منتظراً أن تنمو مشاعر الكراهية لأمريكا في قلوب أبناء القذافي.. لكن الظروف الدولية والريح العاتية التي تهب من البيت الأبيض استبدلت بالكراهية الحب الشديد.. وبدلا من أن يضيع أبناء القذافي ضحية الكراهية قرروا أن يحتفظوا بتركة أبيهم لأنفسهم بدلا من أن تدهسها أقدام الجنود الأمريكان وهم يمرحون في شوارع طرابلس وبنغازي.
لقد نفى القذافي أن يكون قراره بتأثير الصورة المهينة التي ظهر بها الرئيس العراقي صدام حسين وجندي أمريكي يقلبه..وهو كلام يليق بمناضل قرر فجأة أن يتخلى عن نضاله حتى لو كان مجرد ظاهرة صوتية.. لكننا لا نستطيع أن نصدقه أو نطمئن إليه.. فقد بدا من المشهد العراقي أن أمريكا لن ترحم أحداً.. وكان من العقل إلا يزاحمها أحد.. أو يقف في طريقها أحد.. وإلا فالنهاية معروفة.
قد يتعجب البعض إذا قلت إن القذافي لم يتراجع.. هو فقط كف عن تصريحاته العنترية.. فلم نر له قبل ذلك معجزة أو تصدياً أو معارضة لأمريكا إلا في خطبه واحاديثه الفضائية، كان يربح بذلك.. لكنه اكتشفه مؤخراً أن الصياح داخل السرب الأمريكي سيكون أكثر مكسبا وربحا ولذلك لم يتراجع في الانضمام إليه.. أنقذ القذافي نفسه.. واطمئن على مستقبل أولاده من بعده.. ولا عزاء بعد ذلك لكل المهزومين العرب.
9
من يحكم السعودية
كان المشهد مذهلا..
حريق ضخم شب في مدرسة للبنات بمكة المكرمة.. تجمع الأهالي لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من المنشآت والأرواح، حاولت البنات أن يخلصن أنفسهن من ألسنة اللهب المتصاعدة.. تزاحمن على بوابة المدرسة.. لم ترتد واحدة منهن حجابها الذي خرجت به من بيتها، فالفزع الذي حاصرهن لم يمنحهن فرصة للتفكير، عندما اقتربن من بوابة الخروج وجدن أمامهن أحد المطاوعة من أعضاء هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يمنعهن من الخروج.. وجدن أنفسهن في ورطة فالنار من خلفهن وعصا المطوع أمامهن.. لأن الوقت لم يكن في صالحهن فقد عدن إلى المدرسة المحترقة وكانت النتيجة أن توفيت خمسة عشرة طالبة وفتحت جثثهن وأصيبت خمسين طالبة أخرى دون ذنب سوى عدم ارتدائهن الحجاب.. رغم أن الإسلام بسماحته من بين سطوره أن الضرورات تبيح المحظورات.
هذه الكارثة المروعة التي هزت مشاعر المجتمع السعودي فعلها (المطوع) مع سبق الإصرار والترصد، فأثناء الحريق ذهب أحد أفراد شرطة مكة التي يرأسها العقيد محمد الحارثي إلى موقع المدرسة، حاول التدخل لإنقاذ الطالبات، لكن المطوع تشاجر مع ضابط الشرطة ومنعه من دخول المدرسة.. بل أمره بأن يغادر موقع الحريق فوراً ودون مناقشة.
من بين ما يعكسه هذا الموقف الهزلي قوة رجال هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذين يصل عددهم إلى أربع آلاف فرد، فلديهم من السلطات التي منحتها لهم السلطات السعودية ما يفوق صلاحيات رجال الشرطة الذين من المفروض أن يحافظوا على أمن المملكة ويحفظوا لها استقرارها.. ولعل المشهد الذي يتكرر يومياً في شوارع السعودية يؤكد ذلك.. فالمطوع لا يسير في الشارع إلا ويتبعه اثنان من جنود الشرطة كل مهمتهما تنفيذ أوامر المطوع.. فما عليه إلا أن يشير إلى المخالف بعصاه ولا تمر سوى لحظات قليلة إلا ويقبض على المخالف ويتم اقتياده إلى قسم الشرطة ليلقى هناك ما لا يحب ولا يرضى!
كان حادث مدرسة مكة هو الشرارة التي جعلت المجتمع السعودي كله ينتقض على هذه الهيئة التي أنشأتها المملكة حسب مطبوعاتها الرسمية لتطبيق الشريعة الإسلامية. وأعطتها صلاحيات في التأكيد من أن النساء محجبات بالشكل المناسب، ومن تطبيق مبدأ عدم الاختلاط بحسم وصرامة في الأماكن العامة والمجتمعات التعليمية، ومن إجبار أبناء السعودية أو العاملين فيها على أداء الصلاة في أوقاتها..وهو أمر يثير السخرية وربما الشفقة.. فالمطوع الذي يتأكد من أداء الناس للصلاة في أوقاتها.. لا يؤدي هو الصلاة في وقتها.. لأنه ساعتها يكون مشغولاً بمطاردة المخالفين.
لقد طالبت أمريكا بعد حادث 11 سبتمبر أن تلغي السعودية هيئة الأمر بالمعروف والتي تعرف في الصحافة الأمريكية والغربية باسم (الشرطة الدينية)... واعتبرت ذلك إذا اتم خطوة من خطوات الإصلاح التي تحسن بها السعودية صورتها... فقد كان من وجهة النظر الأمريكية أن هذه الهيئة سبباً رئيسياً من أسباب بعض التشدد في المجتمع السعودي والحفاظ عليه، فالإسلام عندها ليس هيناً ولا يسيراً.. ولذلك من الطبيعي أن ينتجوا متطرفين.. ما طالت السعودية وناورت بل إنها لم تنتبه إلى الطلب الأمريكي.. وكان ذلك لسببين الأول: أنه ليس كل ما تقوله أمريكا لابد أن تخضع له السعودية وتطبقه فهذا ضد سيادتها واستقلالها وسيطرتها على أمورها، والثاني أن السلطات السعودية لا تستطيع بالفعل أن تستغني عن الخدمات الجليلة التي تقدمها لها هيئة الأمر بالمعروف.. فهي تحفظ لها الأمن وتساعد على استقرار الأمور الداخلية.. وتمنح النظام السعودي شرعيته كاملة تلك التي يستمدها من أنه يطبق الشريعة الإسلامية ويسهر على تنفيذها.
بعد أن أنهت امريكا مهمتها في العراق بصورة لم يكن الأمريكان أنفسهم يتوقعونها ورغم أن صقور الإدارة الأمريكية أعلنوا أن هدفهم القادم سوريا، إلا  أن الهدف الحقيقي أمامهم الآن هو السعودية التي يصرون فيما يبدو على تغيير نظامها وإكسابه صبغة مدينة تضمن لهم ألا يأتيهم الخوف منها مرة آخرى.. بعد أن وجدوا أن الـ 19 متهما في تفجيرات 11 سبتمبر كان منهم 14 سعودياً.
الآن تعيد أمريكا شروطها من جديد على السعودية.. وفي مقدمتها التخلص من هيئة المطوعين الذين وصلوا بسطوتهم ونفوذهم إلى أن اصبحوا دولة داخل دولة، لم يستطيع النظام السعودي أن يناور هذه المرة.. وجاءه حادث حريق مدرسة مكة ثم تفجيرات الرياض التي ساندها بعض العلماء السلفيين الذين يرتبطوا بصلات جيدة مع الهيئة.. لتكون سنداً له، وحجة يعتمد عليها في تفريق شمل دولة (المطوعين).. وليس بعيداً أن يستغل النظام السعودي بما عرف عنه من براجماتية بحتة أن يستغل حالة الغضب في الشارع السعودي الآن من رجال الهيئة ليوجه لهم ضربة قاصمة.
لقد ظهر حمق هذه الهيئة في حادث حريق مكة.. كما ظهر كذلك أنها لم تعد بالقوة التي كانت عليها.. فعلى ما يبدو أن السلطات السعودية بدأت ترفع يدها وبقوة عن ظهر هذه الهيئة.. فبعد مقتل البنات الخمس عشرة واللاتي تراوحت أعمارهن بين الثانية عشرة والسابعة عشرة فتحت الصحف السعودية ـ وللمرة الاولى في تاريخها ـ النار على هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونالت من رجالها ومن أعمالهم وتصرفاتهم.. فأشارت صحيفة (الوطن) إلى أن رجال هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر طردوا أولياء أمور البنات والحريق مشتعل في المدرسة وأغلقوا الباب بعد أن خرجت بعض ا لطالبات وهن غير محجبات.. صحيفة (الاقتصادية) كانت أكثر صراحة فاشارت إلى أن إلى رجال الهيئة أجبروا البنات على البقاء داخل المدرسة ولم يسمحوا لهن بالهروب لأنهن لا يرتدين الحجاب أو العباءة.
توسعت الصحف في نقل شهادات الذين حضروا الواقعة ليدينوا رجال الهيئة بشدة، فنقلوا عن رجال المطافئ ورجال الشرطة قولهم إن رجال الهيئة منعوهم من الدخول إلى المدرسة لأنه لا يجوز للفتيات أن ينكشفوا أمام غرباء، حاول رجال المطافئ والشرطة أن يقنعوا رجال الهيئة أن الأمر خطير.. لكنهم صرخوا في وجوهم ورفضوا أن يتزحزحوا من أمام بوابة المدرسة.. واصروا على موقفهم حتى قتلت البنات دهساً أو اختناقاً أو سقوطاً من نوافذ المدرسة التي اشتعل سقفها بسبب ما كهربائي.
لم يكتف هجوم الصحافة السعودية على رجال الهيئة بالتعريض فهم في حادث المدرسة، لكن انتقل بعض الكتاب إلى سلوكهم العام، تركي السديري رئيس تحرير (الوطن) طرح سؤالاً لم يتلق عنه إجابة حتى الآن وهو هل أعضاء هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أكثر حرصاً واهتماماً منا بزوجاتنا وأخواتنا وأمهاتنا وبناتنا؟ وهو سؤال له مغزاه ودلالاته في ظل مجتمع ما زال يخجل من المرأة، ويلقي بكل التبعات على عاتق النساء، كما لو أنهن سبب كل الشرور في هذه الحياة.. مجتمع يرى في الرجال ملائكة على طول الخط.. والنساء شياطين على طول الخط أيضاً..
وجدت الهيئة نفسها في ورطة.. فالمجتمع غاضب منها يكاد غضبه يفتك بها، والصحافة أظهرت أنيابها عليهم تريد أن تلتهمهم.. والسلطة نزعت يديها منهم ولو شيئاً ما.. فبعد حادث المدرسة صدر أمر ملكي بتعيين رئيس عام جديد للهيئة.. وهو الشيخ إبراهيم بن عبد الله الغيث، كان الغيث يتولى منصب رئيس الهيئة بالوكالة.. وجاء برتبة وزير إلى هذا المنصب بعد الشيخ عبد العزيز السيد. اعتبر البعض هذا القرار محاولة لامتصاص غضب الشارع السعودي، لكن القرار على ما يبدو ولم يكن كافياً.. فبادرت الهيئة إلى دعوة عدد كبير من الصحفيين التقى بهم رئيسها الجديد وحاول أن يؤكد لهم أن رجاله لم يصلوا إلى مكان الحريق إلا بعد أن تمت السيطرة على الحريق تماماً، لم يعجب كلامه الصحفيون الذين استندوا فيما كتبوه إلى شهود عيان كانوا موجودين لحظة الحريق، لم يجد رئيس الهيئة أمامه بدا من التراجع.. فقال مستسلماً: (لكن ما تأكد أن أي مسؤول في جهازنا قد عرقل أي عمل للإنقاذ فيجب عندها مقاضاته).
لا يتفاءل العاملون في الهيئة بما يحدث.. ويشعرون في نهاية جماعتهم وهيئتهم قد اقتربت.. فالضغوط ليست خارجية الآن.. والوصاية الأمريكية التي يحاول بوش أن يفرضها ليست هي المبرر الوحيد للقضاء على المطوعين، فهناك رغبة مؤكدة وملحة في المجتمع السعودي ليخلصوا من سطوة المطوعين الذين أصبحوا سلطة ليس للحفاظ على تطبيق الشريعة الإسلامية، ولكنهم تحولوا إلى سيفاً وسوطاً وبدا الفساد يدب في أوصالها، إن عمل هذه الهيئة ليس إنسانياً بالمرة.. ولولا مساندة السلطة السعودية لها لما استمرت هذه الفترة الطويلة.. لكنها السياسة وألاعيبها.. والقصة طويلة للغاية يصل عمرها إلى مائة عام.
لقد اعتبرت السلطة السعودية ومنذ البداية تحديد عام 1903 وهو العام الذي أنشئت فيه هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إن هذه الهيئة سلطة مثل باقي سلطات الدولة لا تقل في اختصاصاتها عن أي منها في شيء بل ربما تزيد عليها، بدأت عملها برئيسها الشيخ عبد العزيز بن عبد اللطيف آل الشيخ، وقتها كان كل المطلوب منه أن يتابع تطبيق المبادئ الوهابية وهي المبادئ التي انتشرت وزادت واحتدت بعد ذلك لتحريم كل شيء شرب الدخان وبيعه وشراءه لعب الورق والشطرنج، حلق اللحية وتقصيرها، الموسيقى والغناء ومشاهدة المسلسلات، ممارسة الرياضة بالسراويل القصيرة، العمل في البنوك، إطالة الثوب، قراءة المجلات، الرهان، المشاركة في الموالد أو الأفراح، قراءة القرآن على الميت، كل هذه وغيرها من سلوكيات الحياة العادية حرمها الوهابيون، وخرجت هيئة الأمر بالمعروف لتباشر تنفيذها وتنكل بكل من يخالفها أو يخل ببند واحد من بنودها.
عندما اتسعت الدولة السعودية في منطقتي نجد والإحساء كان من الطبيعي أن تخطط الدولة للحفاظ على مكاسبها.. فمنحت الهيئة صلاحيات مطلقة، ووضعت تحت تصرفها جميع الإمكانات التي تمكنها من أداء وظيفتها، وتحولت الهيئة التي كانت مجرد فرد واحد هو الشيخ عبد العزيز إلى هيئة جماعية رسمية لها طابع مؤسسي.. انتهز الشيخ عبد العزيز الفرصة كاملة فأنشأ عدداً من الهيئات التي أصبحت تابعة له شخصياً وأوكل إليها تنفيذ المبادئ الوهابية التي كان يطلق عليها في خلط متعمد مبادئ الشريعة الإسلامية.. رغم أن الفارق واضح وشاسع بينهما.. ومنذ هذه اللحظة واصبحت للهيئة سلطات الاعتقال والمحاكمة والعقاب للذين يقبض عليهم متلبسين بارتكاب ما ترى الهيئة أنه يدخل تحت بند المعاصي والذنوب.. وهذه من وجهة نظر رجال الهيئة لا تعد ولا تحصى.
نمو دور الهيئة وزيادة أنشطتها كان مقدمة طبيعية لينمو حجمها في المجتمع السعودي، وظهرت بالتبعية(وظيفة المطوع).. لم يكن لصاحب هذه الوظيفة مهام محددة.. لكن أسندت له مهمة تنظيم حركة الأسواق... هذا التنظيم كان يكفل له أن يمنع الاختلاط بين الرجال والنساء ويمنع التجارة من الاحتيال ويراقب تعليق الصور والتماثيل.. ومطاردة أصحاب أماكن اللهو، ومحاصرة وضبط الرجال الذين يلبسون الذهب أو الحرير.. لقد أصبح من حق المطوع أن يتدخل في كل شيء يخص حياة الناس الشخصية، للدرجة التي انتفت فيها الحياة الشخصية للمواطن السعودي... وهو ما جعل سلطات هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا تماثل سلطات الدولة نفسها.. ولكنها تزيد عليها.. لدرجة جعلت النظام الحاكم خاضعاً تماماً.. لا يستطيع أن يبرم أمراً أو يصدر قراراً إلا بعد موافقة رجال الهيئة... فرضت عليهم هذه الظروف أن يجعلوا من أنفسهم دعاة وعلماء ولهم أفكار ومنهج.. ولذلك سارعوا بإصدار كتيبات صغيرة مازالت تطبع وتوزع مجاناً حتى الآن ليس في السعودية وحدها، ولكن في جميع الدول العربية والإسلامية فالهيئة التي فرضت سيطرتها على السعودية واصبح لا صوت يعلو فوق صوتها.. أرادت أن تصل بعنفها ومعاداتها لكل الدول العربية والإسلامية.. اعتقاداً منها أن ما تفعله الصواب وتقرباً إلى الله تعالى.
هذا النمو المتصاعد لنفوذ هيئة الأمر بالمعروف.. قابلته عقوبات عديدة.. لقد استخدمتهم السلطات السعودية لتنفيذ أهدافها وتحقيق طموحاتها.. وأجزلت لهم العطاء.. لكنها وقفت أمام رجالها بقوة عندما تجاوزوا.. ووضع السعودية في حرج سياسي.. وقد تعددت المشاهد التي وقفت فيها السلطات السعودية في وجه المطوعين!
في عام 1926 كانت الهيئة خاضعة سياسياً لسلطة الأمير فيصل بن عبد العزيز حاكم منطقة الحجاز، وبحماقة رجالها تسببوا في أزمة سياسية بين مصر والسعودية كادت تعصف بالعلاقات بين البلدين، كانت مصر كل عام ومنذ عهد شجرة الدر يخرج منها الحجاج في موكب من المنشدين يسمى المحمل، اكتشف السادة المطوعون فجأة ودون سابق إنذار أن هذا المحمل يخالف الدين شكلاً وموضوعاً.. والنكتة أنهم اعتبروه صنماً ولابد من تحطيمه، ولتنفيذ ذلك دخلوا في معركة مع الحجاج المصريين سقط فيها عدد كبير من الضحايا من الجانبين، امتنعت مصر عن إرسال المحمل عشر سنوات كاملة، واضطرت السعودية لتقديم اعتذار رسمي لمصر وأرسلت وفداً على رأسه عدد من أمرائها كي تعود المياه إلى مجاريها بعد الكارثة التي جرت على يد المطوعين.
بعض اللوم فقط هو ما ناله رجال الهيئة بعد واقعة المحمل، فلم تستطع السلطات السعودية أن تغير نظامهم أو تقلل من سلطاتهم.. لكن عندما اقتربت أعمال الهيئة من النظام السعودي نفسه وأصبحت تظهر في الشارع أقوى من الملك وأقدر على أخذ القرارات وتنفيذها، كان لابد من موقف حاسم، وقفه هذه المرة الملك عبد العزيز الذي رأى أن الهيئة خرجت عن الحدود المرسومة لها سياسيا، فأصدر مرسوماً ملكياً دمجت به الهيئة مع الرقابة العامة لقوات الشرطة، وسحب الملك كل اختصاصات رجال الهيئة وتضاءل نفوذهم..كانت الرسالة التي أراد الملك عبد العزيز أن يوصلها أن الهيئة تم استخدامها سياسيا لتثبيت أركان الدولة وجعلها مهابة الجانب، ولما كانت الدولة قد استقرت فلا حاجة إذن لهذه الهيئة.. التي لابد أن تصبح خاضعة للملك خضوعاً تاماً وكاملاً.
في أواخر أيام عبد العزيز استردت الهيئة كثيراً من سلطاتها وعادت أكثر قوة وشراسة، أصبحت قناعتهم بشيء كفيلة بأن يتحقق واعتراضهم على شيء يجعل من المستحيل الاقتراب منه. في عهد الملك فيصل رفضوا بعنف دخول المستحدثات التكنولوجية إلى المملكة مثل الراديو واللاسكي وغيرها من منجزات الحضارة الحديثة..
كان ذلك في بداية الثلاثينيات... وفي الوقت نفسه رفضوا وبشدة تعليم البنات أو دخولهن المدارس.. لم يجد فيصل أمامه سوى استخدام الحيل والدهاء.. فلم يكن ليستطيع رغم أنه الملك أن يرغمهم على شيء... فحتى تدخل المملكة عصر التكنولوجيا والعلم تحايل على رجال الهيئة.. وحاول إقناعهم بالمنطق.. دعاهم طعام العشاء معه، وعندما دخلوا ووجدوا أن الملك يدعوهم للأكل على طرابيز سفرة رفضوا تاماً وأصروا على أن يأكلوا على الأرض، فالأكل على السفرة ليس من سنة النبي الذي كان يأكل وصحابته الكرام على الأرض، واستجاب فيصل لهم.. لكنه أمر بأبعاد سياراتهم وإحضار مجموعة من (النوق) ليركبها العلماء بدلاً من السيارات التي لم تكن موجودة أيام الرسول، وعندما خرج علماء الهيئة ذهلوا من تصرف فيصل.. لكنهم فهموا الرسالة.
أما فيما يتعلق بتعليم البنات.. ففي أحد الاجتماعات التي جمعت رجال الهيئة بالملك فيصل سألهم: هل هناك آية في القرآن تحرم تعليم البنات؟ لم يرد عليه أحد فليس في القرآن كله ما يقدم هذا لا المعنى مضمراً ولا مفسراً، فواصل الملك كلامه قائلاً: بما أن على كل مسلم أن يحصل العلم فنحن نفتح المدارس، ولا أحد سيمنع الأهل الراغبين في إرسال بناتهم إليها، ويمكن للآخرين أن يقرروا إبقاء بناتهم في البيت فلن نجبر أحداً على ذلك.
خرجت البنات لتتعلم في السعودية رغم أنف رجال هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتدور الأيام ليكون نفس الرجال ليس سببا فقط في حرمان البنات من التعليم، ولكن سببا في حرمان من الحياة نفسها، بدعوى حفاظهم على التعاليم الإسلامية من أن تنتهك رغم أنهم بتصرفاتهم يعرضون مبادئ الإنسانية نفسها للإهدار.
ظلت أوضاع الهيئة على حالها.. حتى وقعت حرب الخليج الثانية، وكاد أحد رجالها يتسبب في أزمة سياسية بين السعودية وقوات التحالف.. التي جاءت بدعوة من النظام السعودية وبمباركة علماء السعودية جميعاً للدفاع عن الأراضي المقدسة ضد صدام حسين الذين هضم الكويت ويستعد لالتهام السعودية، ففي الرياض دخل أمريكي أسود مع فتاة من جنود التحالف إلى أحد المحلات، وعندها شاهد أحد المطوعين هذا المشهد صرخ في صاحب المحل وقال له: هادول يدنسون المكان.. أطردهم.. حفظ المطوع التعس أن الرجل الأسود كان يجيد اللغة العربية ويفهمها جيداً.. فهم ما قاله المطوع.. فأوقفه.. وبدأ يحدثه عن الإسلام ومبادئه العظيمة في الدعوة لأحكامه التي لابد أن تكون بالحكمة والموعظة الحسنة.
مواقف عديدة عززت هذا الموقف جعلت النظام السعودي يعيد النظر في نظام هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. لقد كانت المملكة كلها معرضة للخطر.. ولم يكن النظام مستعداً لتحمل سخافات الهيئة.. التي يمكن أن تجر ورائها المتاعب.. خاصة أن بعض المطوعين كانوا يطاردون المجندات الأمريكيات السائرين في شوارع ويعتمدون إهانتهن وضربهن بالعصي على مؤخراتهن، ويبدو أن المملكة قررت من يومها أن تخفف من وطأة الهيئة على الشارع السعودي لكنها وقعت بين نارين.. فهي فعليا تحتاج إلى هذه الهيئة لأنها تساعدها وتمكنها من حكم الشارع السعودي، لكن في الوقت نفسه فهي تضعها في مأزق لابد من التخلص منه.. ظلت هذه الازدواجية تحكم النظام السعودي حتى أصبح مفروضاً عليه أن يتعامل مع رجال الهيئة لم يعد لدى النظام رفاهية الاختيار إما أن يبقى على المطوعين أو يستغنى عنهم.. المطلوب الآن ليس رغبة أمريكا وحدها.. ولكن المجتمع السعودي نفسه يريد أن يتم التخلص من هذه الهيئة التي حولت حياتهم إلى جحيم.. ونصبت من نفسها حارسا ومنتهكاً لخصوصيات الجميع من أكثر من مائة عام.
إن الورطة التي تقف على شفا حفرتها المملكة السعودية الآن لا تحسد عليها.. فلابد أن تأخذ قرارا.. ولن ينفع هذه المرة سياسة مسك العصا من المنتصف.. التي لم تجر علينا سوى المشاكل.. ولم نحصد منها سوى الأشواك.
فهرس الكتاب
مجرد ملاحظة        1
مقدمة هزلية جداً        2
نكت على فراش الحكام العرب        2
مقدمة جادة جداً        7
قرارات السيد الرئيس        7
زعماء .. وعلماء        15
عبد الناصر رؤية خاصة        15
هل كان عبد الناصر ملحداً؟        21
ضريح جمال عبد الناصر        30
أطباء وجواسيس في بيت عبد الناصر!        50
مريض استثنائي        51
لغز الدكتور المفتى        55
الجاسوس يدلك الرئيس:        57
فمن هو علي العطفي..        59
قصة الدولة الهشة        63
زملاء وعملاء        65
السادات مقام الرئيس في مصر الأسطوري        65
الجرأة على السادات؟        68
بهاء والسادات        78
الرئيس ممثلاً        85
عندما يضع الرئيس أحمر الشفاه        85
هل كان عبد الناصر ممثلاً؟        92
أمراض الرؤساء        101
ليالي فاروق في المنفى        107
سهرات الصيف الأخيرة للملكية        116
الديكتاتور في المصيدة        125
بائع البطيخ.. الذي سقط أخيراً        126
نزوات صدام العاطفية في القاهرة!        138
زوجات وعشيقات في حياة صدام        141
صدام في جيب الأمريكان        147
ذنوب الرئيس المؤمن        150
مصير العائلة المنكوبة!        152
بوش مجرم حرب        155
تركة القذافي        161
من يحكم السعودية        167
فهرس الكتاب        174
شبكة الدكتور رأفت عثمان والمحامون العرب

0 comments: