آخر الأخبار

17‏/6‏/2011

الاقتصاد السوري .. بين مطرقة الماضي وسندان الحاضر . دراسة .


للعلم سوريا قد سرّعت الخطوات التي قطعتها في بناء بيئة جاذبة للاستثمارات عبر التعجيل بوضع الإطار التشريعي والسياساتي لبيئة الأعمال من خلال ما عُرف بـ "ثورة المراسيم" التي تميزت بسمات "الطفرة" [تعدت خلال 2000- 2005 نحو1200 قانون ومرسوم وقرار إداري] في إطار دمج الاقتصاد السوري بسيرورات الاقتصاد العالمي، والاستجابة من طرفٍ واحدٍ لمواءمة القوانين والتشريعات الوطنية مع معايير منظمة التجارة العالمية في ظل المقيدات الأورو- أميركية "الوفاق عبر الأطلسي" لعملية انضمام سورية إلى منظومة الشراكة الأورو - متوسطية لأهدافٍ سياسيةٍ ترتبط بإرغام سورية على الانغماس في السرير الاستراتيجي الأميركي الجديد للمنطقة.

هذا وقد سيطرة سورية على مؤشر مخاطر الدولة على الاستثمارات في سورية، وبروز قوة الاقتصاد السوري خلال سنوات [2000-2005] خصوصاً، وسنوات 2007 عموماً، على الرغم من أنها كانت سنوات اضطراب جيو- بوليتيكية في العالم والإقليم رفعت مؤشر مخاطر الدولة على الاستثمارات في سورية. فقد ارتفعت وتيرة الضغوط الخارجية على سورية بعد الاحتلال الأميركي للعراق [9 نيسان/أبريل 2003]، وتبع ذلك سياسة "احتواء" سورية بالضغط والتطويق واستصدار "العقوبات الأحادية" والقرارات العقابية الدولية، ثم تحويل لبنان، جراء اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري في 14 شباط/فبراير2005، إلى منصة عمليات لإنهاء دور سورية الإقليمي، بل لمحاولة تنظيم انقلاب داخلي ضدّ الرئيس بشار الأسد بسبب مواصلته السياسة الخارجية السورية في مجال الصراع العربي- الإسرائيلي، ورفضه أداء المهمة "القذرة" بنزع سلاح حزب الله لقاء بقاء سورية عسكرياً في لبنان.

رفعت الحكومة السورية في ضوء هذه العوامل الموضوعية الخارجية والداخلية وتائر تحرير الاقتصاد السوري لالتقاط أكبر حجمٍ ممكنٍ من الفوائض المالية الخليجية والسورية المغتربة الضخمة بتأثير "الفورة المالية" بغية تحقيق رفعٍ سريعٍ لمعدّل النمو الاقتصادي. وتمكنت هذه السياسات بالفعل من تحويل سورية من دولةٍ يُحجم القطاع الخاص عن الاستثمار فيها، ومصدِّرةٍ للاستثمارات في العام 2001، إلى جاذبٍ قوي نسبياً لها في العام 2005. وقد كانت سورية في العام 2001 رابع دولةٍ عربيةٍ مصدّرةٍ للرأسمال بعد دولة الإمارات العربية المتحدة والكويت والمملكة العربية السعودية. لكنها احتلت في العام 2005، على الرغم من العوامل السياسية المتوترة في المنطقة التي رفعت من مستوى ما يطلق عليه اسم "مؤشّر مخاطر الدولة"، المرتبة الرابعة بين الدول العربية في جذب الاستثمارات العربية البينية، بسبب تسارع وتيرة تساقط بعض آثار الفوائض المالية النفطية في فضائها الاستثماري، والذي يعتبر بدوره جزءاً من تساقط هذه الآثار في الفضاءات الاستثمارية في الدول العربية. ويُعتبر العام 2005 عاماً استثنائياً بجميع المعايير في مجال حركة الاستثمارات البينية العربية. وبمقارنة الاستثمارات العربية البينية خلال العامين 2004 و2005 نجد أن هذه الحركة سجّلت زيادة في إحدى عشرة دولة عربية مستقبلة للاستثمارات، وأتت سورية إلى جانب السعودية والسودان ولبنان والمغرب في رأس الدول المستقبلة للاستثمارات العربية البينية الخاصة، إذ بلغ مجموعها خلال العام 2005 نحو 38 مليار دولار أميركي مقابل 5.9 مليارات دولار في العام 2004. وارتفعت حصة سورية فيها من 427 مليون دولار في العام 2004 إلى 1672 مليون دولار في العام 2005. ووفق مصفوفة التوزيع القطاعي لتلك الاستثمارات المرخّص لها في العام 2005 توجّهت معظم الاستثمارات البينية في سورية، والبالغة 1672 مليون دولار إلى الخدمات بالدرجة الأولى وإلى الصناعة بالدرجة الثانية . وبلغت حصة رأس المال السوري المغترب- الخليجي من المشاريع التي رخصت وفق قانون الاستثمار في العام 2005 نحو 30% من مجموع المشاريع المسجلة مقارنةً بـ 5% في العام 2004. ومن المعتقد أن قسماً منها كان الأسرع في الاستثمار الفعلي، وهو ما قد يكون ساهم بما يعادل 5% من إجمالي الناتج المحلي

غير النفطي

استرشدت سياسات التحرير السورية في مرحلة اختزال الإصلاح إلى تحرير اقتصادوي بحزمةٍ من التقارير والاستشارات الدولية والمحلية لقطف ثمار ارتفاع النمو العام في المنطقة. وفضّلت الحكومة السورية التحرير السريع على التمهيد له بالتمكين بحجّة عدم فوات القطار، إذ أنّ حزمة التمكين المؤلّفة من الإصلاحات المؤسسية والإدارية والمالية وإصلاحات الشركات الحكومية قد تحتاج إلى ما بين 8 و12 سنة لتحقّق نتائج مثمرة في إطار مؤسسي، ولذلك فإن تحقيق هذه الإصلاحات يجب أن يتم بمنظور المستقبل وليس بمنظور الحاضر ، بينما قطف الثمار في متناول اليد في ضوء مؤشرات حازمة في هذا الاتجاه.

اقترن الاندفاع إلى جذب الاستثمارات بتكوين شريحةٍ جديدةٍ من رجال الأعمال السوريين لقيادة التوسّع في مجال الخدمات الإنتاجية، ولا سيّما قطاعات السياحة والخدمات المالية والمصرفية والنّقل الجوّي وغيرها من القطاعات ذات المردودية الربحيّة السريعة، والتي شكّلت المجال الجاذب لتلك الاستثمارات الباحثة عن فرص. كانت هذه هي الموجة الثالثة الكبرى التي شهدها الاقتصاد السوري خلال العقود الأربعة الأخيرة في عملية إعادة تشكيل شرائح رجال الأعمال.

ارتبطت الموجة الأولى بالشّريحة الطبقية المؤلّفة التحالف غير "المرئي" بين النخبة البيروقراطية المرسملة المستحوذة على جهاز الدولة [ما دُعي بمصطلح غير دقيق البورجوازية البيروقراطية]، وبين رجال الأعمال العاملين في المقاولات الثانوية للقطاع العام والوسطاء مع الشركات الأجنبية [ما دُعي بمصطلح غير دقيق البورجوازية الطفيلية]. وقد حدث ذلك إبّان مرحلة النموّ السريع في سبعينيات القرن الماضي حين بلغ النموّ متوسطًا سنوياً مقداره 10،5% طيلة فترة السبعينيات.

بسبب القيود على تحويل العملة، وطبيعة النظام السياسي ذي الصبغة الريعية التوزيعية، لجأت هذه الشريحة إلى تهريب الريوع الرأسمالية التي راكمتها إلى الخارج، ليصل حجم رأس المال السوري المهرّب إلى نحو 135 مليار دولار، كان ترتيب سورية الأول خلال سبعينيات القرن المنصرم بين الدول العربية في الأموال المهرّبة إلى الخارج والتي تجاوزت في مجموعها ديون سورية كلها في ذلك الوقت . وشكّل هؤلاء المهرّبون، قوام فئة المكتومين الكبار" في منظومة فئة المكتومين العامّة [وهم من ليست له قيود لدى الدوائر الضريبية، ولا تعرف هذه الدّوائر شيئاً عنهم، أو التي تبقيهم بموجب ديناميات الفساد خارج القيود]. وكان معظم "وكلاء" الشركات الأجنبية الذين يعملون في سورية، ولا يوثّقون وكالاتهم أصولاً ينتمون إلى هذه الفئة.

وتلا ذلك تكوين شريحتين كبيرتين أخريين في الثمانينيات على خلفية الأزمة البنيوية التي كان يواجهها الاقتصاد السوري، وخلوّ خزينة الدولة من القطع النادرة، وهما شريحة "الصيارفة" بمن فيهم رجال أعمال الخدمات والتحويلات المالية الذين نشطوا في "السوق السوداء" للعملة الأجنبية، وشريحة "المهرّبين" للمواد السلعية إلى سورية ومهربو المحروقات المدعومة إلى الدول المجاورة. وكشف اصطدام حكومة الكسم في منتصف ثمانينيات القرن المنصرم بشريحة "الصيارفة" شبكة العلاقات المافيوزية التي تربط هذه الشريحة بأصحاب النفوذ والسلطة.

أمّا الموجة الثانية لعملية إعادة تكوين شريحة رجال الأعمال، فحدثت خلال سنوات الإصلاح الاقتصادوي الانتقائي الثاني في فترة 1987-1994. وتميزت هذه الشريحة من الشرائح السابقة بأن ارتفاع معدّل نموّها ارتبط بالتوسّع في الإنتاج السلعي وصادراته إلى الاتحاد السوفياتي ودول ميزان المدفوعات في إطار برنامج "المقاصة" [مبادلة الديون بصادرات سلعية سورية]، ومن ثمن قيامها بفورتها الاستثمارية خلال سنوات [1991 ـ 1994] بعد صدور قانون الاستثمار رقم 10. وقد أنعش برنامج الصادرات السورية شرائح القطاع الخاص الصناعي المحصور في المنشآت الصغيرة والمتناهية في الصغر، وأتاح للتراكم الرأسمالي لدى بعض شرائح البيروقراطية المرسملة التي كانت في بعض مواقعها في السّلطة توظف جزءاً من رؤوس أموالها في بعض الصناعات، وهو نشاط نتج منه لأوّل مرة نشوء بعض الصناعات الكبيرة والمتوسطة، وبزوغ بعض المستحدثين من رجال الأعمال الصناعيين الذين ستتميز منتجاتهم بجودتها وقدراتها التنافسية وارتفاع حجم صادراتها، وتشغيل عشرات ورشات الغزل الصغيرة والمتوسّطة في ميدان النسيج وتحويل ذلك إلى ملابسَ جاهزة. وقد شكّل هؤلاء نجوم عالم الأعمال في العشريّة الأولى من التسعينيات باستثناء البعض من روّاد هذه الشّريحة الذين سقطوا في إفلاسات نتيجة قصور الكفاءة الإدارية التي تعزى إلى الإدارة العائلية اللاعقلانية، والإنفاق غير المضبوط، وارتفاع الفوائد التي تدفعها للودائع العائلية، أو جراء الإفلاس الاحتيالي

وقد استحوذ بعض رجال الأعمال الذين ينتمون إلى تلك الشريحة في مرحلة صعودها في التسعينيات على حوض مالي هائل بالمعايير السورية ناجم عن مدخرات قسم من أبناء الفئات الوسطى، وتمثّل ذلك في اجتذاب ودائع عائلية لقاء عائد شهري غير عقلاني يصل إلى ما يتراوح بين 25% و30% بدعوى استثمارها في مشروعات يروّجون لربحيتها بحسابات وهمية تلبس لبوس الشرعنة "الإسلاموية" لتمييز الرّبح من الفائدة الربويّة. ونشطت عمليات "النصب" هذه في مجالات صناعية وتجارية صغيرة ومتوسطة، وفي المضاربة بالأراضي. ونتج من ذلك كله في سنوات 1994-1996 موجة انهيارات وإفلاسات كبرى في صفوف هؤلاء المجازفين أو "المحتالين"، وبروز ما عُرف قانونياً باسم "جامعي الأموال" الذين أنتجتهم ظاهرة رجال الأعمال المفلسين.

ترتبط الموجة الثالثة لعملية إعادة تشكيل طبقة رجال الأعمال في شريحة قيادية مستحدثة للأعمال هي شريحة رجال الأعمال الجدد، بمرحلة التحول من الإصلاح المؤسسي إلى التحرير الليبرالي الاقتصادوي في العشرية الأخيرة. وتنحدر أصول هذه الشريحة - وفق لوائح تأسيس شركتين قابضتين كبريين في سورية هما "الشام" و"السورية" - من أجيالٍ مختلفةٍ من رجال الأعمال. وتضم هذه اللائحة مزيجاً من النخب التي تنتمي "أباً عن جد" إلى عائلات تجارية وصناعية معروفة ورثت عن عائلاتها تراكماً رأسمالياً يمكّنها من الاستثمار وتنويع نشاطها ضمن "مجموعات عائلية" وبعض شرائح المقاولين والوكلاء في السبعينيات الذين كوّنوا ثرواتهم من نشاطهم المرتبط بالشريحة البيروقراطية المرسملة. غير أنّ بروز معظم نخب هذه الشريحة وصعودها يعود إلى فترة التحرير الثاني بمعناها الزمني الموسّع [1987-1996]، ولا سيما بعد الفورة الاستثمارية التي أفضى إليها قانون الاستثمار رقم 10 في فترة [1991-1994].

وتختلف عملية إعادة تشكيل فئة "رجال الأعمال الجدد" في العشرية الأخيرة عن عملية تشكيلها في الموجتين السابقتين، في أن هذه العملية قد ارتبطت بتحرير السياسات الليبرالية للمجالات التي كانت الدولة تحتكرها في قطاع الخدمات الإنتاجية، وفتحها أمام استثمار القطاع الخاص، في سياق فتح أي قطاع تحتكره الدولة، ويكون القطاع الخاص قادراً على الاستثمار فيه. وبذلك اقترنت عملية إعادة تشكيل هذه الشريحة من شرائح رجال الأعمال بارتفاع معدّل نموّ القطاعات الإنتاجية الجديدة. ويتّخذ هذا الأمر نمط الشراكة بين الدولة والشّركات القابضة الكبرى.

جذور الشركات القابضة المساهمة وسوق الأوراق المالية في التاريخ الاقتصادي السوري الحديث

إن تأسيس شركات قابضة مساهمة وسوق للأوراق المالية ليس جديداً تماماً في سورية. فلقد عرفت سورية فكرة "الشركة المساهمة" لتعبئة المدخرات وتحويلها إلى استثمار منذ العام 1909 حين كان لطفي الحفار [1885-1968]، وهو أحد أبرز رجال الحركة العربية الشامية يومئذ، أحد الرواد الذين أعادوا في أوائل فترة الانتداب الفرنسي، من موقعه في غرفة تجارة دمشق، الإلحاح عليها. وارتبط نشوء الصناعة السورية وتطورها طوال الفترة الممتدة من أوائل الثلاثينيات إلى مطالع الستينيات بتأسيس الشركات المساهمة المغفلة، وبرزت موجة تأسيس شركات صناعية وتجارية وزراعية مساهمة طوال فترة الخمسينيات. وفي مرحلة النمو الصناعي السريع الثاني في الخمسينيات إبان مرحلة الجمهورية العربية المتحدة [1958-1961] التي كانت "فردوساً" للصناعة التحويلية السورية حين أقبلت الشركات العائلية على تأسيس شركاتٍ مساهمةٍ عائليةٍ مغفلة. وقامت في هذا السياق سوق أولية للأوراق المالية تتداول أسهم الشركات وتنشر الأخبار عنها في الصحف، وتفتح أمام المدّخرين والمستثمرين خيارات استثمارية عدة. وكانت اتجاهات المودعين هي الاستثمار في الشركات الصناعية التحويلية، فبلغ عدد المساهمين في هذه الشركات عشرات الآلاف.

في هذا السياق العام من انتشار مفهوم الشركة المساهمة في النشاطات الاقتصادية السورية المختلفة ظهرت أنواع من الشركات القابضة المساهمة، كان أبرزها وأكبرها الشركة "الخماسية" [الشركة التجارية الصناعية المتحدة المساهمة المغفلة] في دمشق التي رعى الحكم الوطني بعد الاستقلال، وتحديداً شكري القوتلي، وهو أوّل رئيس للجمهورية بعد الاستقلال [1943-1949] ثم الرئيس في حقبة [1955-1958]، تأسيسها لتطوير النهضة الصناعية والتجارية السورية. وقد عملت هذه الشركة شركةً قابضة مساهمة تتملّك أسهم الشركات الأخرى، وتسيطر تبعاً لذلك على مجالس إداراتها. وقد صارت، بسبب رعاية النظام السياسي لها، أبرز الشّركات التي استفادت من دعم الدّولة المالي، ولاسيّما الحصول على العملة الأجنبية لتمويل مستوردات الغزول . وسرعان ما انخرطت هذه الشّركة في السّياسة، فتحالفت مع نظام العقيد أديب الشيشكلي [1951-1954]، وتحوّلت بعد سقوطه إلى أكبر قوةِ ضغط اقتصادية على الحكومة الجديدة، وإلى ناخبٍ كبيرٍ في الانتخابات العامّة، وحتى في انتخاب رئيس الجمهورية. لكنها تعرّضت للتأميم الكامل في أواخر عهد الجمهورية العربية المتحدة، غير أنّ سلطات الانفصال أعادت ملكيتها إلى أصحابها، ثم ما لبثت أن أعادت تأميمها مجدّداً جرّاء تركّز رأسمالها في مجموعةٍ ضيّقةٍ من المالكين، وتدخّلها القويّ في العمل السياسي وتحكّمها في اتجاهاته. أمّا مدينة حلب التي كانت في مرحلة ما بعد الاستقلال وحتّى استلام حزب البعث السلطة في 8 آذار/مارس 1963 في تنافس شديد مع دمشق، فقد تشكّل نوع غير رسمي من الشركة القابضة المساهمة عرفت محلياً بمجموعة "الحجّاج الخمسة" الذين عملوا في استحداث الشركات المساهمة، وفي تملك أصول الشركات المساهمة الأخرى في سياق احتدام الصراع بين الليبراليين التقليديين في كل من الحزبين الكبيرين: "الحزب الوطني" و"حزب الشعب"[ على تعزيز قوتهما السياسية بقوة اقتصادية. وغاب ذلك كله طيلة مرحلة [1963-1987] لتعود فكرة إعادة هيكلة الشركات الصناعية العامة في شركات مساهمة، وتأسيس شركات قابضة، وإحداث سوق للأوراق المالية وسط الاستقطاب بين "التصحيحيين" و"التحريريين" في أواخر العام 1987.

كان تأسيس صناديق استثمارية تعبئ موارد القطاع الخاص في صناديق استثمارية كبيرة، في شكل شركات قابضة، وإحداث سوق للأوراق المالية كأوعية نشطة للادخارات والاستثمارات، أحد أبرز عمليات إعادة الهيكلة الاقتصادية التي تبناها التحريريون في أوائل التسعينيات بعد صدور قانون الاستثمار رقم 10، في ضوء حقيقة أن غياب هذه الأوعية الاستثمارية كان أحد أبرز عوامل لجوء الفئات الوسطى في النصف الأول من التسعينيات لتوظيف مدخراتها لدى شريحة من أطلق عليهم اسم "جامعي الأموال". غير أنّ مقاومة "التصحيحيين" حالت دون تطويرها وتقنينها ضمن شروط تقسيم الاختصاصات التي أقرّها الرئيس الراحل حافظ الأسد [1970-2000]، بين القيادة والحكومة والأجهزة التي تتولّى الشأن الداخلي، بينما انصرف إلى مفاوضات السّلام والسّياسة الخارجية. لكن فكرة تأسيس هذه الصّناديق عادت إلى الظّهور مجدّداً في النّصف الأوّل من العشرية الماضية، حين صدر المرسوم التشريعي رقم 7 لعام 2000 وسمّاها الشركات المساهمة المغفلة القابضة، وأخضعها لشروط الشركات المساهمة. لكن هذه التسمية كانت غامضة حتى إنّ أيّ عضو من أعضاء لجنة الـ(33) التي أُلّفت لإصلاح القطاع العام الصناعي لم يكن يعرف معنى "الشركة القابضة". واستقرّت اللجنة وفق "سيناريو لعنة الفراعنة" على العودة إلى تجربة المصريين فيها، والذين كانوا قد طبقوها منذ أيار/مايو 1991 مع إبرام اتفاقية برنامج الإصلاح الاقتصادي مع صندوق النقد الدولي[. وتمّ أخيراً، بعد معرفة صيغة الشركة القابضة المساهمة، إدماجها في أحد مشاريع اللجان المكلفة بإصلاح القطاع العام الصناعي، والتي تبنت إعادة هيكلته في شركات قابضة ومساهمة أسوةً بالتجربة المصرية في هذا المجال. وبذلك تكون سورية قد تأخرت نحو عقدين من الزمان، في إعادة هيكلة الشركات الصناعية في شكل " شركات قابضة" على جدول أعمال الإصلاح الاقتصادي، وتقنين هذا الشكل والشروع في تطبيقه.

إنّ ارتفاع وتيرة إلغاء القيادات" التصحيحية" و" تقليم" نفوذها في البيروقراطية الأمنية والسياسية في النصف الأول من العشرية الماضية تَناسب طرداً مع تساقط آثار الفورة المالية الخليجية في الفضاء الاستثماري السوري، وفتح الباب على مصراعيه للسير في عملية إعادة الهيكلة وإحداث سوقٍ للأوراق المالية [بورصة]. وقد ارتفعت وتيرة تدفقات رؤوس الأموال الخليجية من 427 مليون دولار في العام 2004 إلى 1673 مليون دولار في العام 2005. لكن عملية إعادة الهيكلة "المنظمة" التي تتخطى حدود العملية التلقائية متمثلةً في توسيع دور القطاع الخاص، اقتصرت على القطاع الخاص من دون القطاع العام الصناعي الذي تُرك ليواجه مصيره المحتوم، وهو التآكل والموت بحيث يصفّي نفسه بنفسه. وشكّل تأسيس شركة سورية - قطرية قابضة برأسمال 200 مليون دولار لتعمل في نشاطاتٍ اقتصاديةٍ استثماريةٍ مختلفةٍ في سورية أحد أكبر الحوافز لإقدام رجال الأعمال السوريين على التكتل والتحالف مع تدفقات رأس المال الخليجي، وقطف ثمار ذلك، بينما تمثل حافز الحكومة في تخفيف وطأة الإنفاق الاستثماري للحكومة، وجذب الاستثمارات، وإنعاش الاقتصاد، وخلق فرص عمل جديدة.

استحداث الشركات القابضة: الشراكة بين الحكومة ورجال الأعمال الجدد

ظهرت في هذا السياق خلال العامين 2006-2007 شركاتٌ قابضة كبيرة عدة للعمل كصناديق استثماريةٍ في استحداث الأعمال وتملك أصول الشركات المساهمة المحدثة، أو التي يمكن أن يتم استحداثها. وكان من أبرزها على مستوى الحجم والنفوذ شركتا "الشام" و"سورية" القابضتان.

مثّل رامي مخلوف رئيس " صندوق المشرق" الاستثماري الذي تميز بمبادراته "دينامو" تأسيس هذه الشركات، ودفع شركات القطاع الخاص والمستثمرين فيه إلى التهيكل فيها، لإبعاد شبهة استئثاره أو استئثار حلقة ضيقة من عائلته بقطاع الأعمال على خلفية قضية شركة "سيرياتيل" للاتصالات وما أثارته من صراع كبير "صاخبٍ" بين فئات رجال الأعمال الصاعدين والنازلين. هذا من جهةٍ أولى، ومن جهة ثانية، عمل مخلوف على تعبئة الموارد الاستثمارية لكبار رجال الأعمال السوريين بالتحالف مع رأس المال الخليجي والسوري المغترب والأجنبي المقبل على الاستثمار في سورية، لتكبير "الكعكة"، وتقاسمها بشكلٍ نسبي "تصاعدي" بحسب ارتفاع نسبة المساهمة. كذلك لجأ إلى إغراء رجال الأعمال بتأسيس هذه الشركة والحصول على موافقة مسبقة لـ "صندوق المشرق الاستثماري" المرتبط به على الكثير من المشاريع " الجاهزة" للتنفيذ. ومن جهة ثالثة كان مخلوف من خلال ذلك كله يرى أنه يلبِّي أهداف الحكومة السورية في إنعاش الاقتصاد وقطْف ثمار النموّ العام في المنطقة.

كانت مصالح قسمٍ كبيرٍ من رجال الأعمال السوريين كما تُبيّن السّير الذاتية المهنية للذين انخرطوا في تأسيس هذه الشركات متحالفةً بالفعل مع رأس المال الخليجي، ومدركةً مسبقاً الفرصة "السانحة" في "اقتناص" ارتفاع معدّل النموّ في المنطقة، ووجود فوائض ماليّة ضخمة تبحث عن الاستثمار. ولهذا كانت وتيرة إقبالهم مرتفعةً على الاكتتاب في مشروع شركة "الشام القابضة". وهذا ما يفسّر أنّ الاكتتاب فاق التوقّعات، إذ بلغ الاكتتاب حتّى موعد إطلاقه الرسمي 350 مليون دولار أميركي، بينما كان الهدف جذب 200 مليون دولار فقط

وقع تنافسٌ كبير بين كبار رجال الأعمال على إدارة الشركات القابضة. وقد تطوّر التنافس في بعض الحالات إلى صراعٍ ضارٍّ تدخّلت فيه، بشكل خفيّ، قوى ضاربة في السلطة، انحاز بعضها لمصلحة مخلوف بينما وقف البعض الآخر ضدّه. وعلى مستوى التنافس، استحدث هيثم جود رئيس مجموعة "جود" في اللاّذقية شركة قابضة مستقلّة عن مشروع شركة "الشام"، وتمخّضت هذه المنافسة عن نشوء شركتين كبيرتين هما شركة "الشام" القابضة [أسّسها71 رجل أعمال برأس مال قدره مليار و350 مليون دولار أميركي]، وكان صاحبا أكبر حصّة فيها رامي مخلوف ومحمد كامل شراباتي الصناعي الحلبي الشهير، بينما ترأّسها رجل الأعمال الدمشقي السوري المغترب في النمسا محمد نبيل الكزبري. وكانت ثروة مخلوف عائلية في الأساس، لكنه تمكّن من تنميتها باستحواذه على بعض المشاريع مثل شركة الأسواق الحرة ثم شركة "سيرياتيل" لاحقاً، بالتّحالف مع رجل الأعمال المصري نجيب سويرس. وإذا ما أُخذ في الاعتبار أبناء عائلة مخلوف المساهمون في الشركة فإن هذه العائلة كمجموعة تشكّل أكبر المساهمين فيها على الإطلاق. وقد سعى رامي مخلوف لتحويل الشباب من أقربائه إلى رجال أعمال.

أمّا أبو كامل شراباتي [وهذا هو الاسم الذي اشتهر به محمد كامل شراباتي] فيتحدّر من بيئة صناعة النسيج الحلبية التقليدية التي طوّرت عملها في أواسط الثمانينيات مع تطوّر برنامج الصادرات، وكان يعمل مع حميّه [والد زوجته]، لكنه انفصل عنه بعد تطور المشاريع التي استحدثها والتي تحوّلت إلى إحدى أبرز المشاريع الكبيرة على مستوى المنطقة. أمّا الشركة الثانية فهي شركة "السورية القابضة" التي أسّستها مجموعة من رجال الأعمال عددهم 23 مساهماً برأس مال قدره 4 مليارات ليرة سورية، وبذلك ضمّت الشركتان نحو مئة مستثمر كبير ومجموعات أعمال في مجال الصناعة والتجارة والخدمات الإنتاجية، وينتمي بعضهم إلى رجال الأعمال المسيطرين على مجالس إدارات غرف التجارة والصناعة في دمشق وحلب وطرطوس واللاذقية.

قدّر رامي مخلوف كبير المساهمين في شركة "الشام" القابضة حجم نشاط مؤسسيها بـِ 60 % من النشاط الاقتصادي السوري، بينما قدّرت بعض الدراسات حجم نشاط مؤسسي "السورية القابضة" بأكثر من مليار دولار أميركي












Bookmark and Share

0 comments: