الضوء بعد أن حسم العلماء - بعد لأي - قضية محدودية سرعة الضوء، وحدّدوها بما يقل قليلاً عن ثلاثمائة ألف كيلومتر في الثانية الواحدة، طفقوا يحاولون حل أحجية أخرى، تتعلق بكيفية انتشار الضوء. ماذا عساه يكون الوسط المسئول عن انتقال الضوء؟! كان العلماء على بيّنة من أن الصوت يمكنه الانتقال عبر أوساط متباينة، فالناس في ثرثرتهم يطلقون الموجات الصوتية لتنتقل عبر الهواء - وهو غاز - والحيتان تغني لبعضها في الماء - وهو سائل - ونحن بوسعنا أن ننصت لصوت اصطكاك أسناننا المنتقل عبر وسط من العظام الصلبة ما بين الأسنان والأذنين. تجربة أوتو فون جوريك سنة 1657
وبوسع الضوء أن ينتقل بالمثل خلال الغازات والسوائل والأجسام الصلبة، كالهواء والماء والزجاج. بيد أن هناك فارقا جوهريّا بين انتقال الضوء والصوت، ذلك الفارق الذي أوضحه العالم «أوتو فون جوريك» Otto Von Guericke ضمن سلسلة من التجارب الشهيرة التي أجراها عام 1657 بمدينة ماجدبورج Magdeburg الألمانية. أفرغ فون جوريك من الهواء آنية زجاجية محتوية على ناقوس يُصدر رنينا. ومع سحب الهواء من داخل الآنية، لم يعد بمقدور الحضور سماع صليل الناقوس، وإن ظل باستطاعتهم رؤية ذراع الناقوس وهي تقرعه. كان من الواضح - تبعا لذلك - عدم إمكانية انتقال الصوت في الفراغ. وفي ذات الوقت، أظهرت التجربة أن بمقدور الضوء أن ينتقل في الفراغ (فالناقوس لم يختف، والآنية لم تُظلمْ). ومادام بوسع الضوء أن ينتقل - على غير المألوف - خلال الفراغ، فهناك شيء ما ينقل الضوء عبره. ميكلسون
شرع العلماء - حيال هذا التناقض الظّاهري - في التساؤل عما إذا كان الفراغ «خاويًا» تماما، أم أن هناك شيئا آخر متبقيا به، يمثّل الوسط الذي ينقل الضوء؟! وبحلول القرن التاسع عشر، كان الفيزيائيون قد تبنّوا فكرة أن الكون برمّته تتخلله مادة ما، أطلقوا عليها اسم «الأثير» Ether، وأنها - بكيفية ما - تؤدي دور الوسيط الذي يحمل الضوء. خلع الفيزيائيون على هذا الوسط - وفقًا لتصوراتهم - صفات فريدة. فهو مادة ضئيلة الكثافة بصورة استثنائية؛ فهي أخف من الهواء ملايين الملايين من المرات، بحيث إن ضآلة كثافتها لا تؤهلها لبذل أي مقاومة لحركة أي جسم يمرق خلالها. وهي شفافة، وخاملة من الناحية الكيميائية، وتنعدم معامل الاحتكاك بها. وهي منتشرة حولنا في كل مكان، وإن كان استشعارها من الصعوبة بمكان. وبالرغم من كل هذه العقبات، اعتقد «ألبرت ميكلسون» Albert Michelson، وهو أول أمريكي يحرز جائزة نوبل في الفيزياء، أن بمقدوره إثبات وجود الأثير. أوتو فون جوريك
كان والدا «ميكلسون» اليهوديان قد لاذا بالفرار من الاضطهاد المسلّط عليهما في بروسيا، وذلك عام 1845 عندما كان «ألبرت» يبلغ من العمر عامين فقط. وقد ترعرع في سان فرانسسكو ودرس بها، قبل أن يمضي ليلتحق بأكاديمية الولايات المتحدة البحرية، حيث تخرج - وكان ترتيبه الخامس والعشرين - ضمن رجال الأسطول البحري، وإن جاء ترتيبه الأول في مادة «ضوئيات»، مما حدا بالمشرف على الأكاديمية لأن يقول له: «لو أنك - مستقبلا - أوليت اهتماما أقل بالأمور العلمية، واهتماما أوفر بشئون المدفعية البحرية، فربما أصبحت ذا نفع لبلادك». على أية حال، فقد تحول «ميكلسون» ليصبح باحثا متفرغا في الضوئيات. وفي سنة 1878 - وهو بعد في الخامسة والعشرين - قدر سرعة الضوء بالمقدار299910 كم/الثانية، وهو الرقم الأدق عشرين مرة من كل التقديرات السابقة له. بعدئذ، صمم «ميكلسون» في عام 1880 التجربة التي كان يأمل من خلالها في إثبات وجود مادة الأثير الحاملة للضوء. كان جهازه مصمما بحيث يقسم حزمة مفردة من الضوء، إلى شعاعيْن منفصليْن متعامديْن، أحدهما يتحرك في نفس اتّجاه حركة الأرض في الفضاء، في حين يتحرك الآخر في الاتجاه العمودي عليه. كان كلا الشعاعين يذرع نفس المسافة، ثم ينعكس على سطح مرآة. ثم يعود الشعاعان فيتحدان مكوّنيْن شعاعا مفردا. وباندماج الشعاعيْن، تحدث لهما الظاهرة المعروفة «بالتداخل» Interference، التي تتيح لميكلسون أن يقارن بينهما ويتعرف على مدى التباين في زمنيْ انتقالهما.
كان ميكلسون يعرف أن الأرض تتحرك حول الشمس بسرعة خطّية تبلغ نحو 100000 كم/الساعة، وهو ما يعني - افتراضا - أنها تمرق خلال الأثير بنفس هذه السرعة. ولما كان من المفترض أن الأثير وسط ساكن يتخلل كل ما بالكون، فلابد أن يُحدث مرور الأرض به نوعا من «الرياح الأثيرية»، مثل تلك الرياح المتوهمة التي نستشعرها إذ تمرق بنا سيارة مسرعة في يوم غير ذي رياح، فليست هناك رياح حقيقية، وإنما نحن نستشعرها نتيجة تحركنا نحن. من ثم، ومادام الضوء يُحمل ويُنقل بفعل الأثير، فلابد وأن يتأثر بسرعة الرياح الأثيرية. وبتحديد أكثر، لابد أن يتحرك أحد الشعاعين الضوئييْن في تجربة ميكلسون في اتجاه رياح الأثير ثم في عكس اتجاهها، ومن ثم فلابد أن تتأثر سرعته بدرجة محسوسة، في حين أن الشعاع الآخر الذي ينتقل عموديا على الأثير سيتأثر بدرجة أقل. فإذا اختلف زمنا حركة الشعاعيْن، فبمقدور ميكلسون أن يتخذ من هذا التفاوت دليلا قويا يؤيد وجود الأثير.
بحث ميكلسون لتجربته عن أفضل مصادر للضوء، وعن أجود المرايا، واتخذ كل الاحتياطات المتاحة في تصنيع جهازه وتجميعه. وهيّأ كل شيء على أكمل وجه، فضبط منسوب الجهاز واتّجاهه، وصقل المرايا. وإمعانا في زيادة حساسية المعدات والتقليل من الخطأ إلى أدنى حدوده، جعل منظومته تطفو على سطح حوض واسع من الزئبق، بما يعزلها عن أية تأثيرات خارجية، مثل الاهتزازات الناجمة عن وقع أقدام السائرين حتى على مبعدة من جهازه. كان بيت القصيد في هذه التجربة هو إثبات وجود الأثير، ومع كل ما بذله ميكلسون من احتياطات، فقد دهش غاية الدهشة لإخفاقه المطبق في قياس أي فارق في زمنيْ وصول شعاعيْ الضوء المتعامديْن، أو تلمس أية بادرة على وجود الأثير. وفي سعيه اليائس لاستكشاف مكمن الخطأ، استعان ميكلسون بالكيميائي «إدوارد مورلي» Edward Morley، فأعادا معا تصنيع الجهاز، مُدخليْن التحسينات على كل مكوّناته بما يكفل للتجربة مزيدا من الدقة والحساسية، وأعادا القياسات مرارًا وتكرارًا. وفي خاتمة المطاف، في عام 1887، وبعد سبع سنوات من التجارب المتكررة، أذاعا نتائجهما النهائية القاطعة: ما من دليل على وجود الأثير. تقبّل العلماء تلك النتيجة على مضض، فقد كان وجود الأثير هو السبيل الوحيد الممكن تصوّره لتفسير انتقال الضوء. وحتى ميكلسون امتعض، وألفى صعوبة في تقبّل النتائج التي توصّل إليها بنفسه، إذ تفاقمت أزمة انتفاء وجود الأثير أكثر فأكثر، حيث كان من المفترض أنه أيضا المسئول - إلى جانب حمله للضوء - عن حمل كلا المجاليْن الكهربي والمغناطيسي. وهكذا أثبت ميكلسون - قبل نهاية القرن التاسع عشر - انتفاء وجود الأثير. ومن سخريات القدر أنه - وهو الذي شيد سمعته المهنية على أساس سلسلة كاملة من التجارب الناجحة في مجال الضوئيات - قد حقق فتحه العلمي الأعظم بنتائج تجربة فاشلة. وهكذا كان إخفاق تجربته، أجدى من نجاحها. فقد كان هدفه الأوحد طوال تجاربه هو إثبات وجود الأثير وليس انعدامه. وقد تقبل الفيزيائيون بعدئذ أن بوسع الضوء أن ينتقل - بكيفية ما - في الفراغ، بصرف النظر عن وجود أي وسط. لقد استلزم إنجاز ميكلسون جهازا مكلفا ذا تصميم خاص، وسنوات من الجهود المضنية. وفي ذات الوقت تقريبا، توصل إلى الخلاصة نفسها عن انعدام وجود الأثير، شاب مراهق بمفرده، دون أن يدري بفتح ميكلسون العلمي، ولكنه لم يتوصّلْ إلى ذلك عن طريق التجريب، وإنما على أساس من الأفكار النظرية المحضة. كان اسم ذلك الفتى.... ألبرت أينشتاين.
0 comments: